وفق تجربة أجرتها شركة "مايكروسوفت" في اليابان في عام 2019، ارتفعت إنتاجية الموظفين بنسبة 40% عند تطبيق أسبوع العمل من 4 أيام. بينما أظهرت تجارب بريطانية مشابهة تحسّناً في الرضا الوظيفي وانخفاضاً في معدلات الغياب. دفعت هذه النتائج عديداً من المؤسسات إلى التساؤل التالي: هل يعني تقليص ساعات العمل فعلاً العمل بذكاء أعلى؟ أم أنّ النجاح في تلك التجارب مرتبط بعوامل ثقافية وتنظيمية لا يمكن تعميمها عالميا؟
نحلّل الأدلة، في مقالنا هذا، ونستعرض الحجة المقابلة، ثم نفكّكها للوصول إلى الحقيقة حول مستقبل أسبوع العمل القصير ومدى قدرته على إعادة تعريف مفهوم الكفاءة في بيئة العمل الحديثة.
عندما يصبح العمل أقل... هل نصبح أكثر إنتاجية؟
"أظهرت تجارب أسبوع العمل من 4 أيام أنّه يمكن لتقليص أيام العمل أن يزيد الإنتاجية بنسبة تتراوح بين 15% و25%، مع تحسين رفاهية الموظفين".
شهد العالم خلال السنوات الأخيرة تحولاً باتجاه أنظمة العمل المرنة؛ إذ بدأت الشركات تتبنى نماذج جديدة، مثل أسبوع العمل من 4 أيام، بهدف تعزيز رفاهية الموظف وتحقيق التوازن بين الحياة والعمل. وأصبح هذا التوجه ظاهرةً عالميةً مدفوعةً بفهم أعمق للعلاقة بين الراحة النفسية والتحفيز والإنتاجية.
تقوم الفكرة الجوهرية على أنّ تقليص ساعات العمل لا يعني بالضرورة إنجازاً أقل، بل قد يتيح للموظفين العمل بذكاء أكبر من خلال تركيز الجهد وتحسين إدارة الوقت. وقد أشار تقرير جامعة كامبريدج (2023) إلى أنّ 92% من الشركات البريطانية التي طبقت أسبوع العمل من 4 أيام قررت الاستمرار به بعد انتهاء التجربة بفضل تحسن الأداء العام وزيادة الرضا الوظيفي.
لقد أعادت هذه التجارب صياغة مفهوم الكفاءة في بيئة العمل الحديثة. فبدلاً من ربط الإنتاجية بعدد الساعات، أصبحت تُقاس اليوم بجودة النتائج ومستوى الإبداع والمشاركة. ومن خلال توفير مزيد من الوقت للراحة والحياة الشخصية، أظهر الموظفون قدرةً أعلى على التركيز، ومرونةً أكبر في حل المشكلات، وانخراطاً أعمق في مهامهم اليومية. وهكذا، يبدو أنّ مستقبل العمل يتجه نحو نموذج يوازن بين الإنتاجية المستدامة والرفاه الإنساني؛ إذ يصبح العمل الأقل مدخلاً لنتائج أفضل.

الأرقام لا تكذب: نتائج حقيقية من تجارب عالمية
"في التجارب العملية، أدى أسبوع العمل من 4 أيام إلى ارتفاع الرضا الوظيفي بنسبة 71% وانخفاض الإرهاق بنسبة 39%".
أظهر تطبيق أسبوع العمل من 4 أيام في تجارب ميدانية مختلفة، تحولات واضحة في مؤشرات رفاه الموظف وأداء المؤسسات. ففي بريطانيا، أُجريت هذه التجربة في عام (2022)، وشملت ما يزيد على 60 شركة وقُرابة 2900 موظف ضمن مشروع (UK Four-Day Week Pilot)، واستمرت لستة أشهر. وخلُصت بالنتائج اللافتة التالية:
- أفاد قُرابة 71% من الموظفين بانخفاض معنوياتهم المرتبطة بالاحتراق الوظيفي وأنّهم أصبحوا يشعرون بتحسن أعلى في الرضا الوظيفي
- شعر 39% منهم بانخفاض في الإرهاق والتعب النفسي مقارنةً ببداية التجربة.
وكان الأهم أنّ الشركات معظمها أفادت بأنّ الإنتاجية لم تتأثر سلباً، بل تحسنت في كثير من الحالات، ما دفع 92% من الشركات إلى الاستمرار بتطبيق النظام بعد انتهاء التجربة.
لا يقتصر هذا التأثير على بريطانيا فقط، ففي تجربة أيسلندا التي أُجريت بين عاميّ 2015 و2019، انخفضت ساعات العمل إلى نحو 35-36 ساعةً أسبوعياً دون تقليل الأجور، وشملت ما يزيد على 2,500 موظف، فلاحظ الباحثون تحسناً كبيراً في توازن الحياة والعمل، وتحسّناً في مستوى الصحة النفسية، وإضافةً إلى الحدّ من الإرهاق، بينما ظلّت الإنتاجية ثابتةً أو ارتفعت في كثير من مواقع العمل.
