3 طرق لتنمية العمل الهادف وتجنُّب عجز المعنى

مع عودة الموظفين إلى العمل في أثناء جائحة كوفيد -19، يجب على أرباب العمل أن يكونوا مستعدين لمعالجة مشكلة خفية، وهي عجز المعنى؛ تاريخياً، تسبب كل اضطراب كبير في طريقة عملنا بأسى عميق أججته الأزمات الوجودية والبحث عن المعنى.



في ذروة الثورة الصناعية الثانية في عام 1897، نشر عالِم الاجتماع "ديفيد إميل دوركايم" (David Émile Durkheim) تحليلاً عن حالة الانتحار لا يزال يؤخذ به الآن؛ وجد دوركهايم أنَّ السبب الرئيس للاضطرابات العقلية الحادة هو خسارة العمل أو تغييره، ووجد أنَّ البطالة تحرم الناس من أهدافهم وأدوارهم الاجتماعية ومساهماتهم المفيدة؛ وفي عام 1938 مع تعافي الاقتصاد من الكساد الكبير، اكتشف عالما النفس "فيليب أيزنبرغ" (Philip Eisenberg) و"بول لازارسفيلد" (Paul Lazarsfeld) أنَّ البطالة أدت إلى فقدان جذري للهوية يتميز بالانهيار وعدم الاستقرار النفسي.

وحتى بين مجموعة كبيرة من العمال الذين لم يخسروا وظائفهم خلال الركود الاقتصادي بين عامي 2007 و2009، وجد باحثو "جامعة ستانفورد" (Stanford University) أنَّ إقامة المرضى في المستشفيات لأسباب متعلقة بالصحة العقلية كانت أعلى بأربع مرات تقريباً مما كانت عليه قبل الأزمة الاقتصادية؛ وكانت مشاعر انعدام الفائدة أو القيمة الذاتية من أهم القواسم المشتركة بين أولئك الذين يعانون من مشكلات الصحة العقلية؛ وهما من أعراض انعدام المعنى الذي يسبب الشعور باليأس.

تعدُّ جائحة كوفيد 19 - على عكس الظروف القاسية السابقة - أزمةَ ذات صلة بانعدام الأمن في العمل والصحة على حد سواء، ويزيد من سوئها الممارسات الضرورية ولكن اللاإنسانية مثل التباعد الاجتماعي والعزلة؛ وحتى أكثر من الاضطرابات الاقتصادية السابقة، كل الظروف المحيطة بالجائحة تشكِّل الوضع المثالي للضيق الناجم عن تزعزع فهمنا الجماعي للمعنى؛ وسواء أحببنا ذلك أم لا، يسيطر العمل على حياة الإنسان، وهو سياق نحتاج إليه لفهْم معنى الحياة؛ لذا يجب أن يكون تمكين العمل الهادف من أولويات القادة ومهارة قابلة للتعلم.

أزمة عجز المعنى التي تلوح في الأفق:

بالنسبة إلى الموظفين والعاطلين عن العمل والذين سيُعاد توظيفهم قريباً، تُظهِر الأبحاث الجديدة أنَّ الجائحة تدفع الجميع إلى التفكر الذاتي (self-reflection) الجاد؛ حيث تُظهِر الاستطلاعات الجديدة أنَّ الأشخاص الذين يمكنهم العمل من المنزل يقضون وقتاً أطول في التفكير في نوعية ومعنى وظائفهم وحياتهم، ويفكر العديد منهم في أدوارهم خارج العمل ويحاولون تحديد كيفية تلبية كافة متطلبات الحياة.

وجدت دراسة أجرتها بروفيسورة الاقتصاد "أليسيا ساسر موديستينو" (Alicia Sasser Modestino) من "جامعة نورثإيسترن" (Northeastern University) أنَّ العديد من الأشخاص، ومعظمهم من النساء، فكروا في الاستقالة من وظائفهم لمجاراة متطلبات الحياة ورعاية الأطفال، حتى أنَّ 11% من الرجال الذين شملهم الاستطلاع قالوا إنَّهم يفكرون أيضاً في ترك مناصبهم الحالية.

