انتهجت سلسلة شركات "تشارلز شواب" (Charles Schwab) النهج نفسه في 15 حزيران/يونيو من العام 2023، فطلبت من كلِّ أو معظم موظفيها العودة إلى أسلوب العمل في المكتب، وتتضمَّن سياسة غوغل الحالية، بعد أن فرضت على موظفيها العمل في المكتب لمدة 3 أيام في الأسبوع، التحقُّق من التزام الموظفين بهذه السياسة، وفرض عقوبات على الموظفين غير الملتزمين، فيؤثِّر تغيُّب الموظف سلباً في تقييمات أدائه، ولاقت هذه السياسة رفضاً حازماً من الموظفين وعبَّروا عن ذلك بنشر صور على مواقع التواصل الاجتماعي كُتب فيها: "تحقَّقوا من جودة عملنا، وليس حضورنا في المكتب".
توقُّعات ما بعد الجائحة:
اتَّخذ معظم الموظفين قرارات بناءً على توقعاتهم بأنَّهم لن يضطروا للعودة مجدَّداً إلى أسلوب العمل في المكتب، واشترى بعضهم منازل في أماكن بعيدة عن مقرَّات شركاتهم، وتمكَّن آخرون من إيجاد الوقت والطاقة اللازمة لتقديم الرعاية لأسرهم.
ناقش تقريراً أعدَّته وكالة "بلومبيرغ" (Bloomberg) للأنباء ما إذا كانت استراتيجية شركة "إيه تي آند تي" (AT&T) التي تفرض بموجبها على موظفيها العودة إلى نمط العمل في المكتب بمنزلة "تسريح مقنَّع للموظفين"، نظراً لكونها ستجبر قرابة 15% من المديرين البالغ عددهم 60 ألفاً إمَّا على العودة إلى العمل في الشركة أو تقديم استقالتهم.
من الواضح أنَّ بعض أرباب الشركات مصرُّون على عودة موظفيهم إلى أسلوب العمل في المكتب، وبرَّر قادة الشركات موقفهم هذا بأنَّ العمل عن بُعد ليس الحل الأمثل، وذلك لعدة أسباب منها الإضرار بالتقدُّم المهني للموظفين المُبتدئين، وأبنية الشركات الفارغة التي تشكِّل خطراً على الاقتصاد، وحتَّى إنَّ سيدة الأعمال الأمريكية البارزة "مارثا ستيوارت" (Martha Stewart) ترى أنَّ الوقت قد حان لعودة الموظفين إلى العمل في المكاتب.
لكنَّ السؤال الذي يجب أن نطرحه هو: كيف تؤثِّر محاولة إعادة الموظفين إلى أسلوب العمل في المكاتب في بعض فئات القوى العاملة، خاصةً مع الأخذ بالحسبان تأثير ذلك في الجهود الرامية لتعزيز التنوُّع والمساواة والشمول في الشركات؟
إحدى الأساسيات المتعلِّقة بهذا الجانب هي أنَّه لا يوجد حلٌّ واحد ملائم للجميع، وبمعنى أنَّ الحلَّ الواحد قد يلائم موظفاً دون الآخر.
تأثير فرض العودة إلى أسلوب العمل في المكاتب في جهود تعزيز التنوع والمساواة والشمول في بيئات العمل:
وجد تقرير لمؤسسة "ماكينزي" (McKinsey) عن العمل الهجين أنَّ الموظفين الذين يعانون صعوبة في الاندماج لأسباب تتعلَّق بالجنس مثل النساء أو العِرق مثل ذوي البشرة الملونة أو لأسباب صحية مثل ذوي الاحتياجات الخاصة، كانوا أكثر استعداداً لترك وظائفهم في حال لم يوفَّر لهم خيار العمل الهجين، وكشفت دراسة أجرتها مؤسسة "غالوب" (Gallup) أنَّه من المرجَّح جداً أن يبحث 6 من أصل 10 موظفين يتَّبعون اتِّباعاً حصرياً أسلوب العمل عن بُعد عن فرص عمل في شركة أخرى إذا لم توفِّر لهم شركاتهم الحالية خيار العمل عن بُعد.
تعمل "غريس أليكساندر" (Grace Alexander) بوظيفة كاتبة إعلانات بدوام كامل، ومن خلال أسلوب العمل عن بُعد منذ ما يقرُب من 16 عاماً، تقول إنَّها اختارت نهج العمل لحسابها الخاص كي تتمكَّن من رعاية أطفالها، وتقول "غريس": "توقَّفت عن العمل في الوظائف التقليدية منذ 16 عاماً عندما رُزِقت بمولودي الأول، وكنت أعمل بوظيفة طاهٍ تنفيذي، وكنت أعمل ما يُقارب 80 ساعة في الأسبوع، وطلبت من مديري أن يعين طاهياً مساعداً كي يتوفر لي الوقت لرعاية طفلي الجديد، عندما لم يُلبَّ مطلبي، استقلت من وظيفتي وبدأت العمل من المنزل".
