اتخاذ القرارات بدافع الخوف

سيطر الخوف من الجائحة على العالم لأكثر من عام كامل، وما يزال الوضع قائماً، وهناك توقعات لصدور مزيدٍ من التحذيرات عن سلالات جديدة من الفيروس المُعدية والفتاكة؛ لذا تحثُّنا التغطية الإعلامية المستمرة لأعداد الحالات وعدد الوفيات على البقاء على اطِّلاع على ما يجري، وعدم المخاطرة بحياتنا.



الهدف من تقديم المعلومات المستمر هذا هو إنقاذ الأرواح؛ لكنَّ التكلفة كانت عالية؛ إذ نتج عن هذه الفترة الماضية من العيش في حالة تأهُّب قصوى ارتفاعاً حاداً في حالات الانتحار، ومشكلات الصحة النفسية والوفيات بسبب تعاطي جرعات زائدة من المخدرات والعنف المنزلي.

تُظهر الأبحاث أنَّ رسائل الخوف يمكن أن تؤثر في السلوك العام فتضر بالناس. وفي مقال نشرته مجلة "هيلث آند بيهيفور" (Health and Behavior) عام 2020، يشير الباحثون إلى دراسات عدة تُظهر أنَّ الحملات الإعلانية عن الصحة العامة التي تبعث على الخوف، يمكن أن تحفِّز سلوك الإنكار وردود الفعل العنيفة والتجنب والدفاع والوصم والاكتئاب والقلق والمجازفة والشعور بفقدان السيطرة.

كتب الباحثون: "حملات الخوف، التي تستعمِل أيضاً تكتيكات التخويف، تُستعمَل على نطاق واسع لتشجيع السلوكات الوقائية الموصى بها؛ لكنَّنا وجدنا أنَّ النتائج السلبية غير المقصودة لهذه الحملات تزيد من حدة الجائحة المعقدة بالفعل، والجهود المبذولة لاحتوائها".

الخوف شعور مروِّع؛ لكنَّ لذلك سبباً وجيهاً؛ إذ تدفعنا آلية البقاء هذه إلى التصرف عندما نواجه مواقف تُهدد الحياة، لكن لسوء الحظ، يمكن ألا يكون هذا الشعور في محله الصحيح أحياناً. من المعروف أنَّ الخوف يشوِّه نظرتنا إلى الواقع، فتبدو التهديدات أخطر ممَّا هي عليه، وهذا يجبرنا على العيش تحت ضغط هائل بسبب التفكير في أسوأ سيناريو دائماً.

ولكن وفقاً للمؤلف "براندون لاغريكا" (Brandon LaGreca) مؤلف كتاب "السرطان والإجهاد وطريقة التفكير: تركيز الذهن لتمكين الشفاء والمرونة" (Cancer, Stress and Mindset: Focusing the Mind to Empower Healing and Resilience)، إنَّ المشكلة ليست الشعور بقدر ما هي رد فعلك عليه.

ويعتقد "براندون" أنَّ صحة النصائح التي تخطر لنا عند شعورنا بالخوف تعتمد على حُسن تعاملنا معه؛ أي يمكن أن يكون الخوف مصدراً للنصائح الجيدة أو السيئة.

يقول "لاغريكا": "يتعلق الأمر بتقييم خوفنا، وتحديد ما إذا كان له مبرر أم لا، ثم التفكير فيما يمكننا فعله حياله". لفهم الطبيعة المزدوجة الغريبة لهذه المشاعر الغريزية فهماً أفضل، يقسم "لاغريكا" مشاعر الخوف إلى فئتين أساسيتين: فورية ومحدقة؛ إحداهما لا يمكننا السيطرة عليها، والأخرى نتحكم بها إلى حد كبير.

المخاوف الفورية هي تلك التي تراودنا فجأة وتدفعنا إلى اتخاذ إجراءات فورية. يشرح "لاغريكا": "لنفترض أنَّ السائق في السيارة التي أمامك ضغط على المكابح فجأة، حينها يجب أن يستجيب جسدك دون تفكير، وهذا ما ينقذ حياتك، فتضغط على المكابح أو تنحرف، وتفعل ما يجب القيام به في ذلك الظرف".

قارن هذا بالمخاوف المحدقة، على سبيل المثال: تلقِّي جواباً بالرفض والهجر والموت والخلافات الاجتماعية والاضطرابات السياسية والخوف من المجهول، يمكن لهذه المخاوف أن تلقي بثقلها علينا لأسابيع أو شهور أو لمعظم حياتنا، وتهدد مستقبلنا، وتجبرنا المخاوف المحدقة على توخِّي الحذر طوال الوقت، وقد تبدو بالنسبة إلى الأشخاص من حولنا تافهة وغير مبررة؛ لكنَّنا لا ننفك نعاني منها.

