اضطراب تعدد الشخصيات: تعريفه، وأعراضه، وأسبابه، وطرق علاجه

نحن نعيش في مجتمع يحترف ثقافة الازدواجية، حيث نجدها مهيمنة على كلِّ ممارساته؛ فكم مرة صادفنا ذلك الشخص الذي يدَّعي الإيمان والتقرب إلى اللَّه، ولكنَّه يمارس أبشع الأفعال في السر؟ وكم من امرأة تظاهرت بحبِّ صديقتها، وهي لا تتمنَّى لها الخير في داخلها؟ وصفحات التواصل الاجتماعي مثالٌ صارخٌ عن الانتشار الساحق لازدواجية المعايير، حيث نجد الكثير من المشاعر المستهلَكة والمصطَنعة، والكثير من اللحظات الموثقة التي لا تمت للحقيقة بصلة؛ والتي توثق بهدف الحصول على الرضا المجتمعي والحفاظ على الإيكو المزيَّف.



لقد تربَّى معظم الأطفال في مجتمعنا على ثقافة الكبت، إلى أن أصبح من المهارة إخفاء المشاعر والمكنونات وإظهار عكسها، حتَّى تحوَّل المجتمع إلى مجتمع منافق لا يَعِي قيمة الصراحة والوضوح والشفافية، ويعدُّها نقاط ضعف، ويتبجَّح ويقول أنَّ الحياة تتطلَّب من الإنسان أن يكون متلوِّناً ومتبدِّلاً، ويرفع شعار "إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب".

الكاذبون والمنافقون مرضى نفسيون، ولكن هناك مَن تعظَّم لديهم الحال وسيطر الكبت عليهم، وعانوا وقاسوا في حياتهم إلى أن أصبحوا كالبركان الموشِك على الانفجار؛ ممَّا جعلهم يميلون إلى الانشقاق عن هويتهم الأصلية كشكل من أشكال انفجار بركانهم الداخلي، متبنِّين شخصيات جديدة بالتوازي مع شخصيتهم الأساسية كردة فعل وآلية للتعامل مع الضغوطات الهائلة التي تعرَّضوا إليها.

كم يلعب كلٌّ من أسلوب التربية وثقافة المجتمع في خلق الأمراض النفسية؟ وكم يقي استخدام تقنيات بسيطة في التربية من كلِّ هذه الأمراض النفسية؟

لقد أدى جهل الآباء وعدم قدرتهم على تحمُّل مسؤولية ما اتخذوه من قرارات في حياتهم -مثل: قرار الإنجاب- إلى كلِّ هذه المعاناة؛ لذا نحن الآن بأمسِّ الحاجة إلى تثقيف ذواتنا أكثر عن الصحة النفسية، فهي المفتاح الأساسي للنجاح على كلِّ الأصعدة.

إنَّ اضطراب تعدد الشخصيات: تعريفه، وأسبابه، وأعراضه، وعلاجه؛ هو مدار حديثنا خلال هذا المقال.

ما المقصود باضطراب تعدد الشخصيات؟

نوع من الاضطرابات الانشقاقية التي تنتج عن خلل في الوعي والذاكرة والإدراك والإحساس بالبيئة المحيطة والهوية، والتي تأخذ أشكالاً مختلفة، منها:

