ومن جانبها، تركز نظرية الانفصال على مواجهة التحديات والصعوبات التي قد تواجه الفرد في مسار حياته، وتعزيز قدرته على التكيف والتحمل.
يهدف هذا المقال إلى استكشاف نظرية الانفصال ودورها في تطوير دفاعات نفسية قوية، وتسليط الضوء على الفروقات بينها وبين نظرية التعلق، فتابعوا معنا.
ما هي نظرية الانفصال ودورها في تطوير دفاعات نفسية قوية؟
نظريةُ الانفصال هي نظريةٌ نفسية تجمع بين النظريات النفسية التحليلية والوجودية لشرح كيفيَّة تعاملِ البشر مع الألم البيني البدئي وقلقِ الانفصال وقلق الموت، ولقد وُضِعت النظرية من قِبل الدكتور "روبرت فايرستون"، وهو عالِم نفسٍ سريريٍّ ومؤلِّف، الذي اقترح أنَّ الناس يُطوِّرون دفاعات نفسية قوية لحماية أنفسهم من المعاناة العاطفية، ولكن هذه الدفاعات تقيِّدهم أيضاً عن تحقيق إمكاناتهم للنموِّ والسعادة.
وفقاً لنظرية الانفصال، يمكن رؤية الحياة البشرية على أنَّها سلسلة من تجارب الانفصال المتتالية، تبدأ من الولادة وتنتهي بالموت، الانفصال النهائي، وتثير هذه التجارب قلقاً وضغطاً، فيحاول الناس تجنبها من خلال تكوين روابط مع الآخرين والبحث عن الراحة والأمان، ومع ذلك، تشكل هذه الروابط أيضاً تهديداً لشعور الفرد بالانفرادية والاستقلال، وهذا يعزز صراعاً بين الرغبة في الاقتراب والحاجة إلى الانفصال، ويُكشف هذا الصراع وعي الموت، الذي يجعل الناس يدركون أنَّهم في النهاية وحدهم وأنَّ روابطهم مؤقتة وهشة.
للتعامل مع هذا الصراع، يُطوِّر الناس "رابطة خيالية"، وهي شعورٌ مزيَّفٌ بالاتِّصال والأمان يَحلُّ محلَّ الرابط العاطفيِّ الحقيقيِّ مع شخص آخر، وتستند الرابطة الخيالية إلى أوهام وتصوُّرات، وتُقلِّل من القلق والألم الناتج عن الانفصال، ولكنَّها أيضاً تقلِّل من جودة وحميميَّة العلاقة.
كما تؤدِّي الرابطةُ الخياليَّةُ أيضاً إلى تكوين "الذات الكاذبة"، وهي صورةٌ ذاتيَّةٌ مشوَّهةٌ ودفاعية تتماشى مع توقُّعات ومطالبِ الآخرين، خصوصاً والديها، فتكبح الذاتُ الكاذبةُ المشاعرَ والاحتياجات والرغبات الأصلية لـ "الذات الحقيقية"، وهي التعبير الحقيقيُّ والفريد عن شخصية الفرد.
الرابطة الخياليَّةُ هي أساسُ جميعِ الدفاعات النفسية، التي تكون مؤثِّرةً في الطفولة ولكنَّها غير مؤثِّرة في البلوغ، وتشمل هذه الدفاعات الإنكار والتصوُّر والتبرير والعزلة والتراجع والتحديد، وتشوِّه الواقعَ وتؤثِّر سلباً في العلاقات، وتُضعِفُ تقدير الذات، كما تمنع الناس من تجربةِ مشاعرهم بالكامل، خاصةً الحزن والغضب والفرح، ومن خلال تجنُّب هذه المشاعر يفقد الناس الاتصال بذواتهم الحقيقية وإمكاناتهم البشرية.
تقترحُ نظريةُ الانفصال أنَّ هدفَ التنمية النفسية والعلاج هو التغلُّب على الرابطة الخيالية والذات الكاذبة، واستعادة الذَّاتِ الحقيقية وقدرة الحبِّ والإبداع، وهذا يتطلَّب مواجهة وحل المصادر الأساسية للقلق والألم، وتطوير رؤيةٍ أكثرَ واقعيَّةٍ ورحيمةٍ للذات والآخرين، كما تؤكِّد نظريةُ الانفصال على أهميَّة العثور على معنى وغاية في الحياة، ومواجهة الموت بشجاعةٍ وقبولٍ.
تاريخ نظرية الانفصال:
يمكن تتبع تاريخ نظرية الانفصال إلى مصادر مختلفة، مثل:
1. النظريات القديمة والوسيطة للحكومة المُختلَطة:
التي اقترحت أنَّ عمليات الحكومة ينبغي أن تشملَ العناصرَ المُختلِفة في المجتمع، مثل الأهداف الملكية والأرستقراطية والديمقراطية.
