أحلام اليقظة وتأثيرها في الدماغ

أنا من أشدِّ المؤمنين بأحلام اليقظة بين الفينة والأخرى، وخاصةً حين أكون خارج المنزل للتنزه؛ حيث يساعدني وجودي في الطبيعة على نسيان المشاغل اليومية، فيسرح ذهني بعيداً حيث يشاء، وهو شعور رائع وغالباً ما يُطلق إبداعي بصفتي كاتبة وموسيقية.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتبة جيل سوتي (Jill Suttie)، والتي تُحدِّثنا فيه عن تجربتها مع أحلام اليقظة.

ومع هذا، عليَّ أن أعترف بأنَّ البحث الذي أظهر أنَّ شرود الذهن يجعل الشخص أقل إنتاجية أو أكثر اكتئاباً، أقلقني كثيراً، غير أنَّه اتضح لي أنَّ أفضل طريقة لتفسير هذه الفجوة بين التجربة الشخصية والعلم، تكمن من خلال الطريقة التي درس بها الباحثون أنواعاً مختلفة من شرود الذهن؛ حيث لم تُفرِّق جميع الأبحاث بين اجترار الأفكار الاكتئابي، مثل تكرار الخلاف المستمر مع شريكنا في أذهاننا، وبين أحلام اليقظة اللطيفة، مثل إطلاق الحرية لخيالنا.

الآن تتجلَّى صورة أكثر دقة، لما يحدث عندما نترك عقولنا تسرح بخيالها، بفضل العلم الحديث؛ إذ على الرغم من أنَّ البحث حديث وفي طور النمو، إلا أنَّه يشير إلى أنَّ أحلام اليقظة قد تجعلنا في الواقع أكثر سعادةً وإبداعاً، إن نحن قمنا بذلك كما يجب.

أحلام اليقظة والإبداع:

ارتبط شرود الذهن بالإبداع قرون عدة، ولكن وفقاً لدراسة جديدة أجرتها جوليا كام (Julia Kam) وزملاؤها من جامعة كالجاري (University of Calgary)، فقد يعتمد هذا الارتباط على نوع الشرود الذهني الذي تقوم به.

في هذه الدراسة، استخدم الباحثون تقنية تخطيط كهربية الدماغ، لفهم ما يحدث في داخله عندما ننغمس في أنواع مختلفة من شرود الذهن، وطلبوا من الأشخاص تأدية مهمة عادية ومتكررة، ثم قاموا بمقاطعتهم من حين إلى آخر، لمعرفة ما كانوا يفكرون فيه، مع مراقبة نشاط أدمغتهم باستمرار.

بلَّغ بعض المشاركين عن أفكار وصفتها "كام" بأنَّها أفكار "مُقيِّدة"، وتتضمن أشياء مثل اجترار شجار مع الشريك، أو التفكير في كيفية التعامل مع مشكلة في العمل، وفي حين أنَّ هذه الأفكار لم تكن مرتبطة بالمهمة المطروحة، إلا أنَّ بعضهم ظلَّ يركز عليها بطريقة ما، وقال آخرون إنَّهم كانت لديهم أفكار "تتنقل في أذهانهم بحُرِّية"، بمعنى أنَّ أفكارهم كانت تنتقل من شيء إلى آخر؛ فربما كانوا يحلمون بقضاء إجازة في إيطاليا، ثم يتساءلون عمَّا إذا كانوا بحاجة إلى زيِّ سباحة جديد، ثم يفكرون في حوار دار بينهم وبين شريكهم.

عندما قارنت "كام" وزملاؤها أفكار الناس مع نشاطهم الدماغي المتزامن، وجدوا أنماطاً مميزة لأنواع مختلفة من شرود الذهن، وعلى وجه الخصوص، ارتبطت الأفكار التي تتحرك بحرِّية، بزيادة موجات ألفا في القشرة الجبهية للدماغ، وهو اكتشاف مذهل وجديد، على حد تعبير "كام"؛ حيث تقول: "ما يثير الدهشة حقاً في العثور على هذه العلامة العصبية، هو أنَّ لها دوراً في الدراسات المرتبطة بالإبداع، وعند إدخال موجات ألفا في القشرة الجبهية، يكون أداء الأشخاص أفضل في المهام التي تتطلب إبداعاً".