بالنسبة إلى العمال الأساسيين (essential worker) - وهم الموظفون الذين يقدمون خدمات أساسية في مجالات مثل الطاقة والصحة وغيرها - البالغ عددهم 55 مليوناً والذين ضمنوا أنَّ في إمكان الآخرين ملازمة المنزل، كشف الثناء المفاجئ والقصير الأمد على عملهم عن التفاوتات بين قيمتهم الفعلية للمجتمع والقيمة التي يمنحهم إياها أرباب العمل.

ملايين الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الوظيفي والمالي والبطالة، وأولئك الذين سيُعاد توظيفهم بعد شهور من دون عمل هم أكثر عرضة للشعور بانعدام المعنى، خاصة أنَّ العديد منهم يضطرون إلى مزاولة أعمال تُسبِّب تفاقم هذه المشاعر ليتمكنوا من البقاء على قيد الحياة، وأضف إلى هذه المشكلات الدعوات المنتشرة للإصلاح الاجتماعي والعدالة العرقية التي دفعت الكثيرين إلى التأمل في أسئلة وجودية لم تخطر لهم من قبل، وكل تلك هي مؤشرات لعجز المعنى الذي يلوح في الأفق.

إقرأ أيضاً: 7 خطوات لنطوِّر ذاتنا أثناء فترة البطالة

معالجة عجز المعنى بالعمل الهادف:

إنَّ الشعور بالهدف والمغزى والأهمية في العمل ليست رفاهية أو أمراً يرغب فيه جيل محدد؛ إذ وجد علماء النفس والفلاسفة منذ قرون، وكذلك علماء الأعصاب الآن أنَّ المعنى هو حاجة إنسانية أساسية؛ كما وجدت الأبحاث أنَّ العمل الهادف مرغوب ويمكن الحصول عليه في أي وظيفة أو مهنة تقريباً، بما في ذلك الأعمال التي يقوم بها الناس لكسب لقمة العيش.

في حين أنَّ من المغري المجادلة، خاصة خلال فترة التعافي الاقتصادي، أنَّ الناس يحتاجون فقط إلى الدخل للبقاء على قيد الحياة، لكن من الضروري الاعتراف بأنَّ ما يريده البشر هو الأمور الأساسية التي يحتاجون إليها وفي الوقت نفسه الأمور التي يرغبون فيها بفطرتهم؛ لهذا السبب يحتاج القادة والاقتصاديون إلى فهْم الفرق بين معنى العمل؛ أي لكسب الرزق، والمعنى الناتج عن العمل؛ أي الشعور بالأهمية والقيمة والكرامة.

تعلمنا من تداعيات كل كارثة مالية كبرى وثورات العمل أنَّ الوظيفة لن تعالج اليأس إذا كان الشخص يعاني من اليأس في الوظيفة؛ وكثيرون هم السياسيون والاقتصاديون الذين يصبُّون كامل تركيزهم على كمية الوظائف، بينما يجب على القادة التنظيميين التركيز على ضمان جودة تلك الوظائف؛ حيث تظهر عقود من الدراسات الآن أنَّ الشعور بأنَّ العمل إيجابي وهادف وله مغزى مؤشرٌ على النتائج الإيجابية مثل الاندفاع والاندماج والعافية في الحياة عموماً.

كتبت البروفيسورة "روث يومان" (Ruth Yeoman) في "جامعة أكسفورد" (Oxford University) أنَّه يجب الاعتراف بالعمل الهادف كحاجة إنسانية أساسية؛ وذلك لأنَّه يلبِّي الرغبة الإنسانية الحتمية في الكرامة والحرية والاستقلالية، وقد يترتب على عدم تلبيتها، إما بسبب البطالة أو بسبب الوظائف المهينة، الشعور باليأس والقنوط وانعدام المعنى، خاصة بين المجتمعات المعرَّضة لهذا الخطر بالفعل.