2. التقليد النفسي التحليلي:
الذي أكَّد على أهمية الدوافع اللَّاواعية والإصابة البينيَّة وآليات الدفاع والتطورِ النَّفسيِّ الجنسيِّ.
3. علم النفس الوجودي:
الذي ركَّز على أهميَّة الوعي بالموت والموت في الشخصية، إضافة إلى قضايا أخرى مُتعلِّقة بالكينونة، مثل الاستقلالية والتمييز والأهداف التفوُّقية.
4. أعمال "روبرت فايرستون" الذي دمج الأنظمة النفسية التحليلية والوجوديَّة:
واقترحَ أنَّه يمكن تصوُّر حياةَ الإنسانِ على أنَّها سلسلةٌ من تجارب الانفصال المُتعاقِبة تنتهي بالموت، الانفصال النهائي.
تحاول نظرية الانفصال تَوليف النظامَين وتقديم فهمٍ شاملٍ لتطوُّر شخصية الإنسان والرفاهيَّة النفسية.
شاهد بالفديو: نصائح لعلاج اضطراب التعلق المرضي
الفرق بين نظرية الانفصال ونظرية التعلُّق:
نظرية الانفصال ونظرية التعلُّق هما إطاران نفسيَّان يشرحان كيفيَّة تكوين الناس لروابط عاطفية وكيفيَّة التعامل مع قلق الانفصال وقلق الموت، ومع ذلك، ثمة بعض الاختلافات في افتراضاتها وتركيزها وتداعياتها. فيما يأتي بعض النقاط الرئيسة للمقارنة:
تقوم نظرية الانفصال على التقليد النفسي | بينما تتأثَّر نظريَّةُ التَّعلُّق بالسلوك الأنثويِّ وعلم النفس التطوريِّ |
تؤكِّد نظرية الانفصال على تطوير الانفصالية والاستقلاليَّة والهويَّة | بينما تؤكِّد نظريةُ التعلُّق على تطوير الأمان والقرب والراحة |
تُعِدُّ نظرية الانفصال الرابط عاملاً من مصادر القلق والدفاع | بينما تُعِدُّ نظرية التعلق الرابط مصدراً للحماية والمرونة |
تقترح نظرية الانفصال أنَّ الناسَ يحتاجون إلى التحرُّر من رابطتهم الخيالية ومواجهة الواقعيَّات الوجودية للحياة والموت | بينما تقترح نظرية التعلُّق أنَّ الناسَ يحتاجون إلى الحفاظ على قاعدةٍ آمنةٍ واستكشاف العالم بثقةٍ |
تقترح نظرية الانفصال أنَّ الرفاهَ النفسيَّ يعتمِدُ على التغلُّب على دفاعات الشخص وإعادة الاتصال بالذات الحقيقية | بينما تقترح نظرية التعلُّق أنَّ الرفاه النفسيَّ يعتمد على وجود مربِّين استجابيين ومسؤولين |
مراحل التعلُّق:
مراحل التعلُّق هي مراحلُ الارتباط العاطفي التي تحدث بين الرُّضَّع ومُقدِّمي الرعاية، كما هو موضَّحٌ في مختلف النظريات النفسية، ونستعرض فيما يلي نظريتين من نظريات التعلق وهما:
أولاً: نظرية التعلُّقِ
وإحدى أكثر النظريات تأثيراً هي نظرية التعلُّقِ، التي وضعها "جون بولبي" و"ماري آينزورث"، والتي تَقترِح أربع مراحل للارتباط.
1. المرحلة السابقة للتعلُّقِ (من الولادة إلى 6 أسابيع):
يُظهِر الرُّضَّع سلوكات غريزية، مثل البكاء والابتسام، التي تجذب انتباه مقدمي الرعاية واستجابتهم، ولكنَّها لا تُفضِّل مقدِّمَ رعايةٍ مُحدَّدٍ.
2. المرحلة القائمة على التعلُّق (من 6 أسابيع إلى 7 أشهر):
يُطوِّر الرضع شعوراً بالثقة في الأشخاص الذين يستجيبون لاحتياجاتهم، ويبدؤون في التَّعرُّف إلى الوجوه المألوفة وتفضيلها.
3. المرحلة الواضحة للتعلق (من 7 إلى 24 شهراً):
يُشكِّل الرُّضَّع ارتباطاً محدداً بالراعي الرئيس، ويَسعون إلى القرب والراحة عندما يكونون في حالةٍ من الضيقِ أو التهديد، كما يُظهِرون قلقَ الانفصال عندما يُغادِر مُقدِّم الرعاية، وقلقَ الغريب عندما يَقترِب منهم أشخاصٌ غير مألوفين.
4. تشكيل العلاقات المُتبادَلة (من 24 شهراً وما فوق):
يكتسب الرُّضَّع مهارات لغوية وقدرات معرفية تساعدهم على فهم سلوك مُقدِّم الرعاية ونواياه، وضبط سلوكهم بناءً على ذلك، كما يصبحون أكثر استقلالية ويستكشفون العالم بثقةٍ، مع الحفاظ على قاعدةٍ آمنةٍ مع مُقدِّم الرعاية.