يتوافق هذا النوع من النشاط الدماغي توافقاً جيداً مع جانبٍ معيَّنٍ من الإبداع، وهو التفكير التبايني أو التفكير "خارج الصندوق"؛ إذ إنَّك عندما تولِّد الأفكار، فأنت تريد أن تكون قادراً على التفكير في خيارات متعددة، وألَّا يقيِّدك أي شيء، وهو ما يسمح به التفكير بحُرِّية.

لقد ثبت أيضاً، أنَّ شرود الذهن يعزز التفكير التقاربي، وهو ما يحدث بعد إجراء عصف ذهني، والخروج بأفكار تُضطر بعدها إلى اختيار الأفضل من بينها؛ لذلك فمن المحتمل أنَّ شرود الذهن يخدمك إبداعياً.

إقرأ أيضاً: 17 تقنية للعصف الذهني لاستلهام أفكار أكثر إبداعاً

تقول كام: "إذا تفاقمت مشكلة في عقلك وتحتاج إلى إيجاد حل، فربما قد يساعدك تناسيها بعض الوقت؛ إذ يسهِّل شرود الذهن من الإتيان بحل".

هذا يعكس نتائج دراسة أجرتها كلير زيديليوس (Claire Zedelius)، والتي كانت تعمل سابقاً في جامعة كاليفورنيا (University of California) عام 2015؛ حيث نظرت في كيفية تأثير شرود الذهن في أداء الأشخاص في اختبار الإبداع، حيث يتعيَّن عليهم الإتيان بكلمة جديدة، على سبيل المثال، "طعام"، تتناسب مع ثلاث كلمات تبدو غير مرتبطة، على سبيل المثال، "سمك وجاهز وحار"، ووجدت أنَّ أداء الأشخاص الذين مارسوا شرود الذهن، كان أفضل في هذه المهمة، وخرجوا بالإجابات في لمح البصر.

تقول: "لا يعرف الناس حتى كيف توصَّلوا إلى الحل؛ فقد ظهر فجأة، يبدو أنَّ شرود الذهن يساعد على الخروج بحلول ابتكارية للمشكلات".

وفي دراسة أحدث، نظرت زيديليوس في أفكار الناس لمعرفة مدى ارتباط ذلك بالإبداع اليومي؛ حيث طُلب من المشاركين، بمن فيهم بعض الكتَّاب المبدعين، أن يعبِّروا عن طبيعة أفكارهم على مدار اليوم، عبر الهواتف المحمولة، وفي نهاية اليوم، يعبِّروا عن مدى إبداعهم، وأظهرت النتائج أنَّ الناس كانوا غالباً ما يحلمون أحلام يقظة في أشياء عادية إلى حد ما، مثل التخطيط للتسوُّق، وأنَّ هذه الأفكار لم يكن لها أي تأثير في الإبداع.

ولكن عندما يسمحون لعقلهم بأن يسرح بشكل أكبر، مثل تخيُّل أشياء غير معقولة، أو سيناريوهات غريبة ومضحكة؛ فإنَّهم يميلون إلى الخروج بأفكار أكثر إبداعاً، ويشعرون بمزيد من الإلهام، ومن المثير للاهتمام، أنَّ هذا انطبق على كلٍّ من الكتَّاب وعامة الناس.

تقول زيديليوس: "ربما يفعل الكتَّاب هذا حتى يحافظوا على إبداعهم طوال الوقت، وذلك من خلال التفكير في قصص أو سيناريوهات محتملة أو غير واقعية أو غريبة، لكن يفعل الناس العاديون ذلك ليكونوا أكثر إبداعاً".

يشير هذا إلى أنَّ العلاقة بين شرود الذهن والإبداع، هي أكثر تعقيداً ممَّا كان يُعتقد سابقاً، ويبدو أنَّها تعتمد على مدى حرية أفكارك وفحواها، فضلاً عن قدرتك على التخلص من المشاغل اليومية، وممَّا لا شك فيه، أنَّ هذا يفسر لماذا أدت أحلام اليقظة الخاصة بي في أثناء المشي مسافات طويلة، إلى ظهور أفكارٍ لأغانٍ أو قصصٍ بدت أنَّها كانت تنبثق من العدم.

