صدرت دراسة بريطانية رفيعة المستوى في شهر فبراير/ شباط من عام 2023، وقد أُجريت في كلية "بوسطن" (Boston College) في جامعة "كامبريدج" (University of Cambridge) بالتعاون مع غيرها من المؤسسات التعليمية، وقد وثَّقت تقريباً نتائج 3 آلاف مشاركاً في الدراسة لتحديد التأثيرات المُحتملة للعمل 4 أيام في الأسبوع، وشاركت 61 شركة في هذه الدراسة التي استمرت حتى منتصف عام 2022، ومنها عدد متنوع من الشركات والمؤسسات الناشطة في مختلف المجالات في تحديد كيفية الانتقال إلى أسلوب العمل لمدة 4 أيام في الأسبوع.
لقد أكَّد الباحثون أنَّ الأسلوب يُعدُّ واضحاً النجاح، وستتابع 56 شركة من أصل 61 العمل وفق الجدول الزمني الجديد حتى بعد انتهاء الدراسة، إضافة إلى التزام 18 شركة قبل هذه الدراسة بتطبيق هذا التغيير دوماً.
الاستنتاج الأساسي هو أنَّه وفي عالم يصبح فيه الاحتراق الوظيفي واحداً من أكبر الهواجس، فقد تحسَّنت صحة الموظفين الذين طبَّقوا جدول العمل هذا، وقد اختبر 71% منهم انخفاضاً في مستوى الاحتراق الوظيفي في نهاية الدراسة، إضافة إلى انخفاض في مستويات التوتر لدى 39% من الموظفين المشاركين، كما أفاد الموظفون بتحسُّن جودة نومهم، وانخفاض مستوى القلق، وتحسُّن في صحتهم النفسية والجسدية بشكل عام، وقد تمكَّن أكثر من نصفهم أخيراً من تحقيق التوازن بين الحياة الشخصية والعمل، وهو الأمر الذي يبدو بالنسبة إلى معظمنا حلماً بعيد المنال.
الجدير بالذكر أنَّ جميع المشاركين تمكَّنوا من التعامل بشكل أفضل مع المسؤوليات المنزلية بشكل احترافي، والأهم من كل ما سبق أنَّ لا شيء من هذه الفوائد كان على حساب أرباح الشركات النهائية مقارنةً بالفترات الزمنية المشابهة إلى الفترة التي أُجريت فيها الدراسة في السنوات السابقة، بل إنَّ الشركات أفادت بتحسُّن في عوائدها بنسبة 35% عند تطبيق أسلوب العمل 4 أيام في الأسبوع بدلاً من أسلوب العمل 5 أيام.
إليكم ما يجب أخذه بالحسبان بالنسبة إلى الموظفين وأرباب العمل عند التفكير في تطبيق هذا الأسلوب في العمل.
4 نصائح لتطبيق نظام 4 أيام عمل في الأسبوع:
أهم 4 نصائح مستمدة من الدراسة وتجربة رواد أعمال طبَّقوا هذا الجدول الزمني قبل ظهور الجائحة:
1. استخدم هذا الأسلوب لإنشاء نهج عمل يلائم خصوصية مشروعك:
لم تفرض الدراسة نهجاً واحداً على الشركات المشاركة في الدراسة، وذلك لسبب وجيه؛ ولذلك كان يجب على الشركات المشاركة أن تصمم وتبتكر حلولاً تلائم الوضع والصعوبات الخاصة بها من أجل النجاح في تطبيق هذا النهج بشكل دائم، لذا ساعدت "أماندا كارلسون فيليبس" (Amanda Carlson-Phillips) كبيرة مسؤولي قسم ابتكار الأداء في شركة "إيكزوز" (Exos) على تطوير ما يُسمى "شيفرة ثقافة الاستعداد"، وهي نظام يقدِّم المشورة للشركات من الناحية الثقافية عن كيفية تطبيق أسلوب العمل 4 أيام في الأسبوع، وبدأت شركة "إيكزوز" أيضاً بتطبيق هذا الجدول الزمني (العمل لمدة 4 أيام) في شهر أيار/ مايو من عام 2023 بوصفه جزءاً من برنامج بحثي تدريبي، وجنباً إلى جنب مع أبحاث أخرى تجريها كلية "وارتون" (Wharton School) للأعمال.
