أهمية الثقة

لقد سمعنا جميعاً قصصاً عن أشخاص - غالباً أصدقاء أو أحباء - تلقوا مكالمات مخادعة عبر الهاتف، يدَّعي فيها المتصل بأنَّه موظف حكومي يطلب المال أو معلومات الهوية. وكذلك يُمثل الإنترنت في حد ذاته بؤرة الخداع؛ إذ تظهر الإعلانات فجأة على الشاشة في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، وتعرض علينا صفقات تبدو رائعة لدرجة يصعب تصديقها.



نحن نعيش في عصر الخداع، فعندما يخذلنا الآخرون كثيراً، فإنَّنا نَعُدُّ ذلك أمراً مُسلَّماً به، كما تعد الشركات بأنَّ منتجاتها ستغير حياتنا؛ ولكنَّها لا تفعل شيئاً، على سبيل المثال: البرغر الذي تقدِّمه محلات الوجبات السريعة لا يبدو مثل الصورة الموجودة في القائمة.

لا عجب أنَّ الناس لا يمنحون ثقتهم بالسهولة التي اعتادوا عليها، فوفقاً لتقرير صدر عام 2019 يقيس ثقة الناس منذ خمسينيات القرن الماضي، ذكر 17% فقط من الأمريكيين اليوم أنَّهم يستطيعون الوثوق بالمسؤولين المنتخبين. يثق 3% منهم بأنَّ المسؤولين يفعلون ما هو مناسب دائماً، بينما يثق 14% منهم بأنَّ المسؤولين يفعلون ما هو مناسب في معظم الوقت.

بمقارنة ذلك مع تاريخ بدء الدراسة في عام 1958، ذكر 75% من الأمريكيين آنذاك أنَّهم يثقون بأنَّ الحكومة الفيدرالية تفعل ما هو مناسب دائماً، أو في معظم الوقت.

لقد تراجعت ثقتنا بكل شيء بدءاً من الأطباء، وتُجَّار التجزئة، إلى شركات صناعة الأدوية؛ وهذا الأمر يؤثر سلباً في صحتنا وسلامتنا، فلا يمكنك رؤية الثقة أو لمسها أو تذوقها، ولكن يمكنك بالتأكيد الشعور بوجودها أو عدم وجودها.

إنَّ الإحساس بالثقة يحيك نسيج المجتمع، والشك والخيانة يفككانه، فنحن نتقرَّب من الأصدقاء الموثوقين، ونبتعد عن الأشخاص الذين نعتقد أنَّهم غير جديرين بالثقة، كما أنَّنا نعتمد على إحساسنا بالثقة لتحديد الأشخاص الموثوقين والصادقين والصريحين، الذين يمكننا الاعتماد عليهم دون الحاجة إلى التشكيك باستمرار في دوافعهم أو التحقيق في كل عبارة يقولونها.

إنَّ الثقة تجعل الحياة سهلةً، وتجعلنا قادرين على تحمُّلها، ولكن ماذا يحدث عندما نفقد روابط الثقة؟ تشير الأبحاث إلى أنَّ هذا الأمر مزعجاً، ومدمراً أيضاً.

تبدأ الثقة منذ الولادة:

لماذا نمتلك مثل هذه المشاعر القوية تجاه الثقة؟ يقول الدكتور "بيتر بريغين" (Dr. Peter Breggin) المؤلف والطبيب النفسي: "إنَّ الثقة جزء من هويتنا بصفتنا بشراً، وهي كذلك منذ البداية، فما يجعل البشر مميزين هو الثقة وتبادُل العواطف والتعاون".

في بحث نُشِرَ له مؤخراً في "مجلة أمريكان سايكولوجيكال أسوسييشن جورنال" (American Psychological Association Journal)، أوضح "بريغين" أنَّ حاجتنا إلى الثقة تبدأ منذ الولادة، على عكس الحيوانات التي يمكن أن تواجه العالم بعد فترة وجيزة من خروجها من رحم أمهاتها، أما البشر يولدون ضعفاء جداً وعاجزين، فنحن نحتاج إلى سنوات من الرعاية قبل أن نتمكن من التصرف وحدنا.

يقول "بريغين": "توجد ألفة واتكالية متأصلة في البشر، فالإنسان يكبر ولديه حاجة كبيرة إلى الشعور بأنَّه يستحق الحب، كما يمتلك حاجة كبيرة إلى الثقة بالآخرين".