تختلف استجاباتنا للمخاوف الفورية والمحدقة من الناحية الكيميائية الحيوية، وحسب "لاغريكا" عند مواجهة خوف فوري، تضخ الغدد الكظرية هرمونات الأدرينالين والنورإبينفرين، فتعطيك دفعة سريعة من الطاقة والتركيز للتعامل مع الموقف، وعندما يزول الخطر تتلاشى "استجابة الكر أو الفر" (fight-or-flight)، وتعود هرمونات التوتر إلى مستواها الطبيعي.

الهرمون الذي يساعدنا مساعدة أساسية على التعامل مع الخوف المحدق هو هرمون الكورتيزول؛ لكنَّ طبيعة مشاعر الخوف المحدقة تعني أنَّ مستوياته مرتفعة دائماً، ويمكن أن يؤدي ارتفاع مستوى الكورتيزول المزمن إلى أضرار نفسية وجسدية.

بالإضافة إلى التعامل مع الضغوطات النفسية، ينظم الكورتيزول سكر الدم وهو ضروري لعلاج الالتهابات؛ لكنَّ الجسم مصمم ليعطي الأولوية للتهديدات والمخاطر حتى لو تأثرت الوظائف الأخرى سلباً.

لذا، حين يشعر الشخص بالقلق دوماً يرتفع مستوى الكورتيزول لديه؛ ونتيجة لذلك يخزِّن الدهون بسهولة أكبر ويواجه صعوبة في خسارتها، كما تتضرر وظائفه المناعية وتكون نسبة السكر في دمه خارجة عن الحدود الطبيعية، ويعاني الجسم بأكمله.

يقول "لاغريكا": "نحن نتسبب في إصابة أنفسنا بالمرض عند ارتفاع مستوى الكورتيزول في جسمنا دائماً؛ وبالنتيجة نعاني من الالتهابات، كما أنَّ الكورتيزول يؤذي الأمعاء؛ لذا يسبب ارتفاعه المزمن ضرراً طويل الأمد في الجسم".

للخوف وظيفة هامة، لكن يجب أن تكون قادراً على تهدئته في مرحلة ما، والخروج من استجابة الكر أو الفر لتترك لنفسك مجالاً للراحة والهضم، وهي حالة الهدوء الصحية على الأمد الطويل.

يمكنك أن تلاحظ هذا الانتقال من حالة إلى أخرى في الطبيعة، على سبيل المثال: سترى الأرنب يهرب من الثعلب وبعد قليل يمضغ الأعشاب، لكن يميل البشر إلى اجترار الماضي والقلق بشأن المستقبل، وهذا يزيد من مخاوفنا وتوترنا؛ لذا تبقى مستويات الكورتيزول مرتفعة.

هذه الدفعة من الأدرينالين بوصفها رد فعل للخوف الفوري مصممة لحمايتك من الأذى؛ ولكنَّ الخوف المحدق سيؤدي إلى المرض إذا لم نتمكَّن من إيجاد حل لارتفاع الكورتيزول المزمن. من المثبَت أنَّ العيش لفترة طويلة في حالة من الخوف الدائم يُضعِف جهاز المناعة، ويُعطِّل عملية الهضم، ويُسرِّع الشيخوخة بسبب العملية الالتهابية التي ترافق الأمراض المزمنة.

المرض المزمن هو عدو الطب الحديث، فهو بطيء وغالباً يكون غير ملحوظ، وعادة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنمط الحياة والتوتر، بينما المرض العادي أو الإصابة الجسدية تكون موضعية، وغالباً يكون لها أسباب وعلاجات فورية، مثل فتح الشريان المسدود أو خياطة الجرح.

يقول "لاغريكا": "نحن بارعون في التعامل مع المشكلات الفورية، هكذا نجا بها جنسنا البشري، وفي حالة المشكلات المزمنة طويلة الأمد، هي ما يجب أن أركز عليها حقاً، خاصة حين أعمل مع مرضى السرطان؛ ولكنَّها تنطبق أيضاً على الأشخاص الذين يخافون من جائحة "كوفيد-19". يستمر المرض المزمن لوقت طويل، ولا يمكن علاجه بسهولة بالأدوية أو الجراحة، وعادة يكون مرتبطاً بنمط الحياة الذي أنشأناه منذ فترة طويلة".

إقرأ أيضاً: كيف تسيطر على نوبات الذعر؟

تحديد سبب الخوف:

من المُغري الهروب من الخوف، وفي حالة بعض المخاوف الفورية قد يكون الفرار هو الخيار الأفضل، ولكن في حالة المخاوف المحدقة، فمن الأفضل اختيار مواجهتها على تجنبها، ويبدأ ذلك بفهم الخوف الذي تشعر به، ومن المفيد جداً مشاركته مع الآخرين.