لا يتعلق الأمر بتجربة الانتقال فوراً إلى جدول عمل مريح من خلال العمل لمدة 4 أيام فقط في الأسبوع، بل توضِّح "فيليبس" أنَّ التحوُّل التدريجي بحد ذاته؛ هو فرصة للموظف والشركة على حدٍ سواء، وتقول: "يجب مثلاً، بالنسبة إلى الرياضيين تجنُّب الإفراط في التدريب، وإنشاء استراتيجية تساعدهم على الاستعداد لأهم منافساتهم الرياضية أو المباريات الهامة.
يمكن القول إنَّ المفهوم المقابل للإفراط في التدريب بالنسبة إلى الرياضيين هو الاحتراق الوظيفي بالنسبة إلى الموظفين في الشركات؛ لذلك حان الوقت للتريث ومحاولة التوصل إلى طريقة نساعد من خلالها الموظفين على التفكير في نهج العمل الذين يطبِّقونه يومياً، وأسبوعياً، وعلى مدار العام مع الأخذ بالحسبان أعباء الإدارة التي يتطلع بها المديرون؛ باختصار يجب أن يكون هدفنا هو التأكد من قدرة الموظفين على التعامل مع مسؤوليات وظائفهم".
توضِّح "أماندا" أنَّ الهدف من نهج العمل 4 أيام بدلاً من 5 أو 6 أيام في الأسبوع هو تعزيز قدرة الموظف، وتخفيف الأعباء عنه، ومساعدته على الوصول إلى مستوىً أعلى من الأداء يكون أكثر استدامة.
شاهد بالفديو: 7 استراتيجيات للتعافي من إرهاق العمل
2. امنح الموظفين الخيار بين أسلوب العمل الجديد والقديم مع بعض التعديلات:
جربت مالكتا صالون لتصفيف الشعر "كينا إيمان" (Kenna Ehman) و"لورين كونيجو" (Lauren Kunijo) أسلوب العمل لمدة 4 أيام في صالونهما "كينا كونيجو" ومقره في مدينة "شارلوت" (Charlotte) بولاية "نورث كارولينا" (North Carolina) قبل فترة طويلة من ظهور هذا الاتجاه في الشركات الأمريكية بسبب الجائحة.
أدركت كل من "كينا ولورين" أنَّهما إذا لم تواكِبا التغييرات التي تطرأ على احتياجات الموظفين، فقد تخسران جميع العاملين في الصالون، وتقول "كينا": "يجب علينا أن نواكب التغييرات وإلا سيفشل مشروعنا، ويحقق الموظفون النجاح في بيئات العمل التي تراعي متطلبات فصل العمل عن الحياة المهنية، وتمكِّنهم من إنجاز مهام عملهم خلال عدد أقل من الأيام".
لذلك بدأت "كينا ولورين" بإجراء هذا التعديل على جدول عمل الموظفين في عام 2019 من خلال منح الموظفين خيار العمل لمدة 4 أيام في الأسبوع مع وجود مناوبة واحدة طويلة والعمل لمدة 6 ساعات في الأيام الثلاثة الباقية، أو العمل لمدة 5 أيام في الأسبوع مع ساعات عمل موزعة على هذه الأيام الخمسة.
تقول "كينجو": "اختار الموظفون بالإجماع العمل لمدة 4 أيام في الأسبوع، وقد كان المبرر وراء هذا الخيار بديهياً، فهم أرادوا مزيداً من أيام العطَل خلال الأسبوع، والقدرة على قضاء مزيد من الإجازات، وذلك يسمح لهم بممارسة مزيد من التجارب الممتعة، أو الحصول على قسط أكبر من النوم أو الراحة".
