4 تقنيات للتغلب على الانطواء

يقول الفيلسوف الفرنسي "ألبير كامو" (Albert Camus): "لا يدرك أحدٌ أنَّ بعض الناس يصرفون طاقةً هائلة ويبذلون جهوداً جبَّارة ليكونوا أشخاصاً طبيعيين فحسب".



ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن الكاتبة "إيفلين مارينوف" (Evelyn Marinoff)، وتُحدِّثنا فيه عن الصعوبات التي يعانيها الأشخاص الانطوائيون وكيفية التغلب عليها.

لقد كُلِّفت منذ وقتٍ ليس ببعيد بترؤس مشروعٍ ضخم نوعاً ما في العمل، والذي تضمَّن تعاملات شاقة ومُرهِقة مع أقسام عدة وإجراء اجتماعات لامتناهية وتمرينات عصف ذهني كثيرة، لكن أهم ما كان يحتاج إليه ذلك المشروع هو وجود قائد بارع يتمتع بكاريزما وجاذبية وفكر لامع ويستطيع بناء علاقة متينة وجيدة مع مُختلف أنواع الجماعات والأفراد.

سيقدِّم هذا المشروع لكثيرٍ من العاملين فيه - لا سيما الاجتماعيين والمنفتحين منهم - فرصة نجاح فورية ومباشرة للتألق، وهو ما يُعَدُّ مؤشراً على التقدير والتميُّز والنجاحات المستقبلية في حياتهم، وربَّما يكون خطوة قوية للتقدم نحو أوج النجاح في حياتهم المهنية.

لا يعني ذلك بالطبع أنَّ المُوظَّفين الانطوائيين لن يكونوا على قدر التحدي الذي يفرضه ذلك المشروع، أو أنَّهم لا يستطيعون التفوق والتميز وإظهار المواهب والمهارات الإدارية البارزة؛ بل إنَّ الانطوائيين والاجتماعيين ملائمون لتلك الوظيفة بالدرجة ذاتها.

لكنَّ منصب إدارة المشروع الذي تكون كل الأنظار موجَّهة إليه يستلزم بعضَ الاستعدادات والتحضيرات المُكثَّفة؛ إذ يتطلب ببساطة مزيداً من التهيئة والتجهيز العقلي وقضاء وقتٍ أطول في الراحة وتجديد النشاط؛ ومن ثَمَّ الاهتمام بالأوقات التي نقضيها بهدوءٍ بعيداً عن العمل.

لكن إذا أضفنا إلى ما سبق أن يكون الشخص الانطوائي خجولاً ويعاني الرهاب الاجتماعي، تتغير الأمور إلى منظورٍ مختلفٍ بعض الشيء؛ فغالباً ما نستطيع التنبؤ بسهولة بأنَّ المزيج الذي يبدو غير متلائم والمُكوَّن من الانطواء والخجل والقلق والقيادة النموذجية سيكون وصفةً لكارثةٍ حقيقية.

من الحقائق المُثبَتة أنَّه ليس الانطوائيون كلهم يعانون الخجل أو الرهاب الاجتماعي؛ فعلى الرَّغم من أنَّ هاتين الحالتَين قد تكونان مترابطتين ارتباطاً وثيقاً، إلَّا أنَّهما منفصلتان عن بعضهما في الواقع.

لكن تشير الأبحاث إلى أنَّ الانطوائيين أكثر عرضةً عموماً للشعور بالخجل من الأشخاص الاجتماعيين أو المنفتحين، وتميل العوامل المُتحكِّمة في العلاقة بين الانطواء والخجل لإظهار تأثير سلبيٍّ مُتبادَل بينهما؛ أي إذا كان الشخص انطوائياً وخجولاً، فإنَّ انطوائيَّته تزيد من درجة مشاعر الخجل لديه، مما يؤدي بدوره إلى مزيد من التعقيد والانغماس في حالة النفور الاجتماعي لديه ويطور داخلَه توقاً ورغبة أكثر شدةً في قضاء الوقت وحده.

في الحقيقة، إنَّ ذلك المزيج غير مقبول بطبيعته في سياق العمل لأنَّه غالباً ما يكشف عن قصة مؤثِّرة لأولئك الأشخاص تتحدث عن شعورهم بعدم الرضى عن أنفسهم وإحساسهم بعدم الاستحقاق أو الجدارة؛ لذا أودُّ تحذير جميع الأشخاص الانطوائيين الذين يعانون الرهاب الاجتماعي بأنَّنا في وضعٍ خطير وسيئ على الصعيدين المهني والاجتماعي، والذي قد يكون من الصعب جداً تصحيحه وإيجاد الحلول له، فنحنُ - بصفتنا أشخاصاً انطوائيين - محكومٌ علينا بالفشل بكل صراحة.