إقرأ أيضاً: 8 نصائح لكي تصبح أكثر إبداعاً

أحلام اليقظة والمزاج:

تشير الأبحاث السابقة إلى أنَّ الذهن الشارد يؤدي إلى انخفاض نسبة السعادة؛ أي أنَّنا نميل إلى أن نكون أقل سعادة عندما لا نركز على ما نقوم به، ومن المحتمل أن يكون هذا صحيحاً، خاصةً إن كنت تميل إلى التفكير في أخطاء الماضي عندما يشرد عقلك، أو إذا كان ذلك يمنعك من تحقيق أهدافك.

لذا فإنَّ محتوى الأفكار الشاردة يُحدث فارقاً كبيراً؛ إذ على سبيل المثال، أظهرت دراسة أجريت في عام 2013، أنَّ الناس تحسنت حالتهم المزاجية في أثناء شرودهم، عندما وجدوا أنَّ أفكارهم الشاردة أكثر إثارة للاهتمام، وبالمثل، وجدت دراسات أخرى، أنَّ التفكير في الأشخاص الذين تحبهم، أو التفكير في مستقبلك المحتمل أكثر من التفكير فيما حدث في الماضي، يولِّد نتائج إيجابية.

وجدت إحدى الدراسات التي أُجريت في عام 2017، أنَّ طريقة شرود الذهن قد تكون مهمة أيضاً؛ إذ في بعض الحالات، قد يشرد الناس عمداً، وهو شيء لم يتطرق له البحث في الغالب، ومن المحتمل أن يكون له تأثيرات مميزة؛ ذلك لأنَّ الأشخاص الذين يستخدمون أحلام اليقظة للتأمل الذاتي، عادةً ما يخرجون بأفكار ممتعة أكثر من الأشخاص الذين يجترون تجارب غير سارة.

حتى أنَّ هناك بعض الأدلة على أنَّ شرود الذهن، قد يكون بمنزلة مضاد اكتئابٍ أكثر من كونه سبباً له؛ إذ قد يقوم الأشخاص المصابون بالاكتئاب، بإعادة عرض أحداث من ماضيهم بكل بساطة، لفهم السبب الذي جعل مزاجهم سيئاً، ولتجنب مشكلات مستقبلية أيضاً، وعندما درس الباحثون فيما إذا كان المزاج السلبي يسبق أو يلي الانغماس في أحلام اليقظة، وجدوا أنَّ الحالة المزاجية السيئة أدت إلى مزيد من شرود الذهن، في حين أنَّ العكس لم يكن صحيحاً؛ ممَّا يشير إلى أنَّ أحلام اليقظة قد تساعد الناس على الشعور بالتحسن.

وتشير النتائج التي توصَّلت إليها دراسة أُجريت في عام 2021، إلى أنَّ أحلام اليقظة التي تراودك بحُرِّية أكبر، يمكن أن تحسِّن حالتك المزاجية.

في هذه الدراسة، طُلب من مشاركين عشوائيين أن يعبِّروا عن مشاعرهم - إيجابية كانت أم سلبية - ومدى انتقال أفكارهم، وفيما إذا كانت مرتبطة بما كانوا يفعلونه أو لا على مدار ثلاثة أيام.

بعد تحليل البيانات، وجد الباحثون أنَّه عندما كانت أفكار الناس بعيدة عمَّا يفعلونه، شعروا بمزيد من السلبية، على غرار ما أظهرته النتائج السابقة، وعلى العكس، عندما كانت أفكارهم تتنقل بحُرِّية، فإنَّها ساعدتهم على الشعور بالسعادة.

وخلُص الباحثون إلى أنَّ: "النتائج التي توصَّلنا إليها، تشير إلى أنَّه قد تكون هناك جوانب إيجابية لشرود الذهن".

ومجدداً، يدعم العِلم تجربتي الخاصة؛ إذ إن كنتُ في مكان يستطيع عقلي فيه التنقل بأفكاره بحُرِّية، فلن أشعر بالاكتئاب؛ بل على العكس، سأكون أكثر سعادة بسبب ذلك.

شاهد بالفيديو: 6 إرشادات هامة لتحسين الحالة المزاجية

كيف يمكننا أن نحسِّن من أحلام اليقظة؟

في حين أنَّ البحث في هذا الأمر لا يزال في بداياته، لكنَّه يشير إلى أنَّه قد يكون هناك طريقة صحيحة وأخرى خاطئة للشرود الذهني.