يشكِّل التوفيق بين رعاية الأطفال والعمل عائقاً كبيراً بالنسبة إلى الآباء والأمهات من الموظفين، خاصةً مع النقص الموجود في قطاع رعاية الأطفال من حيث عدد المراكز، والعاملين في هذا المجال، وهذا أدَّى إلى ارتفاع أسعار هذا النوع من الخدمات ارتفاعاً لا يتلاءم مع القدرة المالية للعائلات ذات الدخل المنخفض، ناهيك عن احتمالية وجود صعوبة في التوفيق بين الجدول الزمني للموظف الذي يمتلك طفلاً والأوقات المُتاحة في مراكز رعاية الأطفال، ويوجد إضافة إلى ما سبق، بعض الأدلة عن إمكانية تأثير بعض العوامل ذات الصلة بالعمل عن بُعد في الصحة النفسية لبعض الموظفين من الآباء والأمهات.
مع ذلك تؤكِّد "غريس"، بعد أن بلغ أصغر أطفالها عمر الـ 16 عاماً، أنَّه من المستحيل أن تعود للعمل في مكتب بسبب ما تعانيه من آلام في الظَهر، وتقول: "من المستحيل أن أعود للعمل في بيئة مكتبية يُطلب فيها من الموظف الجلوس أمام مكتبه لـ 8 أو 9 ساعات متواصلة، كما أنَّني لا أرغب بتحمُّل أعباء التنقُّل ذهاباً وإياباً إلى العمل".
تضيف "غريس": "يسمح العمل من المنزل للكثيرين بالعودة إلى سوق العمل، لكنَّ الشركات تحاول الآن أن تفرض على موظفيها العودة إلى أسلوب العمل في المكاتب، وسيؤدي ذلك إلى خسارة كثير من الموظفين الرائعين".
شاهد بالفيديو: 5 نصائح لإدارة فرق العمل عن بعد
الحجج المؤيدة لعدم فرض العودة إلى أسلوب العمل في المكاتب على الموظفين:
"نيتا جينكينز" (Netta Jenkins) هي مؤلفة كتاب "الشركة الشاملة" (The Inclusive Organization) والمديرة التنفيذية لشركة "إيروداي" (Aerodei)، وهي منصة تقيس الجهود التي تهدف لتعزيز التنوع والمساواة والشمول في الشركات، وترى "جينكينز" أنَّه يجب على الشركات أن تستشير موظفيها بشأن خطط إعادتهم إلى أسلوب العمل في المكاتب، وتقول في هذا الصدد: "ثمة فرق بين إبداء الشركة لرغبتها بعودة موظفيها إلى العمل في المكاتب إذا أمكنهم ذلك وترك القرار لهم وبين فرض ذلك عليهم، وأعتقد أنَّه من الهام جداً التفكير في هذا الأمر ملياً؛ لأنَّه يتناقض مع كل الجهود التي تبذلها الشركات لتعزيز التنوع والمساواة والشمول في بيئات العمل".
تضيف "جينكينز": "كان من الواضح جداً بعد وفي أثناء الجائحة، أنَّ بوسع الشركات الاستمرار في نهج العمل عن بُعد دون أن يؤثِّر ذلك فيها بأي شكل، وأنَّ الموظفين أصبحوا أكثر إنتاجيةً، كما قلَّل هذا الأسلوب من النفقات التي كان يتحمَّلها كثير من الموظفين في أسلوب العمل في المكاتب".
تمكَّن الموظفون من التقليل من النفقات من خلال الانتقال للعيش في أماكن ذات تكاليف معيشة أقل مع احتفاظهم برواتبهم، وتوكِّد "جينكينز" أنَّه إذا كان الهدف من إعادة الموظفين إلى أسلوب العمل من المكاتب هو زيادة الإنتاجية في أسلوب العمل عن بُعد، فلِمَ لم تُظهر الإحصاءات والبيانات ذلك؟
توضِّح ذلك بقولها: "إذا كانت إنتاجية الموظف قد تأثرت سلباً بسبب العمل عن بُعد، ويرفض العودة إلى العمل في المكتب، فلِمَ لا تستغني الشركة عن خدماته؟ هذه مسألة مختلفة تماماً تتعلَّق بتقييمات الأداء، ولكن ينبغي إذا كان لأسلوب العمل أي تأثير في الإنتاجية، أن يوضَّح ذلك في تقييمات الأداء الخاصة بالموظف مع ذكر التأثير الذي يُحدثه، ويقدِّمه للشركة".
