عندما تكون أذهاننا حاضرة حضوراً كاملاً، نشعر بالارتباط بالحياة وبكل شيء فيها، وأنَّنا جزء من هذه اللحظة، وبداخلها؛ لذلك أيضاً، هناك دافع في داخلنا يحثُّنا على تجربة الحياة بشكل مباشر وفهم هذه التجربة فهماً وثيقاً أكثر مما نستطيع من خلال أيَّة فكرة، أو مفهوم، أو ذاكرة، أو خيال.
نحن نرغب في تجربة حالة التدفق، والانهماك الكامل في النشاط الذي نقوم به إلى الحد الذي يصعب فيه الفصل بين الفاعل والفعل، وتختفي معه جميع مفاهيم الزمن، فنريد، في نهاية المطاف، العودة إلى حالة الانسجام التي يبدو أنَّنا نتذكرها على المستوى النفسي.
وبدقة أكثر، نحن نحتاج إلى الشعور باللحظة الراهنة؛ وذلك لأنَّ تشتت الذهن وعدم الشعور بالحاضر يعطي انطباعاً بعدم الرضى، والفراغ، والنقص، والزيف، مثل الأشباح تماماً؛ إذ تمرُّ الفرص من أمام أعيننا دون أن نراها.
يشعر الكثيرون بالندم العميق عندما يدركون ما فاتهم من حياتهم؛ فأن يفوتك التركيز والاستمتاع باللحظة الراهنة هو بمنزلة الفوز بتذكرة لأروع مغامرة يمكن أن تعيشها على الإطلاق ومع ذلك تقرر عدم الحضور؛ لذا نحن نحتاج إلى أن نكون حاضرين حتى نتمكن من أن نعيش المغامرة حين تسنح لنا الفرصة.
يتضمن العيش في الحاضر وفي اللحظة الراهنة ممارساتٍ أساسية، وأهمها اختبار ما يحدث في حواسنا، والإحساس بما يشعر به جسدنا، من الداخل والخارج، وإدراك ما الذي نراه، ونشمه، ونتذوقه، ونسمعه، في اللحظة نفسها؛ وهذا يعني تجربة المشاعر والأحاسيس من خلال الجسم وليس كما تفسرها أذهاننا.
أن نكون حاضرين؛ يعني عدم التفكير في الماضي، وعدم تقدير أو توقُّع المستقبل؛ أي إيلاء الاهتمام باللحظة الراهنة فقط؛ وذلك لأنَّها تنشأ من خلال حواسنا دون حكم أو تفسير.
ويعني الشعور بالحاضر عدم الغوص تماماً في التفكير، لكنَّه لا يتطلب أيضاً غياب الفكر غياباً كاملاً، ولا يعني أن يتوقف العقل عن إنتاج الأفكار، فالأفكار في حد ذاتها ليست مشكلة في أن تعيش حاضرك.
تنشأ الأفكار، وتستمر في التوارد بصرف النظر عن كم نحن حاضرون في هذه اللحظة؛ وأن تكون حاضر الذهن مع الأفكار يتطلَّب أن تكون مدركاً لحقيقة أنَّ الأفكار تتوارد، ولكن دون الاستسلام لها؛ بمعنى آخر، إدراك توارد وتدفُّق هذه الأفكار دون الانشغال بها أو بمحتواها أو القلق بشأنها.
يعني أن تكون حاضراً في اللحظة الراهنة أن تستشعر مباشرةً ما يطرأ على الجسد، والحواس، والانتباه إلى ما يجري في الذهن أيضاً، وفي الوقت ذاته، ينطوي العيش في الوقت الحاضر على اختبار كل ما يحدث في الوقت الراهن من دون تخطيط إلى أين ستقودنا هذه اللحظة، كوننا حاضرين يحول انتباهنا إلى اللحظة الراهنة دون محاولة ربط هذه اللحظة بنتيجةٍ مرغوبة.
يكافح الكثيرون منا مع هذا الجانب الأكثر دقة من الوجود؛ إذ يوجد في أعماقنا دافعاً لتغيير شيء ما في لحظاتنا، لتوجيه حياتنا في اتجاه إيجابي من شأنه أن يحقق ما نريد، ونظراً لأنَّنا نعيش هذه اللحظة، فإنَّ جزءاً منا، أحياناً ومن دون وعي، يُعَدُّ الوقت الحاضر نقطة انطلاق في المسار الأكبر لحياتنا، فنحن نعيش في إطار خطي، مع اللحظة الحالية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستقبل متخيَّل.