على النقيض من ذلك التفكير النمطي والذي غالباً ما نتورط به، فإنَّ فقدان مشاعر الأمان وامتلاك الجرأة للمغامرة بدخول مجالات جديدة وغريبة عنَّا، ولا سيما تلك التي تكيَّفنا على الظن بأنَّنا لن نكون جزءاً منها أبداً أمرٌ مرعب ومخيف حقاً؛ لكنَّه قادر على تقوية شعورنا بإنجازاتنا التي حققناها وجعلِنا أكثر مرونة وجرأة.

شاهد بالفيديو: 8 نصائح تساعدك لتصبح اجتماعياً أكثر

إليكم ما وجدتُه ناجحاً ونافعاً بالنسبة إلي للمساعدة على تجنُّب القلق والارتباك الاجتماعي والنأي بالنفس عنه؛ وذلك في سبيل الاستفادة وتحقيق المكاسب من نقاط قوتنا بصفتنا أشخاصاً انطوائيين، بدلاً من السماح لها بإعاقة تقدمنا على الصعيدين المهني والاجتماعي:

1. التركيز على المسألة التي في مُتناول أيدينا أولاً، وليس على الأشخاص:

أعلم أنَّ الاعتياد أو التوجُّه للتركيز على المهام فقط يتعارض تماماً مع ما تعلَّمنا أن نؤمن به مراراً وتكراراً بشأن قيمة التواصل الاجتماعي وتكوين العلاقات وأهمية إيلاء اهتمام وثيق للناس حولنا؛ لكنَّ هذا قد لا يكون دوماً الطريقةَ أو المقاربة الأولية الصحيحة لتخفيف الرهاب الاجتماعي.

يستطيع التركيز على الواجب أو المهمة التي بين يدينا أو النتيجة النهائية أن يساعد على تحويل أفكارنا وصرف انتباهنا عن القلق بشأن الانطباع أو التأثير الذي نظنُّ بأنَّنا نتركه أو نُحدِثه لدى الآخرين؛ ومن ناحية أخرى، سنبدو أكثر اندفاعاً ونشاطاً وتركيزاً وكفاءة.

سيحتاج القائد البارع على الأمد البعيد إلى إتقان التعامل مع كلٍّ من المهارات والأشخاص والمهام؛ لكنَّ الانطوائيين غالباً ما يحتاجون إلى مزيد من الوقت ليعتادوا على الناس الجدُد ويُصبحوا أكثر تقبُّلاً لهم، وهو ما يؤكده معظمهم؛ لذا فقد يكون إثبات الجدارة أفضل طريقة يستطيعون اتباعها في أثناء تلك الحالة المؤقَّتة التي يمرون بها ريثما يُصبحون مرتاحين بما يكفي للعمل والتواصل مع مجموعةٍ من الناس.

إقرأ أيضاً: الانطباع الأول وتأثيره على العلاقات الاجتماعية

2. عدم التظاهر بأنَّك شخصٌ خفي أو غير مرئي؛ لأنَّ الحقيقة نقيض ذلك تماماً:

يستطيع الخجل غالباً أن يجعلنا نرغبُ في الجلوس في رُكن هادئٍ في إحدى زوايا الغرفة كي نبقى بعيدين عن مركز الاهتمام؛ إذ نستطيع المراقبة فقط دون أن نشارك في أيٍّ من الأحداث التي تدور حولنا، وبالطبع فإنَّ مثل هذا النهج أو الأسلوب الدفاعي السلبي قلَّما يكون استراتيجية مهنية رابحة.

إن كنَّا أشخاصاً خجولين اجتماعياً، فإنَّ الطريقة الأكثر ذكاءً هي الانفتاح التدريجي بدلاً من تمثيل دور الشخص الخفي، بوتيرةٍ أو إيقاع نشعر بالراحة من خلاله بدءاً بقول بضعة تعليقات فحسب في كل اجتماع؛ إذ ستساعدنا الاستراتيجية المرحلية أو التدريجية على تحسين مشكلة الخجل لدينا والتخلص منها ببطء فيما نصبح أكثر اعتياداً على الآخرين ونوطِّد معرفتنا بهم شيئاً فشيئاً، كما ستسمح لنا بالاستفادة من نقاط قوتنا بصفتنا انطوائيين؛ إذ إنَّ إجراء محادثات ونقاشات ضمن مجموعات صغيرة هو نقطة قوتنا وفرصتُنا لنتألق ونلقى آذاناً مُصغيةً من الآخرين.

