8 أمور تشوّه إدراكنا

لا يصدق بعض الناس إلا ما يرونه بأعينهم، وهذا الأمر صحيح إلى حدٍّ ما، فبالتأكيد تسمح لنا أعيننا برؤية ما يحيط بنا، ممَّا يساعدنا على خوض الحياة في العالم من حولنا؛ لكن اتضح أنَّ الرؤية أكثر تعقيداً من ذلك بكثير.



فوفقاً للكتاب الجديد "التصور: كيف تساهم أجسادنا في قولبة أذهاننا" (Perception: How Our Bodies Shape Our Minds)، من تأليف عالِمَي النفس في جامعة فيرجينيا (University of Virginia)، دنيس بروفيت (Dennis Proffitt) ودريك باير (Drake Baer): "ما ندركه في أية لحظة لا يُحدَّد من خلال المعلومات الحسية فحسب؛ وإنَّما من خلال قدراتنا الجسدية الشخصية، ومستويات الطاقة لدينا، ومشاعرنا وهوياتنا الاجتماعية، وغير ذلك".

كتب المؤلفان: "من المنطقي الاعتقاد أنَّنا نختبر العالم كما هو موضوعي، وعلى الرغم من تصوراتنا الساذجة أنَّنا نرى العالم كما هو، فإنَّنا لا نفعل ذلك"، وليست رؤيتنا هي التي تتأثر بالعمليات التي تجري في اللاوعي وحسب؛ حيث إنَّ كتاب بروفيت وباير مليء بالنتائج البحثية الرائعة التي تتحدى الأحكام والقرارات التي نتخذها بناءً على ما نتصور، وأيضاً الأمور التي نتصورها، فالأمور التي تبدو حقيقية وشاملة غالباً ما تكون ناتجة عن تجربتنا الفريدة للعالم.

من المفيد معرفة ذلك، لا سيما في الوقت الحالي الذي نكافح فيه وباءً مميتاً ونغرق في الاضطرابات السياسية والاجتماعية، فإذا فهمنا ما هي العوامل غير الهامة التي تؤثر فيما نراه ونفكر فيه، فربما يمكننا إيجاد طرائق للتغلب على هذه التأثيرات واتخاذ قرارات أفضل كمجتمع.

كتب بروفيت وباير: "إذا رغبنا في فهم أفضل لنا وللأشخاص من حولنا، فعلينا تقدير التجربة الفردية للجميع، وهذا يعني التواضع".

نقدم لك فيما يلي 8 رسائل هامة من كتاب بروفيت وباير:

1. تؤثر طاقتنا وقدراتنا في وجهات نظرنا:

تُظهِر العديد من الدراسات التي أجراها بروفيت وآخرون أنَّ أجسادنا وقدراتنا على الحركة تؤثر في طريقة رؤيتنا لما يحيط بنا، على سبيل المثال، وجد الباحثان أنَّه إذا كنت تعاني من السمنة أو التعب، فالمسافات التي تمشيها تبدو بالنسبة إليك أبعد ممَّا هي عليه، كما يرى الأشخاص الذين يرتدون حقائب ظهر ثقيلة أنَّ الطريق أمامهم أكثر انحداراً من أولئك الذين لا يرتدون حقائب ظهر.

كتب بروفيت وباير: "تؤثر قدرتنا على المشي في وضوح الطريق أمامنا، ومن ثمَّ تحديد كيف نرى الطريق، فأنت لا ترى الطريق كما هو في الواقع؛ وإنَّما كما تتصوره"، فإذا كنت تحمل أداة تزيد من مدى وصولك، تظهر الأشياء أقرب إليك أيضاً، وفي الرياضة، يرى لاعبو البيسبول الناجحون كرات أكبر تأتي باتجاههم من الرامي، ويرى لاعبو الجولف الذين يسددون كراتهم جيداً حفرات أكبر.

ويمكننا ملاحظة هذه الظاهرة عند الأطفال الصغار أيضاً؛ لهذا السبب في إحدى التجارب ظهر الخوف على الأطفال الذين يزحفون، عند إنزالهم عن طرف منحدر مزيف، لكنَّ الأطفال الذين لم يتمكنوا من الزحف لم يُظهروا شعور الخوف ذلك، فهم لم يروا الأمر مخيفاً، فطالما أنَّهم غير قادرين على الزحف، لن يشعروا بالقلق بشأن المنحدرات.

2. يؤثر إدراك أجسادنا في قراراتنا:

في إحدى التجارب، أجرى الباحثون دراسة على أشخاص كان يجب عليهم اتخاذ قرارات سريعة بشأن تداول الأسهم تحت ضغط شديد، واكتشفوا أنَّ الأشخاص الذين كانوا يستطيعون حساب نبضات قلبهم بدقة أكبر دون لمس أجسادهم هم الأكثر نجاحاً.

