ينعزل كبار السن بسبب ابتعاد الأبناء ووفاة الأصدقاء أو انشغالهم، كما قد يبقى الوالدان في المنزل لرعاية أطفالهم، ومن مروا بتجارب انفصال أو طلاق، قد يجدون أنفسهم وقد انقطعت عنهم شبكات الدعم الاجتماعي التي كانوا يعتمدون عليها.
كيف يؤثر العمل عن بُعد في الشعور بالوحدة؟
يكون المنزل في الحالات المذكورة جميعها هو المسرح الرئيس للعزلة الاجتماعية، ولكن، ماذا لو أصبح منزلك أيضاً هو مكان عملك؟
كان العمل سابقاً بالنسبة للملايين حول العالم المتنفَّس الاجتماعي الوحيد، وكان الزملاء هم الأشخاص الذين نتفاعل معهم يومياً نتحدث، ونضحك، ونتبادل الشكوى، وربما نختلف أحياناً، وبمعنى آخر، نعيش إنسانيتنا معهم. لكنَّ تغيُّرات العمل الجذرية الأخيرة، حرَمت هؤلاء من هذا الحبل الاجتماعي الوحيد.
كانت جائحة "كوفيد-19" المحفِّز الذي دفع الشركات إلى اعتماد نماذج العمل الهجين، ولا تزال كثير منها متمسكة بهذا النموذج لما يوفره من تقليل التكاليف، إضافةً إلى توافقه مع رغبات الموظفين في المرونة.
بدأت تغيرات حركة الاقتصاد ونمط الدوام قبل الجائحة، وأصبحت سنوات العمل الطويلة في شركة واحدة من الماضي، بفعل الابتكارات التكنولوجية، وانتشار العمل المؤقت والمستقل (gig economy)، والإقبال على العقود المرنة.
ظهَرَت قِوى عاملة مجزَّأة ـ مع تراجع النموذج التقليدي للعمل ضمن بيئة جماعية ولساعات محددة ـ عمِلَت كل منها بمعزل عن الأخرى، وفق جداول زمنية مخصصة، وغالباً من أماكن جغرافية مختلفة تماماً.
صحيح أنَّ هذه التغيرات منحت الأفراد وقتاً أطول مع العائلة والأصدقاء، لكنَّها طرحت أسئلة عميقة حول جودة العلاقات الاجتماعية داخل بيئة العمل.
الوحدة في بيئة العمل ليست ظاهرة جديدة، لكنَّها كانت تُنسب سابقاً إلى فئات معيَّنة، مثل كبار المديرين (الذين قيل عنهم "الوحدة في القمة")، ورواد الأعمال، والموظفين المغتربين. أمَّا اليوم، فقد أدت التحولات والتوجهات الحديثة، خصيصاً العمل المستقل عن بُعد، إلى انتشار هذه الظاهرة لتشمل شرائح أوسع من الموظفين.
ما هي الوحدة بالضبط؟
كلَّفت مؤسسة "الصحة النفسية في المملكة المتحدة" (Mental Health UK) في عام 2022 مؤسسة "يوغوف" (YouGov) بإجراء دراسة حول واقع الوحدة بين العاملين في بريطانيا. شمل الاستطلاع ما يزيد عن 2000 مشارك، بينهم 1105 عاملين، لاستكشاف تجاربهم مع الوحدة في العمل وتأثيرها المحتمل في صحتهم النفسية.
تعرِّف منظمة الصحة العالمية الوحدة بأنَّها "الانزعاج الناتج عن غياب الروابط الاجتماعية المُرضية". وهي تختلف عن العزلة الاجتماعية التي تعني انخفاض عدد العلاقات الاجتماعية أو غيابها.
كشفَت الدراسة أنَّ 1 من كل 5 موظفين (20%)، يشعر بالوحدة خلال يوم العمل الاعتيادي، كما أقرَّ قرابة ربع المشاركين (23%) بأنَّ هذه الوحدة، أثرت سلباً في صحتهم النفسية.
أمَّا عن الأسباب التي تمنع الموظفين من التحدث عن وحدتهم، فقد أشار 53% إلى عدم توفر الوقت أو الفرص خلال ساعات العمل، بينما أوضح 50% أنَّ ثقافة الشركة، لا تشجع الحديث عن الصحة النفسية، إضافةً إلى القلق من ردود فعل المديرين.