تخلق تجربة الثقة مع الوالدين نمطاً يؤدي دوراً أساسياً لاحقاً في الحياة، فقد ترعرعنا على الثقة بالآخرين، التي تشمل الأشخاص في مناصب السلطة، مثل السياسيين، وهذا أمر خطير.

لأنَّنا نُقدِّر الثقة تقديراً عالياً، فإنَّ الخداع يمكن أن يكون مدمراً لنا، يقول "بريغين": "هذا ما يدمرنا، فنحن نعود إلى عجز الطفولة، الأمر الذي يوقعنا دائماً في مشكلات".

إنَّ الثقة ضرورية جداً لصحتنا النفسية لدرجة أنَّ الدكتور "بريغين" يعتقد أنَّ الخيانة قد تكون سبباً للأمراض النفسية، فإذا سألت أيَّ شخص تعرَّض للكذب أو الظلم من قبل شخص يثق به بشدة، فسيخبرك بأنَّ التجربة ستجعلك مكتئباً وقلقاً، وتبدأ بالتشكيك بالواقع والشك بنفسك. قد تظهر البارانويا - أو ما يسمى بـ جنون الارتياب - بوضوح، أما الذهان، فقد يكون أحد الأعراض.

"سواء كان اضطراباً ثنائي القطب أم انفصاماً في الشخصية، ما يحدث حقاً إذا تحدثت إلى شخص يهلوس أو مستلقياً في السرير طوال اليوم، هو أنَّه يشعر بأنَّه لا يمكنه الوثوق بأيِّ شيء في العالم، وبأنَّه غير محبوب أبداً".

إنَّ الأدوية المضادة للذهان هي العلاج المعتاد للحالات الصعبة؛ لكنَّ "بريغين" يعتقد أنَّ الأدوية تقف في طريق هدفه الرئيس المتمثل في بناء الثقة؛ إذ يبدأ علاجه بوعد لم يسمع به معظم مرضاه، فيطلب منهم أن يخبروه بأيِّ أمر يريدونه ولن يخدرهم أبداً أو يجبرهم على دخول المستشفى رغماً عنهم.

يقول "بريغين": "أنا لا أصنع المعجزات، ولكن في كثير من الأحيان في منتصف النقاش، أقول: "هل تعلم أنَّك توقفت عن الهلوسة، وتوقفت عن الشعور بالخوف"، ويقول المريض: "هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالراحة منذ شهر"، وسأقول: "هذا لأنَّك تثق بي، ونحن نتناقش بصدق، وإذا كنَّا قادرين على الحفاظ على هذه العلاقة، فستنمو وستتحسن".

الثقة الزائدة:

بسبب الألم الذي ينتج عند انتهاك ثقتك، قد تدفعك تجربة سيئة واحدة إلى عدم الثقة بالجميع كردِّ فعل للحفاظ على الذات؛ لكنَّ "بريغين" يحذِّر من أنَّ العيش دون ثقة لا يجعلك شخصاً موضوعياً؛ وإنَّما يجعلك تشعر بالريبة والخوف.

نحن نثق بطبيعتنا، ولكن لأنَّنا نعيش في عالم مخادع، يجب علينا أن نكون حريصين على عدم منح ثقتنا العمياء لأيِّ شخص انتهازي.

توضِّح "لينيل روس" (Lynell Ross)، مديرة شركة تعليم إلكترونية أنَّها تعلَّمت هذا الدرس بصعوبة. قبل بضع سنوات، كانت "روس" تساعد أختها في مرحلة عصيبة من حياتها؛ لكنَّها وجدت أنَّ مساعدتها تؤدي إلى مزيد من التوتر.

شاهد: 7 حيل عقلية تعزز ثقتك بنفسك

تقول "روس": "لقد أصبحت أختي أكثر غضباً منِّي؛ لكنَّها لم تكن صادقةً بشأن توضيح السبب، وقد بقيتُ أساعدها في تنظيف منزلها، وبيع المواد، والبحث عن بيت صغير لتعيش فيه، وفي وقت لاحق، اكتشفت أنَّها تريد الانتقال للعيش معي ومع زوجي؛ لكنَّها لم تسألنا سؤالاً مباشراً مطلقاً".

