ما هي أهمية معرفة الذات؟
قبل الخوض في كيفية التعرف إلى أنفسنا، دعنا نفهم سبب أهمية ذلك، فمعظمنا غير مدرك للجوانب الحاسمة والمؤثرة في شخصياتنا، فهذه الجوانب المخفية التي لا ندركها تؤثر فينا تأثيراً عميقاً على الرغم من عدم وعينا بها، ونحن نتحاور مع الناس، ونتخذ القرارات، ونندمج في الحياة، ونختار مهننا، ونشارك في أي تفاعل إنساني آخر تحت تأثير هذه الجوانب الكامنة في أنفسنا، ونحن نفعل كل ذلك دون وعي.
عندما نتأمل في مسار مهني جديد ونقرر عدم المضي فيه، فقد نفسر ذلك تفسيراً عقلانياً بالقول: "لا أملك المستوى المطلوب من الخبرة/التعليم"، بينما الحقيقة هي أنَّ الجزء اللاشعوري في داخلنا هو الذي اتخذ القرار الفعلي هنا، من خلال إرسال الرسالة الداخلية: "لست جيِّداً بما فيه الكفاية للقيام بهذا"، أو "لست جديراً بهذه الفرصة" (وكلاهما من الرسائل اللاشعورية الشائعة).
إذا لم نتعرف إلى هذا الجانب الخفي من ذواتنا، فإنَّنا سنصر على أنَّ الأمر يتعلق بالتفسير العقلاني، لأنَّ الرسالة اللاشعورية الداخلية تهمس بصوت خافت جداً بداخلنا لدرجة أنَّنا لن نسمعها بوضوح، وسنتخذ قرارات وفقاً لها، لكن لن ندرك وجودها، ففكرة انعدام قيمة الذات هذه المدفونة في أعماقنا هي مجرد مثال، فهناك عدد من الأحكام والأفكار والتصورات والافتراضات والمشاعر المحتملة الأخرى التي قد نحملها في الجانب المخفي من شخصيتنا.
معرفة الذات الانتقال من الظلام إلى النور
من خلال عملية زيادة الوعي الذاتي، واكتساب قدر أكبر من المعرفة الذاتية، تنتقل تلك الجوانب المخفية تدريجياً من الظلام إلى النور، ومن اللاوعي إلى الوعي وتصبح واضحة وتندمج في الذات التي يمكنك رؤيتها والتعرف إليها، ففي كثير من الأحيان، لا تكون هذه العملية سريعة (قد تستغرق وقتاً طويلاً، اعتماداً على مدى عمق هذه الجوانب المخفية)، وقد تكون عملية مؤلمة، فالألم ناتج عن حقيقة أنَّ ثمة سبباً وراء وجود هذه الجوانب في اللاوعي، قد تكون أبعاداً مهدِّدة أو مخيفة من الذات، أو مرتبطة بصدمات أو أحداث صعبة في الماضي، وقد دفعتها إلى اللاوعي حتى لا تضطر إلى مواجهتها بوصفها جزءاً من الوعي بذاتك.
إذا كان ثمة ارتباط ببعض الأحداث الصادمة في حياتك، فيجب أن يُنتقَل من الظلام إلى النور بحذر وبالتدريج، مع تقييم قدرتك الشخصية على التحمل، فإذا شعرت أنَّه من الصعب التعامل معها، تمهَّلْ وأعِدْ الاتصال بهذه الجوانب بقدر ما تستطيع في وقت لاحق، ومع ذلك فإنَّ هذا التعامل أمر حاسم إذا أردت التحرر من الأبعاد اللاواعية لذاتك والتي تؤثر في خياراتك الحياتية وتفاعلاتك.
البحوث النفسية المتعلقة بالوعي الذاتي
تؤكد البحوث النفسية أهمية الوعي الذاتي، إذ تُظهر أنَّ الوعي بالذات هو أمر هام جداً لخوض تجربة النمو الذاتي، وقبول وجهات نظر الآخرين، وممارسة ضبط النفس، وتحقيق إنجازات عظيمة، وتعزيز تقدير الذات، كما تُشير البحوث إلى أنَّ الوعي الذاتي يؤدي أيضاً إلى تعزيز الرعاية الذاتية وانخفاض معدلات الاحتراق النفسي، وأخيراً تبيِّن البحوث أنَّ ازدياد الوعي بالذات يؤدي إلى قبول أكبر للذات والآخرين، فمن الممكن استعراض عدد من الدراسات التي توضِّح فوائد الوعي الذاتي، ولكنَّ الفكرة الأساسية واضحة، وإنَّ البحث العلمي يبرهن على أنَّ الوعي الذاتي هو مكوِّن أساسي لصحتنا النفسية.