وعلى نطاق أوسع، أكّد تقرير (Autonomy & 4 Day Week Global) لعام 2023، أنّ 9 من كل 10 شركات حول العالم لاحظت تحسناً في أداء فرقها بعد تطبيق أسبوع العمل القصير، مما يدعم فكرة أنّ العمل الأقل يمكن أن يقود إلى نتائج أفضل.
من جهة المؤسسات، كشفت بيانات تقرير (Autonomy & 4 Day Week Global) لعام 2023، أنّ 9 من كل 10 شركات (أي نحو 90%) التي طبّقت نموذج أسبوع العمل من 4 أيام لاحظت تحسّناً في أداء فرق العمل بعد التجربة، لتثبت فكرة أنّ “العمل أقل” يمكن أن يُترجم إلى “عمل أذكى”.
تُظهر هذه الأرقام كيف أنّ تجربتيّ مرونة العمل وتوازن الحياة والعمل تجاوزتا الكلمات الطنّانة، لتصبح مؤشرات قابلة للقياس؛ إذ تحسّنان رفاه الموظف، وترفعان الولاء للمنظمة، وتقللان الإرهاق، وهذه كلها عوامل ترتبط مباشرة بزيادة الإنتاجية. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ خلف كل تجربة سياقها التنظيمي والثقافي والهيكلي، مما يثير السؤال التالي: هل يمكن تعميم هذه النتائج في كل القطاعات والدول؟

الأصوات المعارضة: ضغط الوقت وصعوبة التطبيق
"ينتقد البعض أسبوع العمل من 4 أيام، بسبب ضغط المهام وتحديات التنسيق في القطاعات التي تتطلب حضوراً دائماً".
تُثار اليوم مخاوف حقيقية بين أصحاب الأعمال ومديري الموارد البشرية بشأن تطبيق أسبوع العمل من 4 أيام، رغم الإشادة الواسعة بفوائده على رفاهية الموظف وتوازن الحياة والعمل. يرى المعارضون أنّ تقليص ساعات العمل لا يعني بالضرورة تحسيناً في إنتاجية الموظفين، بل قد يؤدي إلى ضغط أكبر في إنجاز المهام اليومية، خاصة في الشركات التي تتطلب استجابة فورية أو خدمة عملاء متواصلة. ففي هذه الحالات، يُخشى أن يتحول "العمل الأقل" إلى "ضغط أكثر"؛ بالتالي، زيادةٌ في التوتر وحدّاً من جودة الأداء.
كما تواجه بعض القطاعات، مثل قطاع الخدمات الصحية، والضيافة، والتعليم، صعوبةً في تطبيق النظام دون التأثير على استمرارية العمل أو رضا العملاء. وتجدر الإشارة أيضاً إلى مشكلة التنسيق بين الفرق المختلفة داخل المؤسسات؛ إذ قد يؤدي اختلاف أيام الإجازة إلى تعطيل التواصل بين الإدارات أو بطء في اتخاذ القرارات.
ووفقاً لاستطلاع (Forbes Workplace Study)، يرى 33% من المديرين أنّ نظام الأسبوع القصير غير مناسب للصناعات التي تعتمد على خدمة العملاء المستمرة، الأمر الذي يظهر وجود تحديات حقيقية أمام التعميم الكامل لهذا النموذج عالمياً.
شاهد بالفيديو: 7 نصائح عن الإنتاجية ستساعدك في استثمار ساعات العمل خلال الأسبوع
التجربة تثبت العكس: العمل الذكي لا الطويل
"مكّن اعتماد العمل الذكي وإدارة الأولويات الشركات من الحفاظ على الكفاءة رغم تقليص أيام العمل".
رغم المخاوف التي يثيرها البعض حول صعوبة تطبيق أسبوع العمل من 4 أيام، إلا أنّ التجارب الواقعية تُظهر أنّ التحديات يمكن تجاوزها من خلال العمل بذكاء، لا بعدد الساعات. فقد لجأت الشركات التي تبنّت النظام إلى أدوات إدارة الوقت والإنتاجية، مثل (Asana) و(OKRs)، وذلك لتحديد الأولويات، وتتبع الأداء بدقة، وتقليل الوقت المهدور في المهام الجانبية. كما أُعيدت هيكلة الاجتماعات الداخلية لتكون أقصر وأكثر فاعلية، مع إلغاء الاجتماعات المتكررة التي لا تضيف قيمة مباشرة لنتائج الفريق. وبهذا الأسلوب، تمكنت المؤسسات من الحفاظ على مستوى عالٍ من إنتاجية الموظفين دون الحاجة إلى تمديد ساعات العمل.