  1. فقدان الذاكرة: حيث يُصاب الشخص بفقدان ذاكرة مؤقت أو مستمر نتيجةً لتعرُّضه إلى صدمة معينة.
  2. الذهول: وهنا يتقمَّص الشخص شخصية أخرى، ويتعامل بها مع المحيط كردة فعل على صدمته بحلول كارثة طبيعية معينة، أو ظروف طارئة مثل الحروب. يبدي الإنسان هنا فشله في التعامل مع الظرف الموجود، فيبني دماغه آلية دفاع من خلال تقمُّصه شخصية ثانية والعيش بها.
  3. انشقاق الهوية، أو اضطراب تعدد الشخصيات: حيث ينشق الشخص عن ذاته الأصلية ويتبنَّى باللاوعي شخصيات أخرى قد يصل عددها إلى سبع شخصيات، بحيث يكون لكلِّ شخصية سماتها واهتماماتها وذكرياتها وتوجُّهاتها وطريقة تفاعلها مع المجتمع؛ أي أنَّ كلَّ شخصية قائمة بذاتها، ولا تعلم الشخصية الرئيسة عن الشخصيات الأخرى شيئاً؛ فهي غير واعية لوجودهم. يعدُّ هذا اضطراباً نادر الحدوث، وهو من أخطر الاضطرابات الانشقاقية.
  4. اضطراب الآنية: حيث يشعر الشخص بالانفصال عن المجتمع، وبمشاعر غاية في الغرابة، مثل: أن يشعر أنَّه في حلم ويريد أن يستيقظ منه، ولكنَّه غير قادر على ذلك.
  5. اضطرابات انشقاقية تحويلية: حيث يُصاب الشخص بخلل عضوي نتيجة الكبت المستمر للمشاعر السلبية، أو نتيجة لتعرُّضه إلى صدمة (ما لم يستطع التعامل معها بصورة سليمة)، ويعدُّ الخرس والعمى والشلل الهستيري شكلاً من أشكال الاضطرابات الانشقاقية التحويلية؛ فعلى سبيل المثال: قد تتعرَّض أنثى إلى عمى هستيري نتيجة لعدم تحمُّل صدمة زواجها من شخص لا تحبُّه ومجبرة عليه. 

ما أعراض اضطراب تعدد الشخصية؟

  • تظهر على الشخص قبل إصابته باضطراب تعدد الشخصيات أعراض الارتباك في الهوية، مثلاً: قد يكون مضطرباً ومشوشاً ولا يملك رؤية واضحة لتوجُّهاته فيما يخص جميع مفاصل الحياة الثقافية والمجتمعية والدينية والمهنية، فتزيد حالة الضبابية المستمرة التي يمر بها من احتمال إصابته باضطراب الهوية الانشقاقي.
  • يقوم الشخص المُصاب باضطراب تعدد الشخصيات بأفعال متناقضة بطريقة تدعو إلى الدهشة، كأن يكون معلِّماً محترماً ومهذَّباً جداً طوال فترة النهار؛ ويتحوَّل في الليل إلى شخص ذي سلوك مشبوه، كأن يرتاد أماكن السهر ويشرب الكحوليات. يكون الشخص نفسه هنا غير واعٍ لوجود الشخصية الثانية في داخله، مثلاً: قد يستيقظ ويتفاجأ بزجاجات الكحول من حوله، ولا يعرف مَن الذي أتى بها إلى بيته.   
  • يختلف هذا الاضطراب عن الأفعال التي نقوم بها عمداً وبوعي، فالمعلِّم الوقور في مدرسته وبيته، والذي يتفنَّن في عيش اللحظة، ويعشق اللعب مع أطفاله عندما يذهبون في إجازة على الشاطئ، ويرقص مع زوجته، ويغنِّي بأعلى صوته؛ هو شخص طبيعي وسوي نفسياً؛ ولكن عندما يتصرَّف بطريقة مختلفة تماماً عن شخصيته، ودون وعي منه؛ فهذا مؤشر خطر.
  • يختلف الشخص المصاب بهذا الاضطراب عن ذاك الذي يقوم بأفعال شريرة عن وعي وتصميم؛ فالشخص السيكوباتي مدرك تماماً لحجم الكوارث التي يقوم بها، ويستحق أشدَّ العقوبات على أفعاله الدنيئة.
إقرأ أيضاً: أغرب الشخصيات في علم النفس وصفاتها

ما أسباب اضطراب تعدد الشخصيات؟

1. التربية القاسية جداً:

عندما يتربَّى الطفل في كنف أبوين قاسيين، وغير حنونين، وسلبيين، ولا يحتويانه أو يقدِّمان له الحنان والدفء؛ بل يوبِّخانه على الدوام، ويتهمانه بالتقصير والإهمال، ويصفانه بأبشع الألفاظ، ويقارنان بينه وبين أطفال أقاربهما، ويسيئان معاملته جسدياً، ويعتديان عليه ويضربانه ويهينانه، ويتبعان معه أسلوب الأوامر والنواهي، بحيث أنَّه لا يستطيع التعبير عن رأيه وشخصيته؛ سينشئ هذا الطفل على الكبت، دون أن يكون لديه أيُّ وسيلة لتفريغ الضغط النفسي الكبير هذا، أو يجرؤ على التحدث والتعبير عن مشاعره؛ فيصبح عندما يكبر عرضة إلى الانشقاق عن ذاته وهويته، وتبنِّي شخصيات جديدة باللاوعي، وذلك كآلية من آليات دفاع العقل اللاواعي، ووسيلة لتفريغ الكمِّ الكبير من المشاعر والأحداث السلبية.

