تمتلك معظم الحيوانات المفترسة -بما في ذلك البشر- عيوناً مُوجَّهةً إلى الأمام تمنحها رؤيةً ثاقبة؛ وقد استطاع أسلافنا الأوائل بفضلِ ذلكَ التركيز بسهولةٍ على فرائسهم، وعلى الحيواناتِ ومصادرِ الخطر الأخرى التي يجبُ تجنُّبها؛ ولا تزال عيوننا مصدراً لأماننا حتَّى اليوم، فهي تمنحنا القدرة على معالجة صور العالم المتغيِّر من حولنا باستمرار.
هل تعلمُ أنَّ ما يقربُ من نصفِ المستقبلاتِ الحسية في جسمك موجودةٌ في عينيك؟
يمكن للعيون البشريةِ رؤيةُ أطوالٍ موجيةٍ للضوء المرئيِّ تصلُ إلى 700 نانومتر، والعديدِ من أطيافِ الألوان؛ كما تتحكَّمُ ستةُ عضلاتٍ خارجيةٍ لكلِّ عينٍ بحركتها المُعقدة.
تُساعدكَ عيناكَ -بين حركاتِ الجفون والحاجبين- على تكوين تعبيراتٍ يمكن التعرُّف عليها على الفور، حيثُ يبرع البشر في تفسير التواصل البصري؛ لذلك فنحنُ نفترضُ أنَّ أيَّ شخصٍ ينظرُ إلى أعيننا مُباشرةً ليس لديه ما يخفيه؛ كما أنَّ الطريقة التي تستخدم عينيك فيها للتواصلِ مع الآخرين تعكسُ عادةً ما تشعرُ أو تفكِّر فيه.
ما تقوله العيون دون التلفُّظ بكلمة:
هذا هو السبب في أنَّ التواصل البصري جزءٌ أساسيٌّ من لغةِ جسدك.
لقد سمعتَ بالتأكيد الكثيرَ من التعابير عن العيون والشخصية، مثل:
- "لا يُمكنُ الوثوق بشخصٍ له عينان مُراوغتان".
- "إنَّها تحبُّه. يمكنك رؤيةُ ذلك في عينيها".
- "لم يستطع حتى النظر إلى عينيَّ وإخباري بالحقيقة".
يشيرُ التفاعل البصري المباشر مع الآخرين إلى أنَّك واثقٌ من قدراتك، وقد يرى الناس أنَّك أكثر نجاحاً، وقد تكون لديك صفاتٌ قياديةٌ أفضلُ من أولئك الذين يشيحون بأنظارهم بعيداً عن الآخرين؛ كما قد تكشفُ نظراتك عن انجذابك إلى الطرفِ الآخر، أو يمكن أن تنمَّ عن عدوانيةٍ وخُبث.
إنَّ الذين يعانون من الاضطرابات المعرفية -مثل الأشخاص المصابين بالتوحد- معروفون بتجنُّبِ التواصل البصري مع الآخرين؛ كما يعاني الكثير من الناس ممَّن لديهم اكتئابٌ أو قلقٌ أو اضطراب فرط الحركية ونقص الانتباه (ADHD) من صعوبةٍ في تركيز بصرهم، خاصةً عندما يكونون مُنخرطين في محادثةٍ ما. ولكن بالنسبة إلى الأصحَّاء، فقد يكون العزوفُ عن التواصلِ البصريِّ عائداً إلى انخفاض تقدير الذات، والنابع من انعدامِ الثقةِ والخجل بشكلٍ أساسي.
فهمُ التواصل البصري:
قد تفترضُ أنَّ أيَّ شخصٍ ينظر إليكَ وجهاً لوجه صادقٌ فيما يقول، إلَّا أنَّه ليس كذلك بالضرورة؛ فغالباً ما يستخدم الكذَّابون المهووسون بالكذب التواصل البصري للتلاعب بالناس ليدفعوهم إلى تصديقِ أكاذيبهم، فهُم يعتادون ذلك لدرجةِ أنَّهم يستطيعون الكذب دون أن يرفَّ جفنهم؛ لذا إليكَ فيما يأتي بعض الأشياء الأخرى التي يمكن لعينيك فعلها أو إظهارها:
1. الود والإلفة:
عندما تكونُ مُحاطاً بالغرباء في الأماكن العامَّة، يُمكنُ أن تتلاقى نظراتكَ مع نظرات الآخرين من وقتٍ إلى آخر، حيث ينظر معظم الناس إلى وجوهِ الغرباء لبضع ثوانٍ فقط، ثمَّ يشيحون بأنظارهِم بعيداً؛ إذ يمكن لإطالة النظر إلى الآخرين والتحديقُ بهم، أن يُشعِرهم بالارتباك.
بالمُقابل، عادةً ما تلتقي نظراتُك مع نظرات الأصدقاء والمعارف بشكلٍ طبيعيٍّ ولمدةٍ طويلةٍ دون أن يكونَ ذلكَ مُزعجاً.