ومع ذلك، لم يكن الأشخاص الذين كانوا أكثر ثقة في حسابهم الدقيق أكثر نجاحاً، وكلَّما زادت الفجوة بين ثقتهم ودقة حساباتهم، زاد قلقهم، ويشير هذا إلى أنَّ الإدراك الفعلي بجسدك يمكن أن يكون مفيداً في مواقف العمل التي تتعرض فيها لتوتر شديد.

على الرغم من أنَّ السبب لا زال غير مؤكد، إلا أنَّه من الممكن أن يكون الأشخاص الأكثر إدراكاً بنبضات قلبهم أكثر قدرةً على تهدئة أنفسهم عند الشعور بالتوتر، ومن ثمَّ اتخاذ قرارات جيدة، أو يمكن أن يفسر الأشخاص الناجحون الأكثر انسجاماً مع أجسادهم تصوراتهم تفسيراً أكثر دقةً، ويفهمون كيف يتفاعل الأمران مع بعضهما، وفي كلتا الحالتين، تبرر هذه النتائج زيادة الإدراك بالجسد.

شاهد بالفديو: 16 أمراً يؤكد أهمية التفكير الإيجابي في حياتنا

3. يغيِّر الشعور بالجوع أو عدم الشعور به خياراتنا:

تؤثر مستويات الطاقة في أجسادنا أيضاً في اتخاذ القرارات، ففي إحدى التجارب، اتخذ المشاركون الذين شربوا مشروباً يحتوي على السكر قرارات أفضل وأخَّروا الشعور بالإشباع الفوري لفترة أطول، مقارنة بالأشخاص الذين تناولوا مشروباً حلو المذاق يخلو من الغلوكوز، وبصورة مشابهة، عندما يتخذ القضاة قرارات إطلاق السراح المشروط قبل استراحة الغداء أو في نهاية يومهم، فإنَّهم يميلون إلى رفض فكرة إطلاق السراح المشروط؛ وذلك لأنَّ القرار يتطلب مزيداً من إمعان النظر، ومن ثمَّ المزيد من الطاقة.

كما وجدت الدراسات أنَّ الأشخاص الذين استمتعوا بشرب كوب كبير من عصير الليمونادة المُحلَّى يميلون إلى مساعدة الآخرين أكثر، والأطفال الذين يتناولون وجبة الفطور يبلون بلاءً حسناً في المدرسة ولديهم مشكلات سلوكية أقل.

كتب مؤلفا الكتاب: "إنَّ الطريقة التي تفكر بها مرتبطة ارتباطاً لا نهائياً بما تشعر به جسدياً"؛ لذلك، من الهام التأكد من أنَّنا - أو الآخرين الذين نعتمد عليهم - لسنا مستنفدين جداً عند الحاجة إلى اتخاذ قرارات صعبة.

إقرأ أيضاً: كيف تتّخذ قراراً فعّالاً في 10 دقائق فقط

4. تبدو العبارات سهلة القراءة صحيحة أكثر:

تعتمد اعتقاداتنا بشأن العالم من حولنا أيضاً على تأثيرات تبدو غير هامة، ففي إحدى التجارب، عندما طلب الباحثون من المشاركين تحديد صحة بعض المعلومات المكتوبة بألوان مختلفة، اتفق المشاركون على أنَّ المعلومات سهلة القراءة أصح وأصدق من نظيرتها صعبة القراءة، وينطبق الأمر ذاته على العبارات المقفَّاة؛ حيث بدت لهم أكثر صدقاً.

يمكن دحض هذه المزاعم إذا أشرت إليها ببساطة للناس، ومع ذلك، تعمل هذه القوى دون الإدراك الواعي، ويمكن خداعنا بمدى سهولة تصديق أمر ما أو استعادة ذاكرتنا له.

كتب المؤلفان: "إنَّ ميلنا للطلاقة يجعلنا عرضةً للتحدث بحماقة، وإذا شعرت أنَّ هذا الأمر صحيح فهو كذلك، وعندما يزداد مستوى الضعف ليصل إلى وسائل الإعلام؛ فإنَّك تحصل على ما نريد تصديقه والأخبار المزيفة".

5. تؤثر مشاعرنا في آرائنا السياسية:

من غير الغريب أن تؤثر مشاعرنا في تصوراتنا وأفكارنا، ومع ذلك، يحمل التصور بعض المفاجآت.

في إحدى الدراسات المذكورة في الكتاب، وجد الباحثان أنَّ الأشخاص الذين يشعرون بالاشمئزاز بسهولة أكبر عندما يتخيلون أشياء مثل سلة قمامة مليئة بالديدان، أو قطعة من كعكة الشوكولاتة العفنة، يميلون إلى أن يكونوا أكثر تحفظاً بآرائهم السياسية، ويميلون إلى الشعور بمشاعر سلبية أقوى تجاه الأشخاص الذين يدعمون الحريات التي يرفضونها.

إنَّ هذه المشاعر مثل الاشمئزاز، الصادرة عن الجهاز الحوفي لأدمغتنا، وغالباً ما تكون دون الإدراك الواعي، توجِّه ردود أفعالنا وتقييماتنا ممَّا يجعلها أقل حيادية.