سيكون تركُ كل شيءٍ يفلت من يديك من خلال الاعتراض والتذمر بشأن افتقارك للفصاحة والحماسة الاجتماعية مُجرَّد فرصة ضائعة للمطالبة بموطئ قدمٍ لك في ذلك المشروع والمشاركة في نجاحه، ولا ينطبق ذلك على القادة الهادئين فقط؛ بل على الأفراد الذين يستطيعون الارتقاء والانتصار على القيود التي يتصورون أنَّ طباعهم تفرضها عليهم.

إقرأ أيضاً: التخلص من الخجل: 7 طرق للتخلص من الخجل الاجتماعي بشكل نهائي

3. طرح الأسئلة:

فهمتُ ملاحظةً أساسية من خلال سنوات الخبرة التي حظيتُ بها في عالم المؤسسات والشركات، وهو أنَّ طرح الأسئلة التي تدور في أذهاننا لا يجعلنا نبدو أقلَّ خبرة واطِّلاعاً أو بطيئين في استيعاب الأفكار أو غير أذكياء بما يكفي؛ بل على النقيض، تشير الأبحاث إلى أنَّ طرح الأسئلة مشروعٌ بنَّاء جداً؛ إذ يُظهِر الفضول وحبَّ الاستطلاع لدى الإنسان ورغبتَه في فهم ما يدور حوله وتعلُّم مزيد كي يصبح أكثر نفعاً للآخرين ويستطيع خدمتهم ومساعدتهم بصورة أكبر.

مع ذلك، قد تمنعنا الحساسية الاجتماعية المُفرِطة غالباً من الدخول في نقاشات مع الآخرين والتواصل معهم بطريقة شاملة وفاعلة، ومن تحري مشكلةٍ ما واستكشافها بعمق وتفصيل لإيجاد حلٍّ أفضل لها؛ إذ يصبح التدرُّب والاستعداد المُسبَق مفيداً جداً هنا.

إن كنتَ قائداً انطوائياً، تستطيع كتابة مُسوَّدةِ بنقاط المناقشة والاستعداد لمواجهة أي نوعٍ من الأسئلة التي قد تُطرَح عليك، والتدرُّب على ممارسة الحزم والثقة بالنفس عندما يحاول أحدهم الاستيلاء على الحديث أو المناقشة التي تُجريها.

يسهِّل امتلاك نص مشروح ومُحدَّد مُسبَقاً التغلُّبَ على همومنا ومخاوفنا التي تقلقنا، كما سيُكسِبنا طرحُ الأسئلة في الواقع اهتماماً كبيراً من خلال تسليط الأضواء علينا بالطريقة الصحيحة والملائمة تماماً؛ إذ سيكون لدينا مرةً أخرى فرصةٌ لاستمداد القدرة على التفكير المنطقي والتفكير التحليلي واتخاذ القرارات بذكاء وفطنة من نقاط قوتنا بصفتنا انطوائيين.

شاهد بالفيديو: 15 مهارة يجب أن يتحلى بها القائد الجيد

4. الابتهاج والحماسة:

نمتلك جميعاً - بصفتنا انطوائيين - درجةً مُعيَّنة من التكبُّر والغرور حتى وإن ترددنا أو رفضنا الاعتراف بذلك، فعادةً ما ينتبه الناس جيداً إلى كلامنا ويُصغون إليه، ولا سيَّما عندما نتحدث ضمن مجموعات صغيرة.

مهما كانت فكرة الانفتاح مرعبة ومخيفة بالنسبة إلينا، إلَّا أنَّه من المستطاع الاستمتاع باللحظات الاستعراضية التي نعيشها حين تصبح قوانا الهادئة أكثر وضوحاً، كما قد توفِّر أيضاً فرصةً عظيمة لكسب الاحترام والتقدير الذي يستحقه معظمنا في هذا العالم الذي يسيطر عليه الانفتاح والحياة الاجتماعية.

يكمن السر بعدم السماح لإعصار التفكير السلبي والقلق في داخلنا بالتصاعد إلى الدرجة التي تحدُّ من قدرتنا على تصديق الأشياء الإيجابية التي تحدث حولنا؛ كأن نخاف من سخرية الآخرين منَّا سراً، أو من كوننا لا نشكِّل موضع ثقةٍ في نظر الآخرين أو لا نُظهِر ثقة كافية بأنفسنا.

تخبرنا الأستاذة "أليسون وود بروكس" (Alison Wood Brooks) من "جامعة هارفارد" (Harvard University) قائلةً: "إنَّ إحدى طرائق السيطرة على تلك الفراشات المتمردة التي يشعر بها الشخص الانطوائي في أحشائه عند القلق هي إعادة هيكلة ذلك القلق الذي يعانيه أو صياغته".