شاهد أيضاً:9 نصائح مهمة للنجاح في العمل:

تمكين العمل الهادف:

وجدت دراسة حديثة أجرتها شركة "ماكينزي آند كومبيني" (Mckinsey & Company) أنَّ أكثر من 55% من العوامل التي تساهم في عافية الموظفين واندماجهم غير مالية أو تتعلق بالأمان الوظيفي؛ وأهم العوامل لتحسين العافية هي امتلاك هدف فردي والمساهمة والتماسك الاجتماعي والاندماج والعلاقات القائمة على الثقة؛ حيث تشكِّل هذه العناصر أساس البيئات التي تُسهِّل العثور على المعنى؛ فيما يلي 3 طرائق لتمكين العمل الهادف:

1. تنمية ثقافة الإحساس بالأهمية:

الشعور بالمغزى مؤشر رئيس للصحة النفسية عموماً؛ حيث وجد عالِما النفس "موريس روزنبرغ" (Morris Rosenberg) و"كلير ماكولوغ" (Claire McCullough) في دراسة أنَّ الأهمية تتجلى في شعور الشخص بأنَّ الآخرين يلاحظونه ويحتاجون إليه وأنَّ له أهمية؛ وعلى الرغم من أنَّ الأهمية تبدو من خصال المنطق السليم، إِلاَّ أنَّها ليست ممارسة شائعة؛ حيثُ وجدت شركة "غالوب" (Gallup) أنَّ ما يزيد عن 65% من الموظفين لا يشعرون بأنَّهم محط تقدير في العمل؛ إليك بعض النصائح لتنمية الأهمية:

  1. اطمئن بصدق على الأشخاص الذين تراهم وتتحدث إليهم يومياً.
  2. تعرَّف إلى حياة الناس الشخصية وتذكَّر تلك التفاصيل واسأل عنها بانتظام، وشجع الموظفين على التعامل بالطريقة نفسها مع بعضهم.
  3. تعلَّم كيف يمكنك تعزيز الأمن النفسي لتُظهِر للموظفين أنَّ مساهماتهم هامة وهي محط تقدير.
  4. استمر في الاستثمار في التنمية الشخصية والعافية لجميع الموظفين بالتساوي.
  5. ذكِّر الناس بانتظام أنَّ نقاط قوتهم الفريدة جزء لا يتجزأ من تحقيق هدف أكبر، وأظهر لهم أنَّه لا غنى عنهم.

تنمية ثقافة الإحساس بالأهمية

ممارسة تنمية الإحساس بالأهمية:

  1. لاحظ الناس: اطمئن على حياتهم بانتظام وانظر إلى أعينهم حين تُحدِّثهم.
  2. عبِّر للآخرين عن أهميتهم: أظهر للناس كيف تُحدث سلوكاتهم وصفاتهم ونقاط قوتهم فارقاً.
  3. أظهر للناس أنَّك تحتاج إليهم: ذكِّر الناس بانتظام أنَّهم جزء هام من حياتك وشركتك ومجتمعك.
إقرأ أيضاً: 4 طرق لجذب أفضل المواهب إلى الشركات

2. إعادة تصميم الوظائف والمهام لتحمل المعنى:

في عام 1975 درس عالما النفس التنظيمي "غريغ آر أولدهام" (Greg R. Oldham) و"جي ريتشارد هاكمان" (J. Richard Hackman 658) عاملاً يشغلون 62 وظيفة مختلفة، ووجدا أنَّ العمال في حاجة إلى 3 عناصر في الوظيفة أو المهمة ليشعروا بالمعنى.