لقد كان الوضع محزناً للغاية لدرجة أنَّ الأمر انتهى بها في غرفة الطوارئ معتقدةً أنَّها كانت تعاني من نوبة قلبية، التي تُعَدُّ تجربةً شائعةً للأشخاص الذين أصيبوا بنوبة هلع. لم يعثر طبيب القلب على أيَّة مشكلة صحية؛ لذا حاولت "روس" مراقبة مشاعرها، وقالت: "لقد كنت أثق كثيراً، وأحتاج إلى تعلُّم الدرس للتوقف عن دعمها، وتركها تتحمل عواقب سلوكها".

بالنسبة إلى "روس"، تمثِّل تصرفات أختها شكلاً من أشكال التلاعب والاستغلال؛ إذ إنَّ تأدية دور الضحية واستعمال الإحساس بالذنب لكسب الاهتمام هي أفعال يمكن أن تُضعف الثقة بين شخصين، فقد لا يكون الشخص الذي يستغِلُّ على علم بما يفعله، ولكن حتى هذا النوع من الخداع يمكن أن يدمِّر العلاقة.

تغيُّر الظروف:

نحن نريد أن نثق بالآخرين، ونرغب في التواصل الذي يساعدنا على بناء الثقة، ولكن نظراً لأنَّ الثقة هي قضية حساسة؛ فقد نشعر بالخيانة حتى عندما لا يضرنا الطرف الآخر.

يشير "أليكس مونتاجو" (Alex Montagu)، وهو محامٍ في "نيويورك" ومعلم تأمل معتمد، إلى أنَّ هذا الشعور بالارتباك قد يجعلنا نتسرع في وصف الآخرين بأنَّهم غير جديرين بالثقة.

يقول "مونتاجو": "بصفتي محامياً، رأيت عدداً لا بأس به من نزاعات الشراكة، فقد يثق الشركاء ببعضهم بعضاً لأول مرة، ويعتقدون أنَّ الأمر يستحق الثقة، ثم فجأةً يحدث الخلاف؛ وذلك بسبب تغيُّر الظروف أو بسبب توقعات في غير محلها فيما يتعلق بالنتيجة أو المهارة أو الأداء".

نصيحة "مونتاجو" لتجنُّب التوقعات الخائبة في كل من الشؤون الشخصية والمهنية أنَّه يجب توضيح الشروط مقدماً؛ إذ يمكن أن يساعدنا التواصل الواضح على تجنُّب الافتراضات والتوقعات التي يمكن أن تجعل المرء يشعربالخداع .

إقرأ أيضاً: طرق مهارات التواصل بالعين

انهيار الثقة العامة:

يساعد التواصل والوضوح على بناء الثقة، بينما يؤدي التكتم والخداع إلى انهيارها، ولكن عندما لا تكون التفاصيل واضحة، فإنَّنا نعتمد على الخبرة والغريزة لإرشادنا إلى الأشخاص الذين يمكننا الوثوق بهم.

لسوء الحظ، هذا الإحساس محدود بقدرتنا على قراءة الإشارات، وبعض الأشخاص بارعون جداً في تزييف هذه الإشارات، كما يمكن لابتسامة دافئة ووجه جميل أن يكسب قلوبنا وثقتنا. يمكن لمثل هذه الأساليب أن تُضلِّل شعورنا الغريزي الذي يكشف الكذب والخداع.

تحاول الشخصيات السياسية الاستفادة من هذا الأمر، وقد صُمِّمت الدعايات لجذب ثقة الجمهور بتقديم وعود مبهرة، مع إخفاء العيوب التي من شأنها أن تمنحنا صورةً أوضح، كما يمكن أيضاً استعمال أسلوب إلقاء اللوم على الآخرين والخوف لصرف انتباهنا عن الصورة الأكبر والتفكير في الأمور ملياً، فيجب أن تكون معرفتنا أفضل، لكن في كثير من الأحيان نحن لا نعرف.

نحن مُكيَّفون على الثقة بالشخصيات السياسية أكثر ممَّا قد ندرك؛ إذ يؤكد "بريغين" أنَّه لأمر مؤكد في علم النفس أنَّنا نمنح الآخرين السلطة كما كنَّا نمنحها للآباء ومقدمي الرعاية عندما كنَّا صغاراً؛ فهي عملية تنشأ معنا من مرحلة اتكالنا المبكر على الآخرين، فيجب أن ندرك بوعي أنَّ الآخرين ليسوا مثل أهالينا".