تُحذِّر "كام" من أنَّ شرود الذهن قد يكون مشكلة، عندما تحتاج إلى التركيز على مهمة ما، أو حين يؤدي إلى مخاطر تتعلق بإيذاء نفسك أو الآخرين، مثل شرود الذهن في أثناء القيادة أو إجراء عملية جراحية، ولكن في المقابل، إذا تركت عقلك يشرد في أثناء قيامك بمهام عادية لا تتطلب التركيز، مثل الحياكة أو تقطيع الخضار، فقد يساعدك ذلك على الشعور بالتحسن أو الخروج بأفكار إبداعية.

تقول كام: "سياق ومحتوى شرود ذهنك مهم حقاً، فهو يلعب دوراً في الحصول على نتيجة جيدة أو سيئة".

على الرغم من أنَّ العديد منَّا يفكر في أفكار سلبية عندما لا نكون مشغولين، فإنَّ هذا لا يعني أنَّنا يجب أن نبقى عالقين بها؛ إذ إن تمكَّنا من تغيير مسار أفكارنا، فسنحصل على الأرجح على مزيد من الأفكار وأحلام اليقظة.

تعتقد "كام" أنَّ التركيز الذهني يمكن أن يساعد على ذلك، ما دام يزيد من الوعي بأفكارنا وانتباهنا عندما نبتعد عن التفكير في المشكلات؛ الأمر الذي قد يساعدنا بعد ذلك على إعادة توجيه شرود أذهاننا.

تقول كام: "مجرد الحصول على مزيد من السيطرة على وقت شرود الذهن وعلى نوع الأفكار التي تراودك، سيكون مفيداً للغاية".

تقول زيديليوس أيضاً إنَّ الوعي مهم؛ حيث أخبرها العديد من المشاركين في الدراسة، أنَّهم لم يولوا كثيراً من الاهتمام بمسار أفكارهم قبل أن يشاركوا في دراستها، لكنَّها فتحت أعينهم على ذلك.

تقول زيديليوس: "كانوا يقولون: "لقد أصبحت مدركاً لأنماط أفكاري التي لم أكن ألاحظها من قبل، أي ما ينجذب إليه فكري"، وهذا ما يجعلني أتساءل عمَّا إذا كان في الإمكان استخدام المراقبة المستمرة التي نقوم بها في تجاربنا، ليس كمقياس فحسب؛ بل كنوع من التدخل أيضاً، لمعرفة ما إذا كان وعينا يتغير بمرور الوقت".

لكن بالطبع تحظى أحلام اليقظة بسمعة سيئة في الثقافة الأمريكية، على الرغم من أنَّها قد تكون مفيدة لنا؛ حيث يميل الشعب الأمريكي إلى الافتخار بأخلاقيات العمل القوية، وغالباً ما تُترجم هذه الأخلاقيات إلى العمل بجدٍّ ساعات طويلة وبتركيز كامل.

لكن لم يُخلَق الناس ليكونوا "آلات عاملة" طوال الوقت؛ لذا قد يكون أخذ استراحة والحلم بأحلام يقظة أمراً مفيداً، لإبداعنا وسعادتنا، وأيضاً من أجل إنتاجيتنا، خاصةً إذا كنَّا في وظائف تتطلب اهتماماً وتركيزاً، وتستنزف طاقتنا للحفاظ عليها، وما دامت أحلام اليقظة مفيدةً خلال الأوقات التي لا يكون فيها التركيز الكامل مطلوباً، فقد تكون في مصلحتنا من دون أن تعوق أداءنا.

يجب ألَّا نحتاج إلى عذر كي نحلم أحلام اليقظة؛ نظراً لأنَّها جزء من طبيعتنا البشرية، بالإضافة إلى أنَّنا بالكاد تعرَّفنا إلى فوائدها لنا، كما تقول زيديليوس: "آمل أن يسبر الناس أغوار أحلام اليقظة أكثر قليلاً، وأن يحاولوا الشرود الذهني بطريقة أكبر، وأكثر خيالية، وأكثر ارتباطاً بمغزى شخصي في المستقبل، فإذا سمح الأشخاص لأنفسهم باستخدام هذه الأداة بحُرِّية ومرح، فقد يتمكنون من التركيز على الحلول الإبداعية للمشكلات الكبيرة".

المصدر




مقالات مرتبطة