لا يتوقف الأمر عند ذلك، فهناك شركات حققت نتائج مبهرة بعد اعتمادها هذا النموذج. فعلى سبيل المثال، أظهر تقرير شركة (Microsoft Japan) لعام 2022 أنّ تطبيق أسبوع العمل من 4 أيام، أدى إلى زيادة الإنتاجية بنسبة 40%، إلى جانب انخفاض استهلاك الطاقة بنسبة 23%. وقد ساهم هذا النظام أيضاً في تعزيز رفاهية الموظف وتحسين توازن الحياة والعمل، مما انعكس إيجاباً على الولاء المؤسسي والاستقرار الوظيفي.
تؤكد هذه النتائج أنّ النجاح في تطبيق أسبوع العمل القصير لا يعتمد على طول ساعات العمل، بل على كفاءة إدارة الوقت، ومرونة بيئة العمل، واستخدام التكنولوجيا لتبسيط العمليات وتعزيز الأداء الجماعي.

المقياس الحقيقي ليس الوقت... بل النتائج
"يتّجه المستقبل نحو العمل القائم على النتائج لا الوقت؛ إذ يصبح الأداء مرادفاً للذكاء التنظيمي لا طول الحضور".
يتضح، في نهاية المطاف، أنّ المقياس الحقيقي للإنتاجية ليس عدد الساعات التي نقضيها في العمل، بل حجم النتائج التي نحققها. فقد أثبتت التجارب أنّ تقليص ساعات العمل لا يعني بالضرورة انخفاض الأداء، بل قد يفتح الباب أمام بيئة أكثر تركيزاً وابتكاراً. ومع التوجه العالمي نحو أنظمة العمل المرنة، تظهر الحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم الكفاءة بحيث يُقاس بما يُنجز فعلاً، لا بما يُستنزف من وقت.
وتشير تحليلات (Harvard Business Review)، في هذا السياق، إلى أنّ الشركات التي تتبنى مرونة زمنية في العمل تشهد ارتفاعاً في الولاء الوظيفي بنسبة 15%، وهو دليل على أنّ الموظف الذي يُمنح الثقة والمساحة لإدارة وقته يُقدّم أداءً أكثر استدامة وجودة. لذا، يتّجه مستقبل العمل نحو النماذج الموازِنة بين رفاهية الموظف وإنتاجية المؤسسة، لا بين الحضور والانصراف.
يُعد مقالنا هذا دعوةً للشركات إلى تجربة أسبوع العمل من 4 أيام بإشراف علمي وتقييم موضوعي، ليس فقط لاختبار جدواه الاقتصادية، بل لاكتشاف نموذج عمل جديد يضع الإنسان في قلب المعادلة الإنتاجية.
الأسئلة الشائعة
1. ما هي أبرز نتائج تجربة أسبوع العمل من 4 أيام؟
أظهرت التجارب ارتفاع الإنتاجية وانخفاض الإرهاق وتحسّن الرضا الوظيفي والتوازن بين الحياة والعمل.
2. هل يقلل أسبوع العمل من 4 أيام من الإنتاجية؟
لا، بل زادت الإنتاجية في أغلب التجارب بفضل التركيز الأعلى وتقليل المهام غير الضرورية والاجتماعات الطويلة.
3. ما القطاعات الأنسب لتطبيق النظام؟
القطاعات الإدارية، والتقنية، والإبداعية، والتعليمية هي الأنسب، بينما تواجه القطاعات الخدمية تحديات بسبب الحاجة للتواجد المستمر.
4. كيف يمكن إدارة الوقت بفعالية في النظام القصير؟
باستخدام أدوات تنظيم العمل، مثل (Asana) و(OKRs)، وإعادة هيكلة الاجتماعات، وتحديد أولويات المهام بوضوح.
5. هل تبنّت دول هذا النموذج رسمياً؟
نعم؛ تبنّت أيسلندا، وبريطانيا، واليابان النموذج جزئياً، بعد نجاح التجارب وارتفاع مؤشرات الإنتاجية ورفاهية الموظفين.
في الختام
يُعد أسبوع العمل من 4 أيام نموذج عمل ذكي يعيد تعريف الإنتاجية والكفاءة. كما أثبتت التجارب العالمية أنّ تقليل الوقت لا يقلل الأداء، بل يعزز رضا الموظفين، وتوازن الحياة والعمل، وولاء الفرق، مع الحفاظ على مستوى مرتفع من الإنتاجية. يعتمد نجاح هذا النموذج على إدارة الوقت بفعالية، واستخدام التكنولوجيا، وإعادة هيكلة العمليات الداخلية بما يتناسب مع طبيعة كل قطاع.
إذا كانت شركتكم تبحث عن طرائق لتعزيز رفاهية الموظف وتحسين الأداء المؤسسي، فقد حان الوقت لتجربة نموذج أسبوع العمل من 4 أيام على نحوٍ علمي ومدروس، مع مراقبة النتائج وتحليلها لضمان تحقيق أقصى استفادة لكل من الموظفين والمؤسسة. ابدؤوا اليوم في إعادة تصميم بيئة العمل لمستقبل أكثر إنتاجيةً ورضا.
أضف تعليقاً