بينما نعلِّم أطفالنا أن يكونوا حذرين من الغرباء، قد نقع نحن أنفسنا في هذا الأمر دون أن ندرك ذلك، فعندما نفقد مشاعر الثقة تجاه شخصيات السلطة، يكون ذلك أمراً هاماً ويصعب استعادته.

لقد دمَّر العام الماضي ثقتنا بالسلطات أكثر ممَّا شهدناه منذ عقود؛ إذ يكشف مقياس "إيدلمان ترست بارومتر" (Edelman Trust Barometer) لعام 2021 أنَّ جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية التي رافقَتها، بالإضافة إلى الاحتجاج العالمي على العنصرية، وعدم الاستقرار السياسي، قد أدَّت جميعها إلى انتشار معلومات مضللة، وانعدام الثقة على نطاق واسع بالمؤسسات والقادة في جميع أنحاء العالم.

كما تلقَّت وسائل الإعلام التي أدت دوراً في فقدان الثقة، بالإضافة إلى تحيزها السلبي الذي لا ينتهي، ضربةً كبيرةً في الثقة، وخلال القرن الماضي، أصبح اعتمادنا على وسائل الإعلام الرئيسة بوصفها مصدراً موثوقاً للمعلومات الموثوقة قوياً ومريحاً.

لكنَّ تقرير "إيدلمان" يُظهِر أنَّ هذه العلاقة تنهار، كما وُجِدَ أنَّ 56% من الأمريكيين يتفقون مع العبارة القائلة إنَّ "الصحفيين والمراسلين يحاولون تضليل الناس عن عمد، من خلال قول أشياء يعرفون أنَّها كاذبة أو مبالغ فيها"، وأنَّ 58% يعتقدون أنَّ معظم وكالات الأنباء مهتمة بدعم مبدأ أو موقف سياسي أكثر من اهتمامها بتنوير الجمهور".

عندما أعاد مقياس "إيدلمان" الاستطلاع على الأمريكيين بعد انتخابات 2020، لوحظ بأنَّ الأرقام قد تدهورت أكثر.

يترافق فقدان الثقة هذا مع عواقب وخيمة، فقط فكِّر ما الذي يعنيه العيش في عالم لا تثق فيه بالأشخاص والمؤسسات التي لها سلطة على جوانب هامة من حياتك، ولهذا السبب، لا عجب أنَّ الاكتئاب والقلق قد ارتفعت نسبتهما في السنوات الأخيرة.

إقرأ أيضاً: 7 خطوات هامة تكسبك الثقة في النفس

ونظراً لأنَّ للثقة تأثير عميق في صحتنا وسلامتنا، فإنَّ نصيحة "بريغين" تقتضي أن نمنح قليلاً من ثقتنا لخبير أو شخص في السلطة، وكثيراً منها للأشخاص المقربين منَّا. يمكن أن تمنحنا العلاقات القوية القائمة على الثقة مع الأشخاص الذين نتفاعل معهم إحساساً أعمق بالأمان في عالم غير مستقر.

يقول "بريغين": "أحد الأمور التي يمكننا القيام بها هو تذكير أنفسنا بأنَّنا نؤمن بالله وبمحبته لنا، ويمكننا ملاحظة تلك المحبة في حياتنا، كما توجد طريقة مساعدة أخرى، وهي الحفاظ على العلاقات الشخصية القائمة على الثقة والمحبة".

قد يكون من المريح وجود شخص يمكنك الاعتماد عليه؛ لكنَّ "بريغين" يحذِّرنا من أن نكون حذرين من الأشخاص الذين نثق بهم؛ ذلك لأنَّ هذه الرابطة شيء مقدس وحميمي.

هذا لا يعني أنَّنا يجب أن نشعر بالخوف والشك؛ وإنَّما يجب أن نكون واعين للسلطات والمؤسسات والأشخاص الذين نثق بهم، وغالباً تكون الثقة أمراً فطرياً، ولكن يجب اكتسابها أيضاً والتحقق منها.

المصدر.




مقالات مرتبطة