يقول "لاغريكا": "فكر في مريض السرطان، إذا كتم كل مشاعره، فسيكون ذلك أسوأ بأضعاف؛ لذا عوضاً عن أن يفكر "هذا تشخيص مروع، أخشى أن أموت"، يُعبِّر المريض عما يشعر به، ويخبر عائلته أو معالجيه. افعل كل ما يلزم، لتتمكن من التحدث عن خوفك وعدم السماح له بالتحكم بك".

إذا لم تفعل أي شيء للتعبير عن خوفك، فقد لا تدرك أنَّه موجود، وقد تشعر بأنَّ هناك شعوراً ما تحاول دائماً تجنبه. تقول "جامي كاردر" (Jami Carder) الممرضة وكوتش التعافي من الصدمات، إنَّها كانت في الأربعينيات من عمرها عندما أدركت لأول مرة أنَّ الخوف قد تحكم تقريباً بكل قرار اتخذَته، وعندما قررت تقبُّل مخاوفها، تغيَّرت حياتها كلها.

تقول "كاردر": "كانت كل مرة أواجه فيها شيئاً مخيفاً، فرصة لأكون شُجاعة"، فعندما نظرت بتعمق إلى مخاوفها، وجدت أنَّها جميعها تشير إلى سبب واحد، وهو أنَّها كانت خائفة من الرفض، لكن عندما بدأت بمواجهة هذه المشاعر وتجاوز خوفها، شعرت أنَّها أصبحت أقوى.

وتتابع "كاردر": "معظم الوقت، لم تحدث الأشياء التي كنت أخشى حدوثها، لكن في بعض الأحيان رُفِضتُ أو تخلى عني الناس، وشعرتُ بالاستياء، لكن بعد أن واجهت الرفض وتلقيتُه مرات كافية أشعر الآن أنَّني لا أُقهَر".

بالطبع، لن تكتسب هذا الشعور بالقوة بين عشية وضحاها، ولكن، كما يرى "لاغريكا"، حتى أولئك الذين لم يكونوا أقوياء بما يكفي لمواجهة مخاوفهم، ما يزال في إمكانهم تعلُّم تقبُّله والشعور براحة أكبر مع وجوده.

يقول "لاغريكا": "لا يمكننا بالضرورة إيقاف استجابة الخوف هذه، لكن يمكننا التخفيف من حدَّتها بأساليب مثل تمرينات التنفس بعمق والتأمل، التي يمكن لها بالتأكيد تغيير حالتك الذهنية بحيث لا تستجيب للضغوطات من حولك بالحدة نفسها، ويمكنك اكتساب المرونة من خلال القيام بذلك".

الثقة بحدسك:

قد يكون الخوف مزعجاً، وحتى مؤلماً؛ لكنَّه ألم يجب أن نصغي إليه ونفهم مصدره، فمحاولة تجاهُل خوفك ستؤذيك أكثر، تقول مدربة الأسلحة النارية "سيندي فروست" (Cindy Frost) إنَّ استعمال الخوف بوصفه محفزاً أنقذ حياتها مرات لا تُحصى.

وتصف حادثة عندما كانت ضابطة شرطة شابة، كانت تبحث عن رجل هدَّد امرأة بعنف في وقت سابق من تلك الليلة، ولكن عندما وجدت المشتبه به في الشارع، فكرت فيما إذا كان ينبغي أن تطلب الدعم.

تقول "فروست": "رأيت رجلاً ضخماً بطول مترين، يرتدي قميصاً يطابق مواصفات المشتبه به يسير في الشارع، شعرت بالخوف أكثر وأكثر كلما لاحظت التفاصيل التي أكدت أنَّ هذا هو الجاني".

كانت "فروست" تعاملت سابقاً مع العديد من المكالمات ومخالفات المرور دون مساعدة خلال جولتها الليلية في العمل؛ لكنَّها كانت تعرف شعور الخوف جيداً، وأدركت أنَّها في وضع لا تستطيع فيه التعامل معه وحدها، قالت "فروست": "منحنا الله ردود الفعل هذه؛ لذا أصغِ إليها وعُدَّها بمنزلة توجيه، واستجب وفقاً لذلك".

إقرأ أيضاً: هل يجب أن نثق بشعورنا الغريزي عند اتخاذ القرارات؟

التركيز على شيء مختلف:

هنالك فارق واضح بين فهم مخاوفك والسماح لها بالسيطرة عليك؛ فالأول يحفِّزك والآخر مجرد عبء، قالت "فروست": "القلق والتوتر هما نتيجة السماح لتلك المشاعر الغريزية بالتغلغل في تفكيرك"، فالهدف ليس تعطيل آلية البقاء هذه، ولكن أن تدرك سببها والتحلي بالشجاعة للتعامل معها، عدا عن ذلك فأنت تستسلم للخوف.