شاهد بالفيديو: 7 نصائح للتطوير الشخصي وتحقيق النمو المستمر
تعزيز الوعي الذاتي
إذاً، أنت تفهم وتدرك أهمية الوعي الذاتي، ولكن كيف نحوله من نظرة مجردة إلى تغيير عملي في حياتنا؟ فيما يأتي قائمة بالنشاطات التي من المحتمل أن تزيد من وعيك الذاتي، وهذا يوفر لك معرفة أكبر بذاتك، ولكن تذكَّر أنَّ رحلة اكتشاف نفسك هي رحلة شخصية وفريدة من نوعها، فالنشاطات الواردة أدناه هي مجرد اقتراحات لإثارة فضولك، فثمة طرائق متعددة يمكنك من خلالها اكتشاف نفسك، فسيجد كل واحد منَّا أنَّ بعض هذه النشاطات هامة وقابلة للتطبيق إلى حدٍّ بعيد، في حين قد يرى أنَّ بعضها الآخر أقل أهمية، وهذا أمر طبيعي، لذا ابحث عن النشاطات التي تناسبك:
1. العلاج/الكوتشينغ
يوفر لك العمل مع شخص ما (معالج، أو طبيب نفسي استشاري، أو طبيب نفسي سريري، أو كوتش، أو أي ممارس آخر مشابه) بيئة صحية للتأمل الذاتي فيمكنك مراقبة نفسك دون إصدار أحكام.
2. الدراسة
التربية التأملية مبنية على الاستبطان، فيمكنك أن تلتحق بدورات وورشات عمل وفرص تعليمية أخرى تدعو إلى الوعي الذاتي، وليس من الضروري أن تحمل هذه الدورات عنوان "الوعي الذاتي"؛ بل تحتاج فقط إلى دمج الاستبطان في تدريسها، فمثلاً تقدِّم لك دورات اليقظة الذهنية ودورات مختلفة لممارسي الصحة العقلية مثل هذا الاستبطان، لأنَّها تدعوك لمراقبة أنماطك وطريقة وجودك.
3. التواصل مع الطبيعة
يشعر معظم الأشخاص بانخفاض "الضوضاء" المعرفية في قضاء الوقت في الطبيعة، وهذه الحالة الذهنية الهادئة هي وسيلة ممتازة لاكتشاف نفسك.
4. تعلُّم مهارات جديدة
عندما تتعلم مهارة جديدة، فإنَّك تتعلم عن حدودك الشخصية ومنطقة راحتك، وتعثر على طرائق لتجاوزها، بوصفها جزءاً من هذه العملية، تتعلم عن ذاتك وطرائق توسيع تلك الذات.
5. القراءة
تُكتب بعض الكتب بقصد دعوة القارئ إلى مراقبة ذاته، فتثير أسئلة وأفكاراً تؤدي إلى معرفة أكبر لذاتك، ومن أمثلة هذه الكتب، كن كما أنت (Become What You Are) بقلم "آلان واتس" (Alan Watts)، ونعمة النقص (The Gifts of Imperfection) بقلم "برينيه براون" (Brené Brown).
6. التأمل
يدعوك التأمل لاكتشاف ذاتك، فإذا لم يتشتت انتباهك بالقصص، فسيضطر إلى البقاء ساكناً لمراقبة الأفكار والمشاعر اللحظية، وستتمكَّن من رؤية أنماط ذهنك رؤيةً مباشرةً، فقد لا يكون هذا سهلاً أو مريحاً، ولكن ستتعلم كثيراً من هذه التجربة البسيطة للتأمل.
7. طلب التغذية الراجعة
توفر لك وجهة نظر الآخرين معلومات مفيدة جداً، ويجب أن يكون هذا الشخص قريباً منك، أو يعرفك جيداً، فاطرح عليه أسئلة عنك، وأعلمه أنَّك مستعد لسماع أية أفكار يطرحها، فقد لا تكون المعلومات التي يقدمها دقيقة تماماً، لكنَّها ستثير بعض النقاط للتأمل والتفكير.
في الختام
عملية الوعي الذاتي والنمو الشخصي رحلة مستمرة لا نهاية لها، ويواصل الناس مع مرور الوقت اكتشاف جوانب جديدة من ذواتهم، كأنَّهم يكشفون طبقة تلو الأخرى من الشخصية للوصول إلى الجوهر الحقيقي، وهذه العملية التأملية الداخلية، بالرغم من أنَّها قد تكون مؤلمة أحياناً، هي أساسية لتحقيق فهم أعمق للذات، فالبحث عن الأنا الباطنة ليس مجرد خيار؛ بل هو مسؤولية مدى الحياة لكل فرد، وما دمنا على قيد الحياة، سنظلُّ نكتشف جوانب جديدة داخل أنفسنا، لذا من الهام أن نستمر في النظر إلى الداخل بانفتاح وشجاعة، حتى لو واجهنا صعوبات في هذه العملية، فهذا هو السبيل الوحيد للنمو الشخصي الحقيقي والوصول إلى فهم أعمق لذواتنا.
أضف تعليقاً