يقول كل من بروفيت وباير: "تسمح لنا العواطف بإدراك الخير والشر في عالم مليء بهما، وقد يبدو أنَّ هذه العواطف غير مطلوبة، لكنَّها في الواقع من صنعنا، وتمتلك الحكمة والتقلبات المرتبطة بأقدم وأهم بنيات الدماغ الأساسية".

6. يجعل الشعور بالسوء الأمور تبدو صعبةً جداً:

يعرف الأشخاص الذين يشعرون بالحزن أو الاكتئاب أنَّه من الصعب مواجهة العالم عندما تكون محبَطاً، لكن من الهام أن نلاحظ أنَّ هذه المشاعر تغيِّر أيضاً إدراكنا الحسي، على سبيل المثال، يميل الأشخاص الذين يستمعون للموسيقى الحزينة إلى الاعتقاد بأنَّ الحياة أكثر ظلماً، مقارنة بالأشخاص الذين يستمعون للموسيقى المبهجة.

كتب كل من بروفيت وباير: "تمنحك العواطف القدرة على الاقتراب من الأمور والأشخاص والمواقف أو تجنُّبها، وبناء الإدراك وفقاً لذلك"؛ ويعني هذا أنَّ تعزيز عواطفنا الإيجابية قد يساعدنا على التعامل مع المهام الصعبة بسهولة أكبر، وهي فكرة تؤكدها بعض الأبحاث على الأقل.

إقرأ أيضاً: لماذا لا تعد المشاعر السلبية سيئة للغاية؟ وكيف تتعامل معها؟

7. يجعل وجود أشخاص من حولك الأمور تبدو سهلةً:

يؤثر وجود أشخاص من حولنا في إدراكنا للمواقف الصعبة أيضاً؛ حيث يمكن أن يؤدي إمساك يد شخص ما أثناء تعرُّضك لحدث مؤلم إلى تخفيف الألم، وكذلك يجعل حمل حمولة ثقيلة مع شخص آخر الأمر يبدو أخف وأسهل، ومجرد التفكير في صديق يمكن أن يجعل الحياة أكثر هناء.

يبدو أنَّ علاقاتنا الاجتماعية تؤدي دوراً في تقليل الشعور بالتوتر، وقد يكون هذا هو السبب في أنَّ الاختلاط بالآخرين يغيِّر من إحساسنا بالألم أو المصاعب، ممَّا يجعل تحمُّلها أمراً سهلاً؛ حيث تشير هذه الدراسات وغيرها إلى أهمية علاقاتنا الاجتماعية في القدرة على التكيف عندما تصعب الأمور.

8. تؤثر معتقداتنا السياسية في مهاراتنا الحسابية:

كيف يمكن أن تؤثر انتماءاتنا - مثل الأحزاب السياسية التي ننتمي إليها -  في إدراكنا، على سبيل المثال، في إحدى الدراسات طُلِبَ من الأشخاص حل معادلات رياضية للتحقق من صحة نتيجة بحثية - مثل التأكد فيما إذا كان اللقاح فعالاً أو كان حظر الأسلحة النارية ينقذ الأرواح - وكما هو متوقع، كان الأشخاص ذوي المهارات الحسابية العالية قادرين على معرفة الإجابات بسهولة أكبر؛ بحيث لا تتعارض نتيجة الحساب مع معتقداتهم السياسية، وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ المهارات الحسابية لدى الجميع كانت أسوأ، فقد حلوا المشكلة حلاً صحيحاً بنسبة تتراوح بين 25 - 45% وهي نسبة أدنى من المعتاد.

يتعارض هذا الأمر مع فكرة أنَّ الناس يحتاجون إلى المزيد من المعلومات لمعرفة حقيقة الموقف؛ حيث كتب المؤلفان: "إنَّ التفكير - حتى لو كان إجراء عملية حسابية - ليس عملية تحدُث من تلقاء نفسها؛ وإنَّما هو جزء لا يتجزأ من أفكارنا الشخصية وهوياتنا الجماعية؛ فنحن نصبح مرتبكين ومندهشين وغير قادرين على استخدام قدراتنا الكاملة عند مواجهة الحقائق التي تهدِّد هويتنا الاجتماعية".

عموماً، إنَّ قراءة هذا المقال يجب أن تجعلنا متواضعين، ومن الواضح أنَّ العديد من القوى دون إدراكنا الواعي تؤثر في تصوراتنا وأفكارنا وقراراتنا، ومع ذلك تكثُر الأخطاء؛ حيث يمكن أن يمنعنا إدراك هذه التأثيرات من ارتكاب أخطاء مكلفة أو خلق صراعات غير ضرورية مع الآخرين الذين يرون الأمور رؤية مختلفة؛ والفائدة النهائية من هذا المقال، هي أنَّنا نأمل أن يساعدنا القليل من التواضع على أن نكون أقل غروراً، وأن نكون أكثر تقبلاً لوجهات النظر الأخرى.

المصدر




مقالات مرتبطة