أولاً، يجب أن يعرفوا أهمية المهمة بالنسبة إلى شخص آخر، ثانياً، يجب يتمكنوا من تحديد أثر المهمة في النتيجة النهائية، وثالثاً، يجب أن يكونوا قادرين على رؤية كيف يمكنهم استخدام نقاط قوَّتهم لإنجاز المهمة؛ وتتفق الأبحاث اليوم مع هذا النموذج وتؤكد أنَّ القادة يستطيعون تمكين المعنى في أي وظيفة؛ لذا إليك بعض النصائح لإعادة تصميم الوظائف لتحمل المعنى:

  • احرص خلال التوظيف والتدريب والتهيئة، على البدء بتقديم المهام والوظائف عبر توضيح سبب أهمية العمل والأمور التي تحققها الوظيفة وكيف أنَّ نقاط قوة الفرد ضرورية لأداء الوظيفة.
  • اجمع واحكِ القصص بانتظام عن تأثير العمل في الآخرين، واستضِف الأشخاص الذين يستفيدون من العمل الذي يؤديه الموظف ليخبروه كيف أثَّر العمل في حياتهم.
  • أظهر بانتظام ووضوح ومباشرة كيف أحدث عمل الفرد في مهمة معينة فارقاً لك أو للآخرين.
  • امنح الموظفين الاستقلالية للعمل بالأسلوب الذي يجدونه أنسب لأداء وظائفهم مستثمرين نقاط قوَّتهم، ورحِّب بالتغذية الراجعة من الموظفين عن عملهم، وزِد خبرتك.

العناصر الأساسية للوظيفة ذات المعنى:

  1. الأهمية: أعلمُ كيف تُفيد الآخرين.
  2. الهوية: أعلمُ ما يجعلها ممكنة.
  3. نقاط القوة: يمكنني استخدام نقاط قوتي لإنجازها.

3. الحرص على تخصيص الوقت اللازم لتكوين علاقات ذات معنى:

وجد أحد الأبحاث عن العاملين في الخطوط الأمامية أنَّ العلاقات الإيجابية تحافظ على المعنى؛ حيث يمكن للعلاقات ذات المعنى إعادة التأكيد على الأهمية وتسهيل الشعور بالانتماء والنمو والتطور؛ حيث وجدت الباحثتان "إميلي هيفي" (Emily Heaphy) و"جين داتون" (Jane Dutton) من "جامعة ميتشيغان" (University of Michigan) أنَّ العلاقات عالية الجودة تتسم بمعرفة الأشخاص ضمن العلاقة لبعضهم والاعتناء ببعضهم، وتلقيهم طاقة إيجابية من التفاعلات مع بعضهم واستثمارهم بقدر متساوٍ في العلاقة.

يعدُّ توفير مساحة لجميع الأشخاص في جميع المناصب لتكوين هذه العلاقات عالية الجودة، سواء شخصياً أم افتراضياً، أمراً ضرورياً للحفاظ على المغزى؛ إليك بعض النصائح لتسهيل تكوين العلاقات ذات المعنى:

  1. أنشئ شبكات كوتشينغ ومنتورينغ بين الأقران واستثمر في التطوير الشخصي والمهني للموظفين لتنمية الأهمية والاندماج.
  2. شجِّع الاعتراف بمساهمات الأقران، ويمكنك القيام بذلك بمساعدة منصات رقمية.
  3. خصِّص الوقت والمساحة اللازمَين لتكوين علاقات صادقة وغير رسمية وذات معنى، خاصة في الفِرق التي تعمل عن بُعد.
  4. اسمح بالاستقلالية للموظفين كي يختاروا الأشخاص الذين يعملون معهم في المشاريع، وشجِّع التعاون والعمل ضمن فِرق.

أهمية تمكين المعنى كمهارة قيادية:

لا يتعلم معظم قادة الشركات تعلُّماً رسمياً عن كيفية تنمية الأهمية وترسيخ الشعور بالمعنى وتشجيع العلاقات التي تمنح المعنى؛ لكن سيكون تمكين العمل الهادف مهارة كفاءة قيادية ضرورية في القرن القادم، حتى أنَّ حياة الناس قد تعتمد عليها.

المصدر.




مقالات مرتبطة