إنَّ التوتر هو رد فعل الجسد والعواطف والعقل تجاه التحديات التي نواجهها أو الطلبات التي نتلقاها، وقد نشأَت ردود فعل التوتر أساساً منذ ملايين السنين لكي تساعدنا على الاستمرار والبقاء على قيد الحياة في مواجهة التهديدات المادية، ومع ذلك، فإنَّ معظم التحديات اليوم لم تعد تهديدات مادية، ولا تزال أجسادنا تتفاعل وكأنَّنا نتعرض لتهديد ملموس، كما لو كان يوجد أسد يقترب منَّا.
والتوتر المزمن ضار بصحتك، كما أنَّ من عيوب التصرف بشكلٍ يعكس التوتر هو أنَّ الطريقة التي جُبلنا على التصرف من خلالها حينما نكون متوترين ليست فعَّالة لمواجهة التحديات التي نواجهها في عالم اليوم؛ حيث يتطلب التصدي لتحديات اليوم التواصل والتعاون، ولكن عندما نتعرض للضغط غالباً ما تُسيطِر استجاباتنا الغريزية والعدوانية والعاطفية، ولا يُعَدُّ ذلك مهارةً، فغالباً ما يجعل المشكلة تسوء أكثر بل ويسبب المزيد من التوتر.
لكن، لماذا نتفاعل بهذه الطريقة على الرغم من أنَّنا نعلم أنَّها طريقة غير فعَّالة؟ السبب هو أنَّنا عندما نصل إلى استجابة الكر أو الفر؛ أي القتال أو الهروب، نصبح غير واعين، ويرتبط ذلك بشدة بنظامنا العصبي.
عندما نشعر بالتهديد أو الخوف، فإنَّ اللوزة الدماغية - المسؤولة عن نظام التنبيه والحماية في الدماغ والتي تراقب التهديدات - تُسلِّم السيطرة إلى نظام عمل وتواصل بدائي جداً مبني على الغريزة والعاطفة، ويسمِّي المؤلف والصحفي "دانيال جولمان" (Daniel Goleman) هذا الأمر بـ "السلب النفسي" (Amygdala hijack).
لقد واجه معظمنا لحظات لم يتمكن فيها من التصرف، وكل ما فعله هو التراجع عندما عامله أحدهم معاملةً فظَّة، ولكن قد يتسبب الانفعال في إلحاق ضرر جسيم بالعلاقة، وقد نشعر بالأسف بعد ردِّنا على رسالة بريد إلكتروني بسرعة وغضب.
تتطلب تحديات اليوم مستوىً أعلى من التفكير:
ما الذي يمكننا فعله للاستجابة بفاعلية أكثر؟ الحل واضح، وهو أن تخصِّص المزيد من الوقت للتفكير عندما تعاني من التوتر، لكنَّ هذا الأمر ليس سهلاً، فغرائزنا تعمل على تجاوز تفكيرنا من أجل التصرف بسرعة، وهذا الأمر مفيد في حالة المواجهة، لكنَّه يُضعف القدرات الأساسية التي نحتاجها للتصدي لتحديات اليوم بنجاح، وبدلاً من ذلك، نحتاج إلى حل معقد للمشكلات واستجابات مدروسة وإبداع، فنحن نميل إلى اتخاذ قرارات سريعة وعدوانية دون إلقاء نظرة على الموقف ككل وتقييمه بدقة.
إنَّ فشل فاعلية استجابتنا للتوتر في وضعنا الحالي ليس مجرد مشكلة فردية؛ وإنَّما تحدٍّ خطير للبشرية، فقد تغيَّر العالم تغيُّراً هائلاً في السنوات الـ 250 الماضية؛ حيث تسارع بصورة كبيرة في العقدين الماضيين، وكل ما عليك القيام به هو إلقاء نظرة على طريقة تغيُّر حياتنا منذ إصدار أول "آيفون" (iPhone) منذ 11 عاماً، وبالمقابل فإنَّ تطوُّر البشر يسير ببطء، والتغييرات الهامة تستغرق آلاف السنين.