كذلك، يمكن للأصدقاء المقربين والعائلة النظر في عينيك ومعرفةُ ما تشعر به بديهياً قبل السؤال حتى، إذ يمكنك أن تقول لهم أنَّك على ما يرام؛ لكن قد تخونكَ عيناك وتُخبران من حولك بما يعتريك فعلاً.
2. السلطة والجدارة بالثقة:
إذا كنتَ تريدُ أن يحترم الآخرون سلطتك، فيجب أن تنظرَ في عيونهم مباشرةً عندما تتحدثُ معهم؛ هل سيكون لديك ثقةٌ كبيرةٌ في شخص قائدٍ خجولٍ يُشيح بنظره دائماً عن مرؤوسيه؟
سيحترمك الناس عندما تتواصل بصرياً وتبتسم بينما تُجري محادثةً معهم، أو تُخاطب مجموعةً منهم؛ وسيفترضون أنَّك شخصٌ ناجحٌ وجديرٌ بالثقة.
3. الانجذاب المتبادل:
تأتي العيون في المرتبة الثانية مباشرةً بعد القلب عندما يتعلَّق الأمرُ بالقصص والأغاني والأعمال الفنية التي تتحدثُ عن الحب والرومانسية؛ فعندما تنجذب إلى شخصٍ ما، فأنت تنظرُ في عينيه -غريزياً- كما يفعل هو أيضاً، حيثُ يوضِّحُ بحثٌ علميٌّ جديدٌ أنَّ الناس الذين ينجذب بعضهم إلى بعضٍ كثيراً ما ينظرون إلى عيون بعضهم لفتراتٍ طويلة.
هل تريد أن يكون شخصٌ تهتمُّ لأمرهِ أكثر من مجرَّدِ صديقٍ لك؟ عليكَ أن تُفكّرَ إذاً في طريقة نظركَ إليه؛ فعندما تتجنَّبُ النظرَ إليه، سيبعثُ هذا رسالةً بأنَّك غيرُ مُهتم، وأنتَ لا تُريدُ ذلكَ بالتأكيد.
غالباً ما نشعر بأنَّنا أكثر انجذاباً إلى أولئك الذين يُعبِّرون عن انجذابهم إلينا من خلال أعينهم.
4. الترهيب:
هل سبقَ لكَ أن شاهدت قطتين منغمستين في مبارزة تحديق؟ يَسمحُ التحديقُ في مملكة الحيوان بزيادةِ حجم الأفراد في عيون خصومهم؛ فعندما ترى ذلكَ الوهج في عيونهم، اعلَم أنَّ هناك صراعاً وشيكاً بين الإرادات.
ومع أنَّنا لسنا قططاً، إلَّا أنَّنا نستخدم أعيننا لترهيبِ الآخرين أيضاً، ودون تفكير غالباً؛ ولتفهمَ ذلكَ، تذكَّر تلكَ النظرةَ الحادة من والدتك عندما أسأتَ التصرُّفَ في مكانٍ عام؛ فلم يكن عليها أن تقول كلمةً واحدةً حينها، لكنَّك فهمتَ المقصود.
5. تحسين الذاكرة:
قد تنسى الأسماء؛ لكنَّك نادراً ما تنسى وجهاً رأيتهُ سابقاً، حيثُ يصيغُ دماغك مراجعَ ومُلاحظاتٍ لا تعدُّ ولا تحصى عندما تنظر في عيني شخصٍ آخر، وقد يكون انطباعك الأول عن هذا الشخص هو ما تخبركُ به عيناه؛ وهذا ما سيُحفز ذاكرة دماغك عندما تقابل الشخص مرةً أخرى وتتواصل معه بصرياً.
لهذا السبب، يشجِّعُ علماء النفس الناس على النظر إلى بعضهم بعضاً عندما يلتقون؛ ولا يقول هذا للشخص الآخر أنَّك مهتمُّ بما يقوله فحسب، ولكن من المُرجَّح أن يجعلك تتذكَّره وتتذكَّر هذه المحادثةَ طويلاً.
الأشكال المختلفة لتجنُّب النظر في العيون (هل تمتلك إحداها؟):
كيف يمكنك استخدام التواصلِ البصريِّ المناسب لصالحك؟ هل تريد أن تعطي انطباعاً بالصدق والثقة بالنفس؟ إليكَ إذاً بعض الطرائق المفيدة لتحديد مشاكل التواصل البصري الشائعة وكيفية تحسينها:
1. النظرة المنخفضة:
يُعدُّ النظر إلى شخصٍ ما في عينيه مباشرةً وقاحةً في العديد من الثقافات، ولا سيما النظرَ في عيون أولئكَ الذين يملكون السُلطة، حيثُ تُظهِر النظرة المنخفضة التبجيل والاحترام والتواضع؛ لكن لسوء الحظ، غالباً ما اعتاد بعض الناس إبقاء رؤوسهم وعيونهم منخفضةً كعلامة على الولاء والخنوع.