بالنسبة إلى "إيفي روزنبلوم" (Evey Rosenbloom) مصممة الأزياء وكوتش السعادة، كان الخوف الذي يراودها وتسمح له بالسيطرة عليها هو خوفها من حدوث شيء سيئ لعائلتها، وبدأت تشعر به عندما اندلع حريق هائل وحدث إطلاق نار في حيِّها؛ إذ أصبحت تقلق باستمرار بشأن سلامة أطفالها بعد تلك الأحداث، وتقول إنَّها كانت في حالة كر أو فر مستمرة.

شعرت "روزنبلوم" بهذا الهوس يدمِّر نفسيتها وجسدها؛ لكنَّها لم تستطع التوقف، فقضت ساعات في البحث عن كيفية منع جرائم العنف، وراقبت جميع التهديدات المحتملة التي قد يواجهها مجتمعها، ولكن خلال هذا الوقت استمرت صحتها في التدهور.

تقول "روزنبلوم": "كلما قرأت أكثر عن هذه الموضوعات، زاد قلقي، حتى أثَّر فيَّ جسدياً، وفجأة بدأتُ أعاني من نوبات دوخة استمرت لشهور، شخَّص الأطباء حالتي بالصداع النصفي الدهليزي، وعندما أخبروني أنَّه لا يوجد علاج، شعرتُ أنَّ حياتي انتهت، حزنتُ جداً، وتمنيت لو أستطيع منح أطفالي حياة سعيدة".

انتشلَت "روزنبلوم" أخيراً من حلقة الخوف التي لا نهاية لها هذه ابنتُها البالغة من العمر 4 سنوات، حين وجدتها تبكي وقالت لها: "أمي، يمكنك أن تختاري أن تكوني سعيدة"، ومنذ تلك اللحظة، حوَّلت "روزنبلوم" محطَّ تركيزها من الحرائق والعنف إلى الفرح، وابتعدت عن كل شيء يوتِّرها، بدءاً من الأخبار، وملأت الفراغ بالموسيقى المُبهجة.

وتقول: "كانت السرعة التي تمكَّنتُ فيها من العودة إلى طبيعتي بمجرد أن تمكَّنتُ من إدراك سبب قلقي والتخلص منه، وتغيير طريقة تفكيري إلى الإيجابية أمراً لا تُصدَّق، وكان من الرائع أن أقرر أنَّني لن أسمح لمخاوفي أن تمنعني من الاستمتاع بالحياة، عوضاً عن ذلك، كانت أولويتي هي إحاطة أولادي ببيئة إيجابية".

شاهد بالفديو: 8 طرق لتدريب العقل على التحلي بمزيدٍ من الإيجابية

الخوف هو آلية وقائية فطرية، ولكن من المعروف أنَّ قوى أخرى تتلاعب بنا عبر تحفيز رد فعلنا التلقائي الراسخ فينا، مثل حملات جذب الرأي العام التي تشتهر بالتلاعب بالمشاعر لتحقيق مكاسب سياسية، وتوجيه الناس لاتخاذ قراراتهم بدافع الخوف وليس المنطق.

يمكن لأولئك الشجعان بما يكفي لفهم ردود الفعل اللاواعية الناجمة عن الشعور بالتهديد والخوف المحدق، أن يتحكموا بها عوضاً عن السماح لها بالتحكم بهم.

يوصي "لاغريكا" بالتركيز على الإيجابيات والامتنان ويقول: "خذ، على سبيل المثال، العام الماضي حيث لم نكن نعرف ما إذا كنا سنحصل على ما يكفي من الطعام في ظل انتشار الجائحة، هذا هو الوقت الذي يجب أن تسأل فيه نفسك: "ماذا لدي؟ وما الذي يمكنني أن أكون ممتناً لامتلاكه؟ ومَن هم الأشخاص في مجتمعي الذين يدعمونَني الآن؟". اعتمد على كل تلك الجوانب الإيجابية في حياتك التي يمكنك الاستفادة منها".

يعتمد بقاؤنا على قدرتنا على الاستجابة للتهديدات التي تواجهنا، ولكن يجب أيضاً أن نلاحظ الدعم المتاح لنا؛ فإذا كان خوفك يبدو لك على أنَّه مرض، فحاول عوضاً عن ذلك التفكير فيه على أنَّه معلِّم، وأصغِ إلى الدروس التي يقدِّمها لك.

يقول "لاغريكا": "ما هي المشكلات في حياتك؟ وكيف يمكنك استعمالها على أنَّها محفز لتصبح شخصاً أقوى بعد مواجهتها؟ التعافي هو أن تصبح شخصاً مختلفاً تماماً بعد تخطِّي كل ما مررتَ به".

المصدر




مقالات مرتبطة