شاهد بالفديو: خمس مكونات رئيسة للذكاء العاطفي
يمكن للبشر أن يتعلموا تحسين استجابتهم للتوتر:
يواجه عالمنا تحديات هائلة؛ حيث إنَّ قدرتنا على اتخاذ قرارات حكيمة، والتعاون من أجل التصدي للتحديات العالمية تتأثر كثيراً بغرائزنا التي عفا عليها الزمن؛ حيث نحتاج نحن البشر إلى التعلم بسرعة لرفع مستوى استجابتنا للتوتر.
ولحسن الحظ، يمنحنا علم الأعصاب الفهم الذي نحتاجه للتغيير، ومن أهم الأفكار أنَّ نظامنا العصبي ودماغنا لديهم القدرة على التكيف، وتعتمد هذه القدرة على التغيير على مبدأ بسيط: وهو أنَّ ما نفكر فيه ونفعله يغيِّر أداء وبنية الدماغ، والمصطلح المناسب المُعبِّر عن ذلك هو "اللدونة العصبية"، وهي مبدأ بسيط جداً ولكنَّ عواقبه بعيدة الأمد.
تشير "اللدونة العصبية" إلى أنَّه يمكننا تغيير دماغنا بمجرد أن نصبح أكثر وعياً باستجابتنا للتوتر، وتطوير القدرة على رفض الأفكار العاطفية المُدمرة، فعندما نختار بوعي استجابات أكثر فاعلية مع مرور الوقت، فإنَّ دماغنا سيكوِّن مسارات عصبية تدعم التكيف بصورة أكثر فاعلية، وتصبح المسارات غير المستخدمة أقل نشاطاً وفاعليةً.
العملية ليست معقدة، لكنَّها تتطلب ممارسة متكررة، وهذا هو بالضبط ما نفعله عندما ندرِّب كفاءات الذكاء العاطفي لدينا، فنحن نطوِّر بصورة منتظمة قدرتنا على إدارة أنفسنا وعلاقاتنا.
ولا ندرك التوتر تماماً في معظم الأحيان حتى تظهر لنا آثاره السلبية، وبالتأكيد من الصعب تغيير أمر لسنا على دراية به؛ لهذا السبب نبدأ بتطوير وعينا، فهو أول مهارة تأسيسية للذكاء العاطفي؛ فذلك يسمح لنا بملاحظة العلامات المبكرة للتوتر.
ببساطة، مجرد إدراك هذه العلامات يساعد الجهاز العصبي على التمييز بين وجود تهديد جسدي أم لا، ومن ثمَّ يمكن أن يمنع ردود الفعل الغريزية من السيطرة علينا ويمنعنا من التخلي عن التفكير المنظم، كما يساعدنا على التوقف مؤقتاً والتأمل واختيار الردود التي ينتج عنها نتائج إيجابية.
وما إن نُثبِت هذه القدرة الأساسية على إدارة التوتر، يمكننا حينها تطوير مستوى ثانٍ من مهارات إدارة التوتر، فمن خلال التدريب السلوكي المعرفي يمكننا تطوير قدرات الذكاء العاطفي لدينا بصورة أكبر، ومن الأمثلة على هذه القدرات، المرونة والقدرة على التكيف والتوقعات الإيجابية والتعاطف وإدارة النزاعات والقيادة الملهمة.
توفِّر لنا اليقظة الذهنية والذكاء العاطفي الوسائل اللازمة لتحسين الجهاز العصبي البشري خلال القرن الواحد والعشرين، وهذا التحسين ليس حسيَّاً فقط - أي طريقة عمل أدمغتنا - بل ملموساً أيضاً، من خلال تطوير المسالك العصبية الموجودة في أدمغتنا، ويخبرنا مبدأ المرونة العصبية أنَّه إذا مارسنا هذا الأمر باستمرار، فيمكننا ترسيخه في دماغنا.
جرب الآتي؛ فكِّر في موقف مرهق مررتَ به مؤخراً:
- هل كنت على علم بالإشارات الأولى للتوتر؟
- هل كنت قادراً على التوقف مؤقتاً والرد بفاعلية كما كنت ترغب؟
هاتان الخطوتان البسيطتان تجعلانك على اطلاع بعلامات التوتر، وتخصيص وقت للتفكير في استجابتك، كما تنمِّيان الوعي الذاتي، وتقويان بفاعلية المسارات العصبية الرئيسة لاتخاذ أفضل القرارات.
أضف تعليقاً