ثانياً: نظريةُ الفصلِ والتَّمييزِ
نظرية أُخرى تصف مراحل التعلُّق هي نظريةُ الفصلِ والتَّمييزِ، التي وضعتها "مارجريت مالر"، والَّتي تُركِّز على تطوُّر شعورِ الرضيع بالذات والهوية، إضافة إلى الفصل عن مُقدِّمي الرعاية، وتقترح هذه النظرية ستَّ مراحلٍ للتَّعلُّق:
1. المرحلة الباردة الاستقلالية (من الولادة إلى شهر واحد):
يكون الرُّضَّع غالباً غير مدركين لبيئتهم ومُقدِّمي الرعاية لهم، ويتمركزون على الإحساس بأجسامهم واحتياجاتهم.
2. المرحلة التكاملية الطبيعية (من شهر واحد إلى 5 أشهر):
يصبح الرُّضَّعُ أكثرَ وعياً بمقدِّمي الرعاية لهم، ويُدركونهم كتمديدات لأنفسهم، ولا يُميِّزون بين أنفسهم وبين الآخرين بَعدْ، ويعتمدون على مُقدِّمي الرعاية لتنظيم عواطفهم وتحفيزهم.
3. التمييز (من 5 إلى 10 أشهر):
يبدأ الرُّضَّع في إدراك أنَّهم مُختلِفون عن مُقدِّمي الرعاية لهم، ويبدؤون في استكشاف بيئتهم وقدراتهم، كما يُظهِرون علامات التعلُّق، مثل الابتسام والوصول والتحدث، لجلب انتباهِ مُقدِّم الرعاية واستجابته.
4. الممارسة (من 10 إلى 16 شهراً):
يُصبحُ الرُّضَّع أكثرَ حركيَّةً وفضولاً، ويمارسون المهارات التي اكتسبوها حديثاً، مثل الزحف والمشي واللَّعب بالأشياء، كما يُطوِّرون شعوراً بالاستقلالية والتَّمكين، ويُظهرون اهتماماً أقلَّ بوجود مُقدِّم الرعاية، ومع ذلك، فإنَّهم ما يزالون يعتمدون على مُقدِّم الرعاية في الأمان والدعم عندما يواجهون التحديات أو المخاطر.
5. الاقتراب (من 16 إلى 24 شهراً):
يَختبِر الرُّضَّع صراعاً بين رغبتهم في الاستقلال وحاجتهم للتبعيَّة، ويرغبون في استكشاف المزيد وتأكيد إرادتهم، لكنَّهم يشعرون أيضاً بالضُّعف وعدم الأمان دون قرب وموافقةِ مُقدِّم الرعاية، وغالباً ما يبحثون عن انتباهِ وتأكيدِ مُقدِّم الرعاية، ويظهرون تناقضاً أو مقاومَةً أو عدوانيَّةً عندما يحاول مُقدِّم الرعاية تقييد سلوكهم أو تركهم وحدهم.
6. ثبات الكائن (من 24 إلى 36 شهراً):
يُحقِّق الرُّضَّع شعوراً مُستقراً ومتكاملاً بالذات والهوية، وصورة واقعيَّة ومتَّسقة لمُقدِّم الرعاية، كما يُطوِّرون القدرةَ على تداخل وجود مُقدِّم الرعاية وتوجيهاته، والتعامل مع الفصل والإحباط، ويمكنهم تكوين علاقات ذات معنى مع الآخرين، والتعبير عن عواطفهم واحتياجاتهم تعبيراً مناسباً.
في الختام:
تبرز نظرية الانفصال بوصفها مفتاحاً لفهمِ تطوُّر الذات والهوية لدى الأطفال، فتُركِّز على العلاقة بين الطفل ومُقدِّمي الرعاية وتأثير ذلك في نموِّه النفسي، بينما تسعى إلى تطوير دفاعات نفسية قوية لمواجهة التحديات والضغوطات التي قد تواجه الفردَ في مُختلَف مراحل حياته، بالمقابل تُركِّز نظرية التعلُّق على الارتباط العاطفي بين الطفل ومُقدِّمي الرعاية، وتُشير إلى كيفيَّة تأثير هذه العلاقة في تطوُّر الطفلِ النفسيِّ والاجتماعيِّ.
وعلى الرَّغم من اختلاف النهجين، إلَّا أنَّ كلتا النظريتين تسلِّطان الضوء على أهمية العلاقات الأوَّلية في حياة الإنسان وتأثيرها العميق في تشكيل شخصيَّته وتطوُّره النفسي. ففهم هذه النظريات يمكن أن يساعدنا على التعرُّف على العوامل التي تؤثِّر في نموِّنا النفسي وتشكيلنا كأفراد في المجتمع.
أضف تعليقاً