إذا كانت نظرتك منخفضةً، فدرِّب نفسك على رفعِ رأسك والنظر في عيونِ الآخرين، ودَع عينيك تُظهِران أنَّك ودودٌ وذكيٌّ ولا تخضع لأحد.
2. عيون الدمية:
هل سبق أن رأيت واحدةً من تلكَ الدمى المميزة بابتسامتها العابثة ونظرتها الجانبية الرائعة، وتساءلت فيما يفكرون؟
سواءٌ كان ذلك من التوتر العصبي أم السلوك المُكتسب، إلَّا أنَّه كثيراً ما يتجنَّب الأشخاص التواصل البصري المباشر من خلال النظر إلى الجانب أو إلى زاويةِ الغرفة.
غالباً ما يواجهُ الأشخاص الذين تشبه نظراتهم نظرات الدمى وقتاً صعباً عندما يكونون في موضعِ القيادة ويتوجَّبُ عليهم مخاطبةُ مجموعةٍ من الناس، فهل أنت واحد من هؤلاء الذين يبقون أعينهم ملتصقة في الزاوية بدلاً من مواجهةِ الجمهور؟ إذا كُنتَ كذلك، فعليكَ أن تتدرَّب على التحدّثِ أمامَ المرآة، وأن تُمرِّنَ عينيك للنظر إلى عيون مستمعيك.
3. الرَّمش السريع:
يُعاني بعضُ الناس من التوتر الذي قد يظهرُ من خلالِ عيونهم، خاصةً عندما يتكلّمون أمام الناس؛ فهُم يعانون من ارتعاش العينين، وبينما يحاول هؤلاء إبقاء أعينهم مُركِّزةً خلال المحادثة، فكلُّ ما يمكن للآخرين رؤيته هو سلسلةٌ من الرمشات والتشنجات التي لا تنتهي؛ وإذا سيطروا تدريجياً على جفونهم، فقد يتحول الرَّمش السريع أيضاً إلى نظرةٍ منخفضةٍ أو نظرة دمية.
قد لا يرمشُ بعض الأشخاص فحسب، ولكن غالباً ما يتحدَّثون وعيونهم مغلقة، وقد يفتحون عيونهم من حينٍ إلى آخر ليرمشوا قليلاً، أو للاعتراف بما يقوله الشخص الآخر؛ لكنَّ تواصلهم البصري يبقى محدوداً.
استشِر مقدِّم الرعاية الصحية المُختص إذا أردتَ علاج عادةِ الرَّمش السريع وإجراء تواصل بصري جيد؛ لأنَّ الرَّمش السريع قد يكون عرضاً لحالةٍ جسديةٍ أو عقلية؛ كما عليكَ أن تتدرَّب على إبقاء نظرك ثابتاً وإراحة عينيك ما أمكن.
4. إرِاحة عينيك:
رغم أنَّ إجراء تواصلٍ بصريٍّ جيد شيءٌ مفيد في المحادثة، إلَّا أنَّه لا ينبغي المبالغة فيه؛ فعندما تُجري مناقشةً مع شخصٍ آخر، فإنَّ بعض حركاتِ العين ستكون مقبولةً تماماً، وسيكون التوقف المدروس لإلقاء نظرةٍ والتفكير فيما يقوله الشخص مفيداً؛ لأنَّ التحديق المستمر سيُضايقُ الآخرين ويُربِكهم.
5. التدريبُ يصنعُ التقدُّم:
يتحدثُ بعض الناس بشكلٍ طبيعي؛ ولكن يمكنكَ تعلُّم هذه المهارات من خلال الممارسة، حيثُ يمكنك التدرُّب على التواصل البصري المناسب مع الآخرين أمام المرآة أو مع صديقٍ موثوق، حيثُ سيُساعدكَ التدرُّبُ على ذلكَ إذا كُنتَ تُعاني من أحد أنماطِ التواصلِ البصري التي تحدّثنا عنها.
درِّب نفسك على إراحةِ نظرك حسب مستوى عين الشخص الآخر بينما تتحدَّث إلى المرآة، أو إلى شريكك في التمرين،؛ فإذا كان يرتدي نظارات، فيمكنك التركيز على الحواف أو النظر إلى حاجبيه إذا شعرتَ بالارتباك عندَ النظر مُباشرةً في عينيه.
حافِظ على تركيزِ بصركَ، واطلب من شريكِكَ تقييمَ نظرتكَ وتنبيهكَ عندما تتجنَّبُ التواصلَ المُباشرَ بالعيون.
في الختام:
يُمكنُ لاستخدام التواصلِ البصري السليمِ في حياتِك المهنيّةِ والشخصيةِ أن يُخبرَ الآخرين الكثير عنك؛ لذا أظهِر للناس أنَّك شخصٌ واثقٌ من نفسه ويمكنه القيام بالتواصل البصري المُناسب، وستكتشف أنَّ الناس سيكونون أكثر ميلاً إلى الثقة بك، وسيرون الشخصَ الواثق والرائع الذي أنتَ عليه في الحقيقة.
أضف تعليقاً