كان على "كينا ولورين" الخروج عن بعض القواعد المألوفة في مجال صناعة التجميل من أجل إنجاح التجربة، فلن يعمل نفس مصفف الشعر على تقديم الخدمات للعملاء في كل مرة، ولكن سيكون لديهم دائماً مصفف شعر مُتاح؛ إذ تقول "كونيجو": "لم يكن التعديل الذي أجريناه على جداول العمل مألوفاً، فيحصل الموظف الذي يعمل في تصفيف الشعر على عطلة لمدة 3 أيام في الأسبوع بشكل طبيعي دون احتساب الإجازات، إضافة إلى أنَّ الموظف لا يتضرر راتبه على الرغم من حصوله على عطلة لمدة 3 أيام ولـ 3 مرات في الشهر، وعطلة لمدة 4 أيام ولمرة واحدة في الشهر".
قد يحتاج أرباب العمل الذين يرغبون بتجربة هذا الجدول الزمني إلى التفكير بالمعايير التي يجب أو يمكن الخروج عليها من أجل تحقيق ما تسميه "كينا ولورين" بمضاعفة سعادة الموظفين ورفع روحهم المعنوية بمقدار 3 أضعاف.
3. ضع في حسبانك أنَّ مسؤولية التنظيم تقع على عاتقك وليس على عاتق الموظفين:
يقع عبء تنظيم الجداول الزمنية الأكثر تعقيداً على عاتق رب العمل، وليس الموظفين، وتقول "كونيجو": "كان الأمر مناطاً بنا أكثر من الموظفين، فوجب علينا التعامل مع الجداول الزمنية المتعددة، والتنسيق بينها لإنجاح الأمر، ولكنَّنا كنا نعلم أنَّنا سننجح في نهاية المطاف".
يشرف "آرون ميتزغر" (Aron Metzger) مؤسِّس شركة "جينيِس ديجيتال ماركيتينغ" (Genius Digital Marketing) ومقرها "كولفيل" (Colleyville) في ولاية "تكساس" (Texas) على فريق مؤلف من 10 موظفين يتحولون تدريجياً لتطبيق أسلوب العمل لمدة 4 أيام، ويقول: "قرأتُ كثيراً عن هذا الموضوع، وتساعدنا التكنولوجيا الحالية على تسريع وتيرة العمل أكثر من أي وقت مضى، وأعتقد أنَّ العمل لمدة 5 أيام في الأسبوع بمعدل 8 ساعات في اليوم قد أصبح اتجاهاً عفى عليه الزمن".
يوضِّح "ميتزغر" أنَّ وكالة التسويق التي أسَّسها بدأت بالتحوُّل إلى أسلوب العمل لمدة 4 أيام في الأسبوع ابتداءً من شهر شباط/ فبراير من عام 2023، وذلك من خلال إضافة يوم جمعة إلى العطلة خلال الشهر، ومن ثمَّ إضافة يومي جمعة إلى العطلة خلال الشهر، ويضيف "ميتزغر": "بصراحة استطاع موظفونا أن يتكيفوا مع هذا التعديل بشكل أسرع، وأنا متأكد أنَّهم يرغبون بذلك، ولكن احتجنا ولأسباب لها علاقة بأهداف شركتنا، أن نجري بعض التعديلات على منهجيتنا، وغالباً ما نرسل آخر المستجدات للموظفين يوم الجمعة عبر البريد الإلكتروني، ونتيح الفرصة خلاله للاجتماعات الطارئة، إضافة إلى تخصيص هذا اليوم للمشاريع العالقة؛ لذلك نعمل الآن على تكثيف هذه الإجراءات بحيث تنتهي قبل يوم الجمعة، ولكنَّني أعتقد أنَّ العامل الأكثر أهميةً هو أنَّنا نتبنى هذا الجدول الزمني الجديد تدريجياً؛ لأنَّ بيئات العمل في الولايات المتحدة الأمريكية (USA) ليست مستعدة بَعد لهذا التغيير".