ينبعث من هذا الإطار الخطي طاقة خفية وغير محسوسة في بعض الأحيان، وتجعلنا نغيِّر شيئاً ما في الحياة، ونخرج منها ببعض الفائدة.
شاهد بالفديو: 5 خطوات لتخطط لمستقبل ناجح
ومع حاضرنا المرتبط ارتباطاً دائماً بالمستقبل، لا يمكننا الوثوق بأنَّه من الآمن تجاهله حقاً والاستسلام تماماً لهذه اللحظة، وعدِّها الوجهة النهائية، وأن تعيش تماماً في اللحظة الحالية بالكامل هو أن تتصرف دون أن تطلب أو تتوقع أن يؤدي ذلك إلى أي شيء آخر؛ لذا يجب أن تكون حاضراً دون استخدام هذه اللحظة للانتقال إلى وجهة معينة، أو لإثبات أو عدم إثبات أمر نحن نتخيله.
أن تكون حاضراً تماماً هو أن تهتم بكل ما هو متعلق باللحظة الراهنة وكأنَّها اللحظة الأخيرة؛ لحظة كاملة ومكتملة، صورة واضحة من كل شيء، هو عدُّ الوقت الحاضر وكأنَّه الرابط بين الماضي والمستقبل.
أن تعيش بحضور بالغ وتأثيرٍ عميق هو الثقة بأن تكتفي بالحياة وهي تكتفي بك بأن تعيشها بسهولة لحظة بلحظة؛ إذ يمكن أن تعيش الحياة، كعقد اللؤلؤ، بشكل سلس وسهل ومتتالٍ في سلسلة من اللحظات الحالية المترابطة معاً، فالتحول إلى هذا النوع من الوجود أو الحضور يعني التخلي عن فكرة أنَّنا مجبرون على أن ندير حياتنا ونصل بها لتحقيق أجندة معينة.
عندما ننتبه إلى حواسنا دون إصدار أحكام أو تفسير أو تخطيط، ونمتنع عن الغوص في التفكير، نبدأ بفهم - على المستوى العاطفي والعقلي - أنَّ مجرد الاعتناء بحياتنا الحالية هو الوسيلة الأنجع للعناية والاهتمام بالمستقبل، وإلى أين نريد أن ينتهي بنا المطاف؛ إنَّه أسهل بكثير مما نظن.
وعلى عكس كل ما تعلَّمناه، فإنَّ أفضل طريقة لنحيا حياةً سعيدة هي الاهتمام باللحظة الراهنة ثم التالية ثم التي تليها، فلا يمكننا إدراك هذه الحقيقة إلا من خلال الممارسة؛ حيث إنَّ الحضور والتركيز في اللحظة الراهنة هو كل ما نحتاج إليه حقاً.
ممارسات تمكِّنك من أن تكون أكثر حضوراً:
امنح نفسك بعض الوقت من كل يوم للابتعاد عن الخيال والشعور بالواقع واللحظة التي تعيش فيها، وعِش التجربة الآن كما تشعرها بحواسك، وحاول أن تزامن بين إحساسك والواقع، وأن تعيش مشاعر الراحة والهدوء والفرح أو أي شعور آخر ينشأ كلما ركزت انتباهك على واقع اللحظة الراهنة.
وابحث عن الدافع الخفي الذي يحثك على عيش اللحظة الحالية كوسيلة لتحقيق غاية عندما تمضي في يومك، وابحث عن الدافع لتكون أو لتعيش شيئاً ما في هذه اللحظة، واختبر مشاعر الاستسلام للحظة الراهنة دون أي تفكير أو تخطيط للمستقبل، وتعامَل معها على أنَّها المكان الوحيد الذي يمكن أن تلجأ إليه.
أعطِ لنفسك مجالاً طوال اليوم لأن تفكِّر في شيء واحد فقط، وهو كيفية الحضور والشعور باللحظة الراهنة، وتعامَل مع الأمر على أنَّه تجربة لاكتشاف ما إذا كان الاهتمام بلحظتك الحالية، والحالية فقط، يمكن أن يكون كافياً لعيش حياة جيدة.
أضف تعليقاً