أي كأنَّه يرفض شخصيته الأصلية المستكينة الخاضعة التي تعرَّضت إلى شتى أنواع العذاب، ويرغب بالتمرُّد عليها، واكتساب الشخصية المعاكسة لها تماماً، مهما بلغت من السوء.  

شاهد بالفيديو: 5 أشياء لن ينساها طفلك عنك أبداً.

2. الصعوبات التي تعرَّض إليها الطفل في أثناء مرحلة الطفولة:

يؤدي تعرُّض الطفل إلى صعوبات شديدة في أثناء طفولته -قبل عمر التاسعة- مثل: التحرش الجنسي، أو الاعتداءات الجسدية العنيفة، أو الإهمال العاطفي الشديد؛ إلى زيادة احتمال إصابته باضطراب تعدد الشخصيات؛ فهو قد تعرَّض إلى صدمات عنيفة لم يستطيع التعامل معها بتاتاً، فكبتها في أعماقه، وخزَّن كلَّ ما عاناه في اللاشعور حتَّى فاض، وأصبح بحاجة إلى تفريغ الحمولات الثقيلة، ووجد في اضطراب الهوية الانشقاقي ضالته.

إقرأ أيضاً: أهم الإرشادات لنسيان التجارب المؤلمة التي عشتها في الماضي

3. التخيل المفرط:

نحن نتخيَّل كلُّنا، فالخيال قوة عظيمة لم يستطع الكثيرون الوصول إلى أهدافهم لولاها؛ ولكن عندما يكون استخدام الخيال بشكل مفرط، بحيث يصبح الشخص وكأنَّه في عالم آخر، وينفصل عن المجتمع تماماً؛ يصبح حالة مرضية، وقد يُصاب صاحبه باضطراب تعدد الشخصيات.

ما علاج اضطراب تعدد الشخصيات؟

  • يكمن علاج الاضطرابات الانشقاقية في العلاج النفسي الكلاسيكي، بحيث يخضع المريض إلى جلسات مطولة للغوص في أحداث الماضي القاسية، وفي التجارب السلبية التي تعرَّض إليها الشخص، بالإضافة إلى الخوض في تصوراته عن الحياة والعائلة والأطفال؛ فقد يملك مفهوماً مشوهاً عن مفاصل الحياة، ويحتاج إلى علاج معرفي سلوكي.
  • تستهدف الخطوة الأولى من العلاج توضيح المشكلة للمريض؛ فهو لا يعاني من سحر أو شعوذة كما يخبره به المجتمع، بل يعاني من مرض نفسي له أسبابه، ويحتاج إلى مد يد العون له ومساعدته، بهدف إيصاله إلى مرحلة الاستبصار بوضعه؛ أي أن يصبح واعياً لميكانيكية المرض.
  • يعدُّ العلاج البيئي فرعاً أساسياً في العلاج النفسي من هذا الاضطراب، وعلى المحيط هنا تقديم المساعدة للشخص المريض والعمل على إبعاده عن أيِّ ضغط نفسي محتمل.
  • على المعالج النفسي أن يعالج الأمراض النفسية المُصاحبة لاضطراب تعدد الشخصيات، مثل: القلق، والخوف، والاكتئاب، وغيرها.

الخلاصة:

تحتاج مسألة وقاية أولادكم من كلِّ الأمراض النفسية إلى قرار جاد منكم، ونية صادقة، وسعي وبحث دؤوب؛ فليس أمامكم من خيار إلَّا إغراق أطفالكم بالحب الحقيقي، والرعاية الناضجة، واحترام مشاعرهم ومساحتهم وحريتهم ورغباتهم، والثقة بإمكانياتهم وتميزهم وقدراتهم.

استمتعوا بتربية أطفالكم، وامنحوهم ما يلزم من طاقة ووقت ووعي ودفء.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة