هذا ما دفع فرويد إلى تطوير مفهوم الكبت، فإنَّ كثيراً من الأعراض الجسدية مرتبطة بأشياء حدثت في الماضي، ونحن نقوم بكبت الذكريات لحماية أنفسنا، وأنَّه يجب علينا اللجوء إلى التحليل النفسي من أجل الكشف عنها، ومن ثمَّ التحرر منها، ومن هنا جاءت عملية التحليل النفسي برمتها التي قامت على فكرة أن يستلقي المرضى على الأريكة ويتحدثون عن طفولتهم.
لماذا الذكريات المكبوتة هامة؟
هذا المفهوم للذكريات المكبوتة أصبح مثيراً للجدل؛ ويرجع ذلك إلى الطريقة التي تعمل بها هذه الذاكرة.
الآن، يفترض معظم الناس أنَّ الذاكرة تشبه الفيديو، فتُسجِّل الأشياءَ كما حدثت بالفعل وتُخزِّنها على نحوٍ دائم؛ لكنَّ الذاكرة لا تعمل هكذا؛ إذ إنَّ الذكريات تتأثر بشدة بتحيُّزاتِنا وكيف نشعر في أثناء الحدث أو بعده؛ لذلك حتى فرويد يعلم أنَّ العديد من الأشياء التي يتذكرها مرضاه لم تكن أحداثاً حقيقية، فيمكن تغيير الذكريات والتأثير فيها بصورة مباشرة بناء على اقتراح أو سؤال، وأظهرت كثير من التجارب المعملية أنَّ ذاكرتنا متقلِّبة بصورة رهيبة.
الذاكرة ليست سجلَّاً دقيقاً:
تشير الدراسات إلى إمكانية التأثير في الناس لتذكُّر أشياء لم تحدث أبداً؛ فإذا لم تكن الذاكرة تسجيلاً دقيقاً لما حدث بالفعل، فما هي؟ يقول الباحثون إنَّ الذاكرة ليست مستودعاً للتجارب الماضية؛ لكنَّها أداة يستخدمها دماغنا لإنشاء مفهوم ذاتي مستقر.
نادراً ما تكون الذكريات نسخة طبق الأصل من الماضي، بدلاً من ذلك غالباً ما تُجمَّع الذكريات معاً في سياقات معقولة ولكن ليس بالضرورة أن تكون روايات دقيقة، فإنَّها تستند إلى المعتقدات والمشاعر والحدس والتخمينات وشظايا الذاكرة؛ لذلك يمكن إنشاء الذكريات وتغييرها.
شاهد بالفيديو: كيف تنسى الذكريات المؤلمة نهائياً؟
هل يمكن للإنسان أن ينسى الصدمات؟
هل من الممكن أن ننسى شيئاً هامَّاً مثل الصدمة؟ حصل نقاش حاد بين الباحثين والأطباء طوال عقود في هذه المسألة، لكن في السنوات الخمس عشرة الماضية أظهرت الأبحاث أنَّ الإجابة هي: "نعم، هذا ممكن".
معظم الناس ليس لديهم ذكريات قبل سن الثالثة، وتُظهِر الأبحاث أنَّ العديد من البالغين الذين يتذكرون تعرضهم للإيذاء الجنسي عندما كانوا أطفالاً يمرون بفترات لا يتذكرون فيها هذه الحادثة السيئة.
في كتاب "The Body Keeps the Score"، تحدَّث "Bessel van der Kolk" عن دراسة أُثبِتَت فيها وقائع الإساءة وتمَّ التحقق منها، ودوِّنَت، ثمَّ قوبِلَ الناجون بعد سنوات، ووُجِدَ أنَّ هؤلاء لم يعودوا يتذكرون تلك الإساءات التي ارتُكِبَت.
لماذا حُظِر العلاجُ باستعادة الذكريات المكبوتة؟
عاد ظهور علاج الذاكرة المكبوتة في التسعينيات، فكان الأطباء يدفعون المرضى باستمرار إلى استعادة الذكريات المنسية، ثمَّ يستخدمون أدوات مثل التنويم المغناطيسي لاستكشاف الذكريات المفقودة، وقد أدى ذلك إلى إنشاء ذكريات خاطئة وكثير من الذكريات المؤذية.
أظهرت الأبحاث أنَّ الذكريات التي أُنشِئت غالباً ما يكون لها الموضوع نفسه الذي يقترحه الطبيب؛ لذلك إذا اقترح الطبيب الاعتداء الجنسي فسيكون لدى المريض ذكريات عن الاعتداء الجنسي، وإذا اقترح الطبيب اختطاف كائن فضائي فسيتذكر المريض ذلك أو ما يشبهه؛ لذلك كانت هذه مشكلة كبيرة، وقد أدى ذلك بالعديد من علماء النفس والباحثين إلى معارضة أي نوع من العلاج يسعى إلى استعادة الذكريات المكبوتة بشدة.
معاملة الصدمة في الوقت الحاضر وليس في الماضي:
تقول الدكتورة "إيما ماك آدم": "الآن، أنا طبيبة أعمل مع كثير من ضحايا الصدمات، ووجدت أنَّهم غالباً ما يتذكرون الصدمة التي نسوها".
على سبيل المثال كان لدي مريضة قد آذاها زوج والدتها سابقاً، وقد تذكرت كثيراً من الإساءات وقررت توجيه الاتهامات، وقد اعترف وأُدِينَ بالفعل، وهو أمر صادم؛ لأنَّ هذا نادراً ما يحدث، وبعد أكثر من عام من العلاج ستظهر ذكريات مؤلمة جديدة لم تتذكرها من قبل.
لكنَّني لم أحث مرضاي عن قصد على تذكُّر شيء ما، لقد تدربت في أماكن متعددة بما في ذلك في مركز علاج الأزمات لطرح الأسئلة بعناية بطريقة لا تقترح أو تؤدي إلى أي إجابة محددة.
في عملي في جلسة علاجية أعمل مع الصدمة في الوقت الحاضر، وليس في الماضي، فأنا ببساطة لا أحاول دفع المرضى لاستحضار الذكريات المنسية.، وبناءً على الدراسات وتجربتي الشخصية أرى أنَّه يمكن نسيان ذكريات سوء المعاملة أو الصدمة.
كيف ننسى الصدمات في بعض الأحيان؟
كيف يكون ذلك ممكناً؟ كيف يمكن أن ننسى الصدمة؟ إحدى الفرضيات المتعلقة بكيفية نسيان الصدمة هي التفكك، فعندما تواجه خطراً ما يتحول دماغك وجهازك العصبي من الشعور بالأمان إلى حالة التنشيط أو التحفز الشديد – استجابة القتال أو الهروب – وإذا كان الهروب مستحيلاً فتدخل في حالة من التجمد.
في حالة التجمد يُكوِّن جسدك استجابة غريزية وهي التوقف أو الانفصال عقلياً أو عاطفياً عن تجربتك الحالية، قد تشعر بالإرهاق أو التخدير أو الارتباك، وقد يخدم هذا الانفصال وظيفة وقائية للمساعدة على الدفاع عنك ضد الألم والمعاناة التي لا يمكنك الهروب منها.
من الممكن أيضاً ألَّا تُخزِّن الذاكرة في هذه الحالة بالطريقة نفسها، يتفاعل دماغك بصورة مختلفة تحت الضغط؛ لأنَّه يركز على البقاء، ولا يعالج المعلومات بطريقة منظمة، وقد تكون ذكريات الصدمة مشوشة أو حسية أو تحوي فجوات كبيرة.
لماذا ننسى الصدمات المؤلمة؟
يفترض بعض الأطباء أنَّ هذه الذكريات مُخزَّنة بطريقة لا يمكن استرجاعها إلا في حالات معينة؛ لذلك إذا كنت قد تعرضت لصدمة نفسية جراء حادث سيارة عندما كنت طفلاً؛ لكنَّك لا تتذكره، وبعد ذلك عندما أصبحتَ بالغاً رأيت حادث سيارة فقد تسترد ذاكرتك هذا الموقف؛ لأنَّ عقلك يتذكر ما شعرت به في ذلك الوقت.
عندما تكون الذاكرة مؤلمة جداً أو مرهقة جداً فهل من الممكن أن يقمعها دماغك لحمايتك؟ أن يقوم دماغك بإيقاف الذاكرة لأنَّك لست قوياً بما يكفي لمواجهتها أو ربما لا تمتلك المهارات الكافية لمعاملة تلك الذاكرة المؤلمة في تلك اللحظة.
أو ربَّما ما تزال في بيئة خطرة أو ليس لديك الدعم الذي تحتاج إليه لمعاملة تلك الذكريات، ولكن بعد ذلك عندما تصبح أكبر سناً أو أكثر قوة أو لديك مهارات جديدة فإنَّ عقلك سيقول: "حسناً يمكنني السماح بمعالجة هذه الذكريات الآن؛ لأنَّني أعلم أنَّه من الممكن معاملتها الآن".
هل ذكرياتي حقيقية؟
قد يسأل الناس أنفسهم: "هل ذكرياتي حقيقية؟"، لا أحد يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال، لا يوجد اختبار يمكنه التمييز بين حدث حقيقي والذاكرة التي أُنشِئت ولم تحدث في الواقع، ولكن من منظور نفسي إنَّ معرفة كيف نفكر ونشعر بذكرياتنا يمكن أن يكون مفيداً لنا في الوقت الحاضر.
اكتشف كيفية عمل الذكريات:
إذاً ماذا تفعل؟ ماذا تفعل إذا شعرت أنَّك لا تستطيع تذكُّر شيء هام، أو ربما أخبرك شخص ما بصدمة لا يمكنك تذكُّرها؟ أول ما يوصى به هو تثقيف نفسك فيما يتعلق بكيفية عمل الذكريات.
عادة ما نتذكَّر الذكريات التي نسترجعها، لكن هذا لا يعني أنَّنا قادرون على تذكُّرها بدقة؛ لذا لمجرد أنَّك لا تستطيع تذكُّر شيء ما لا يعني أنَّ لديك صدمة، ويمكن أن تُشوَّه الذكريات وتُختلق وتُنسى، وفي كل مرة تقوم فيها باسترداد الذكريات فإنَّك تعدِّل عليها، ثمَّ تخزنها مرة أخرى.
اختر معالجاً مدرباً:
اختر معالجاً مدرباً دون أن يدفعك لتذكُّر شيء ما، يجب ألا يرشدك المعالج أو ينومك مغناطيسياً لتتذكَّر شيئاً ما، لا ينبغي أن يقنعك أنَّك تعرضت لإساءة لا تتذكرها بناءً على الأعراض، كما يجب ألا يدفعك إلى إنهاء علاقتك مع بعض الأشخاص أو توجيه اتهامات أو مواجهة شخص ما.
يجب أن يسمح لك باتخاذ قراراتك بنفسك، ويجب أن يسير معك بصفته مستشاراً، ويساعدك على توضيح ما تفكر فيه وتشعر به، ولكن يسمح لك اختيار ما يجب فعله بحرية.
في الختام:
تذكَّر أنَّه ليس من مهمة المعالج أن يدفعك لتذكُّر الأشياء أو الحكم على ما إذا كانت ذكرياتك صحيحة أم خاطئة، قد يكون هذا ضاراً، فتتمثل وظيفة المعالج في مساعدتك على تعلُّم المهارات لإدارة أفكارك ومشاعرك وأحاسيسك في الوقت الحاضر، ومساعدتك على تعلُّم المهارات لاستعادة الشعور بالأمان وأن تحيا الحياة التي تريد أن تعيشها.
أضف تعليقاً