4. ضع في حسبانك البيانات التي تدل على تحقق الفائدة من هذا التغيير:
في حين نتج عن الدراسة البريطانية التي ذكرناها سابقاً فوائد كثيرة وملموسة بالنسبة إلى الشركات الـ 61 المشاركة في الدراسة، قد ترغب بعض الشركات المترددة بشأن تطبيق جدول العمل هذا بتتبُّع البيانات والتغذية الراجعة للتحقق من فوائد هذا الأسلوب الجديد، فمثلاً يسأل "ميتزغر" بشكل مستمر موظفيه عن كيفية استثمارهم ليوم العطلة الإضافي.
يقول "ميتزغر": "أجابني أحد الموظفين أنَّه يصطحب ابنه إلى عيادة طبيب الأسنان، واعتقدتُ في البداية أنَّها طريقة مملة لقضاء يوم العطلة، ولكنَّه أردف بأنَّه من الرائع كيف أصبح قادراً على القيام بهذه الأشياء خلال أسبوع العمل، وأنَّه يشعر ببالغ الامتنان لحصوله على يوم عطلة إضافي؛ بل إنَّه شكرني في النهاية".
لقد تأكَّد "ميتزغر" بهذه الطريقة أنَّ جدول العمل الجديد يحقق الفوائد المطلوبة، فموظفوه ينشرون على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لهم وهم يقضون أوقاتاً لطيفة مع أطفالهم، ويعتنون بحيواناتهم الأليفة، ويخرجون في نزهة خارج المدينة، ويقضون مزيداً من الوقت في القيام بالأشياء التي يحبونها، ويضيف قائلاً: "أعتقد أنَّ هذه العلامات دليل قطعي على نجاح هذا الأسلوب".
قد تكون هذه المعلومات الشخصية بنفس أهمية البيانات الشائعة، مثل إدارة الوقت، والتقدُّم المُحرز بشأن عمل العميل؛ ولذلك هي أحد الجوانب الهامة في عملية التحوُّل إلى أسلوب العمل لمدة 4 أيام في الأسبوع، ويفيد "ميتزغر" بهذا الشأن: "أحد أهم العوائق التي كان من المُحتمل أن نواجهها؛ هي عدم امتلاك الوقت الكافي لإنجاز نفس كمية العمل، وهذا يعني احتمال تعليق بعض المشاريع للأسبوع القادم بعد نهاية العطلة الممتدة لـ 3 أيام، وهي بلا شك مدة طويلة لتأجيل الرد على رسائل البريد الإلكتروني، ولقد وجدنا أنَّ الحل هو التحقق من أدوات إدارة المشاريع، وأدوات تتبُّع الوقت للتأكد من إنجاز المشاريع الخاصة بالعملاء في الوقت المناسب".
في الختام:
يأمل قادة المشاريع الذين قدَّمنا تجربتهم في هذا المقال بأن يكون هذا النهج الجديد في جداول العمل هو الخيار المستقبلي لجميع الشركات، ولكنَّهم غير واثقين من أنَّه سيتم تطبيقه على نطاق واسع، لذا نأمل نحن أيضاً بألا يكون هذا الاتجاه مؤقتاً، وبخاصة إذا أخذنا بالحسبان أنَّ أسباب الاحتراق الوظيفي لا علاقة لها بالجائحة بحد ذاتها؛ بل توجد مؤشرات على هذه الظاهرة قبل بدء الجائحة حتى.
لا يبدو أنَّه من الحكمة أن نتابع في نفس أسلوب العمل السابق مع تزايد الضغوطات الناجمة عن تغيُّر الاقتصاد العالمي، لذا يجب أن يكون أحد أولوياتنا؛ هو صحة الموظف وقدرته على التعافي، فهي الأساس في نجاح أي مشروع.
أضف تعليقاً