هذا يعني أنَّنا ينبغي أن نشعر بالحماسة والابتهاج، بدلاً من محاولة تهدئة أنفسنا قبل الأحداث والفعاليات المُجهِدة التي تُقام على مرأى من الناس؛ إذ يستطيع اعتماد فكرة انتهاز الفرص - بصفتها عقلية نعيشُ بها، بدلاً من العيش بعقلية التهديد والقلق - أن يحسِّن من أدائنا خلال تلك الأحداث، وهو ما يُعدُّ أمراً بسيطاً أيضاً؛ لأنَّه يستلزم إجراء حديثٍ واضح وصريح مع الذات كأن يقول المرءُ لنفسه جملاً مثلَ: (أنا متحمس)، أو يحفِّزَ نفسه برسائل تشجيعية مماثلة.

لذلك يبدو أنَّ محاولة تهدئة النفس، والتي وُصفَت بأنَّها استراتيجية لمساعدتنا لمدة سنوت، قد لا تكون أفضل أمرٍ نفعله في النهاية حين يتعلق الأمر بالسيطرة على قلقنا.

ينبغي ألا نقسوَ على أنفسنا ونشعر بالذنب والسوء الشديد حتى وإن لم تسِر الأمور بالطريقة التي توقعناها في النهاية؛ بل يجب أن نتفكَّر في مقولة الشخصية الخيالية "سكارليت أوهارا" (Scarlett O’Hare) من رواية "ذهبَ مع الريح" (Gone with the Wind)، ونتبنَّاها في حياتنا؛ إذ قالت: "في النهاية، الغدُ هو يومٌ جديد".

سنبقى مهما يحدث الأبطال في قصص حياتنا الرائعة، وتُظهِر بعض الاكتشافات الحديثة في علم النفس الاجتماعي بأنَّنا نستطيع اختيارَ تعديل قصص حياتنا وصياغة رسائل هادفة أكثر وتتمتع بمغزى وأهمية أكبر.

يعود الأمر إلينا لنقرر كيفية تركيب العوائق والمحاولات الفاشلة والتجارب السلبية وإدخالها إلى قصة حياتنا، فقد نكتبها بصفتها وقائع وأحداثاً للتعلم وجمع الخبرات أو بصفتها علامات على عجزنا عن التغلب على القلق والتمتع بحياة مهنية ناجحة، وقد ثبت أنَّ قليلاً من إعادة الهيكلة أو التحفيز والتشجيع لكتابة قصة حياة رائعة، والتي تحدَّثنا عنها آنفاً، تؤدي إلى بعض النتائج المذهلة إلى درجة ما.

قصصُ حياتنا في نهاية المطاف، ليسَت مُجرَّد حكايات نرويها لأنفسنا ونؤمن بها فيما يخص شخصياتنا؛ بل تمثِّل تلك القصص شخصياتنا وذواتنا؛ إذ توجِّه افتراضاتُنا وأفكارُنا المُسبَقة عن أنفسنا سلوكَنا وتصرفاتنا في النهاية، كما تعتمد الشخصية التي نختارُ امتلاكَها بمُعظَمها على السطور التي نسمح لأنفسنا بكتابتها في قصة حياتنا.

ليس من المُقدَّر لنا الفشل حكماً على الصعيدَين المهني والشخصي إن كنَّا أشخاصاً انطوائيين ونعاني الخجل كذلك، فأحياناً ما نحتاج إلى وقت قليل فحسب كي نصبح مرتاحين في التعامل مع الأشخاص الجدُد في حياتنا، ومُطَّلعين على المواقف والمهام الجديدة، بينما نفتقد في أوقاتٍ أخرى الطرائق المُساعدة والأساليب الصحيحة التي تستطيع أن تتيح لنا المجال للمضي قدماً والنجاح في حياتنا.

لكن يجب ألَّا نتقيد بصور النجاح النمطية التي يفرضها علينا المجتمع، فما يزال باستطاعتنا اختيار أن نصبح أكثر جرأة وشجاعة ونطالب بأن تُسمَع أصواتنا، ويلقى كلامُنا آذاناً مُصغية حتَّى وإن كنَّا نؤمن بثبات سمات شخصياتنا الفطرية وعدم قدرتنا على تغييرها.

قد يبدو الأمر مخيفاً حقاً في البداية، وقد تشعر بالانزعاج وعدم الراحة لبعض الوقت؛ لكنَّك ستجدُ أنَّه استحق ذلك التعب والمعاناة كليهما في وقت لاحق.

إقرأ أيضاً: طريقة مفاجئة لجعل حياتنا رائعة

في الختام:

تلخِّص القصيدة الشهيرة للفنانة "إيرين هانسون" (Erin Hanson) ما سبق ببلاغة، وفيها تقول: "هناك حريةٌ تنتظرك على نسائم السماء، وأنتَ تسأل نفسك (ماذا لو وقعتُ؟)، لكن ماذا لو أنَّك طرتَ وحلَّقتَ عالياً يا عزيزي؟".




مقالات مرتبطة