شاهد بالفيديو: 4 نصائح للحفاظ على الصحة العقلية والنفسية للفريلانسرز والعاملين عن بعد
مَن هُم المُعرَّضون للوحدة في العمل؟
أظهرت الدراسة أنَّ الموظفين الأصغر سناً، خصيصاً في الفئة العمرية من 18 إلى 24 عاماً، هم المتأثِّرون بالوحدة في بيئة العمل؛ إذ أقرَّ 39% منهم بأنَّهم يشعرون بالوحدة، مقارنةً بـ 18% من الفئات العمرية الأخرى.
كما أنَّ هؤلاء الشباب هم المُدركون لتأثير الوحدة في صحتهم النفسية؛ إذ أفاد بذلك 41% من الفئة العمرية 18-24 عاماً، و30% من فئة 25-34 عاماً، مقارنةً بـ 17% في فئة 45-54 عاماً، و15% فقط في الفئة العمرية فوق 55 عاماً.
تتعدد العوامل التي تساهم في تفاقم الشعور بالوحدة في العمل، وأبرزها قلة التواصل مع الزملاء والمديرين، وقد أشار 45% و42% من العاملين البريطانيين على التوالي إلى هذه النقطة. وأظهرت الدراسة أنَّ الشباب هم الفئة المُتأثِّرة بهذه العوامل.
ما الذي يمكن أن تفعله الشركات والأفراد؟
ليس بالضرورة أن تُنفق الشركات أموالاً كثيرة للتعامل مع مشكلة الوحدة في بيئة العمل، فهناك كثير من الخطوات البسيطة والفعالة التي يمكن أن تُحدث فرقاً.
كيف تساعد المؤسسات موظفيها؟
يجب على المؤسسات أن تحدد عناصر بيئة العمل التي تعزز العزلة الاجتماعية بين الموظفين، وتطرح حلولاً إبداعية، مثل تقليل ضغط العمل وتشجيع فرص التلاقي والتواصل. تعزز أيضاً ثقافة مؤسسية شاملة تحتضن الاختلاف، وتدعم التنوع، وتبني علاقات اجتماعية صحية.
يوفر تنظيم فعاليات تفاعلية، مثل برامج المنتورينغ، والنشاطات الاجتماعية، وبناء الفِرَق، فرصاً للتواصل الإنساني الحقيقي. كما تعزز اللقاءات المباشرة، ولو كانت متقطعة الروابط وتكسر جليد الوحدة.
يجب أن يحدد كل موظف نوع العلاقات الاجتماعية التي يحتاج إليها، هل يفضل علاقات قوية ومحدودة، أم علاقات واسعة ولكن سطحية؟ يساعد هذا التحديد على إدراك اللحظة التي تتطلب تدخُّلاً لمعالجة الوحدة.
يجب على كل فرد أن يقيِّم العوامل الشخصية التي قد تعوق تواصله مع الآخرين، سواء كانت سمات شخصية، أم ضعفاً في المهارات الاجتماعية، أم انخفاض الدافعية؛ إذ يبني هذا الوعي الذاتي علاقات اجتماعية صحية.
يتغير المزاج، والطاقة، والوقت يومياً، ولكن تُستثمَر هذه العوامل لتحقيق أهدافنا الاجتماعية، ولو بخطوات صغيرة ومتراكمة.
في الختام
يظل البعد الإنساني في عالمٍ يتسارع تجاه الرقمنة والمرونة حجر الزاوية في بيئات العمل الصحية والمستدامة. فقد كشفت الوحدة عن وجه جديد لها، لا يتعلق فقط بالغياب الفيزيائي للآخرين؛ بل بانقطاع الروابط الإنسانية التي تمنحنا الشعور بالانتماء والمعنى.
لا تعد مواجهة عزلة الموظف عن بُعد ترفاً؛ بل ضرورة نفسية ومهنية في آنٍ معاً. فكلما أدركت المؤسسات أهمية بناء بيئة عمل داعمة وعلاقات حقيقية، وكلما التفتَ الأفراد إلى احتياجاتهم الاجتماعية وأخذوا زمام المبادرة، بنينا بيئة عمل متوازنة، وإنسانية، وصحية.
أضف تعليقاً