حجج المؤيدين للعودة إلى أسلوب العمل في المكتب:
لا يعترض جميع الخبراء على سياسة إعادة الموظفين إلى أسلوب العمل في المكتب، ويعتقد استشاري مكان العمل والكاتب والمتحدِّث العام "آش بيكام" (Ash Beckham) أنَّ عودة الموظفين إلى أسلوب العمل في المكاتب قد تساعد على تكريس ثقافة الانتماء التي يُفتقر إليها في أسلوب العمل عن بُعد، ويقول "بيكام": "إنَّ العزلة هي الحالة المناقضة للانتماء، وأعتقد أنَّ الشركات أنفقت كثيراً من المال، وقامت بكثير من التغييرات لتجعل بيئة العمل عن بُعد شاملة، ومن ثمَّ تبيَّن أنَّه من الأفضل اتِّباع أسلوب العمل الهجين على الرغم من أنَّه يجب على بعضهم العودة إلى أسلوب العمل في المكتب حصراً، وأعتقد أنَّ كل موظف على اختلاف أسلوب العمل الذي يتَّبعه، يواجه تحديات مختلفة فيما يتعلَّق بالتنوع والمساواة والشمول في الشركات، ولكن يتيح ذلك له أيضاً عدداً من الفرص".
على الرَّغم من ذلك يعترف "بيكام" بأنَّه يجب على الموظفين أن يأخذوا بالحسبان احتياجاتهم الخاصة عند التعامل مع إجراءات العودة إلى أسلوب العمل في المكتب ويقول "بيكام": "لا يجب إذا أصبح من الممكن العودة إلى أسلوب العمل في المكاتب أن نتجاهل احتياجات الموظفين الفردية؛ لأنَّ هذا ما يضمن لهم النجاح وفق أكثر الطرائق الملائمة لهم، وأُجريت عدة تعديلات وتحسينات على المبادرات التي تهدف لتعزيز التعاون والمساواة والشمول لتصبح ملائمة أكثر لبيئات العمل عن بُعد، وأعتقد أنَّ الأمر يعتمد على الجهود التي تبذلها الشركة للنجاح في هذا الأمر".
يتطلَّب هذا التأكُّد من ملاءمة أماكن العمل للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وتوفير خيار العمل الهجين، ويرى "بيكام" أنَّه وبالرغم من أنَّ تطبيقات مثل زووم (Zoom) توفِّر القدرة على التواصل بين أعضاء الفريق، إلَّا أنَّه لا غنى عن التواصل وجهاً لوجه من أجل إنشاء بيئة عمل تتَّسم بالشمول، ويوضِّح "بيكام" أهمية ذلك بأنَّ التواصل وجهاً لوجه يوفِّر لنا فرصة فهم الآخر فهماً أفضل، وإجراء محادثات غير رسمية، وتناول القهوة مع أحد الزملاء بعد انتهاء العمل.
أهمية أخذ الجهود الرامية لتعزيز التنوع والشمول والمساواة بالحسبان:
يجب أن يختار أرباب العمل بعناية استراتيجية إعادة الموظفين إلى أسلوب العمل في المكاتب، وأن يمكِّنوا الفُرق المسؤولة عن استراتيجيات تعزيز التنوع والمساواة والشمول من المشاركة بهذه العملية.
يقول "بيكام": "سواء كان الأمر بدافع التطوير المهني أم وضع استراتيجيات إعادة الموظفين إلى أسلوب العمل في المكتب، فإنَّ التنوع والمساواة والشمول ليست مسألة تتعلَّق بقسم الموارد البشرية فحسب، بل هي مسألة تتعلَّق بالشركة ككل، ولا يمكن ألَّا تأخذ بالحسبان موظفي الموارد البشرية أو موظفي التمويل والأقسام المالية".
من الهام أيضاً أن يقدِّم أرباب العمل الدعم للموظفين عندما يُطلب منهم العودة إلى أسلوب العمل في المكتب، وهذا يعني توفير المرونة في الجداول الزمنية وخيار العمل الهجين وتوفير حمَّامات تلائم ذوي الاحتياجات الخاصة، وإعادة تقييم الإجراءات التي تتَّخذها الشركات لتسهيل الحياة اليومية لهؤلاء الأشخاص في العمل، ويجب في بعض الحالات الخاصة أن يُوفَّر خيار العمل عن بُعد توفيراً كاملاً، كما يتطلَّب ذلك توفير الدعم للموظفين الذين قد يضطرون لتغيير خططهم الخاصة برعاية الأطفال.
تقول مستشارة الشركات "إرين كالدويل" (Erin Caldwell) في مقال لها في صحيفة "سياتل تايمز" (Seattle Times): "إذا أصرَّ أرباب الأعمال على عودة الموظفين إلى أسلوب العمل في المكاتب، فيجب عليهم توفير خدمة رعاية الأطفال في موقع الشركة لتخفيف العبء على الآباء والأمهات الموظفين".
في الختام:
باختصارٍ يجب على أرباب الأعمال أن يسألوا أنفسهم لماذا يطلبون من موظفيهم العودة إلى أسلوب العمل في المكتب، وقد لا تكون الهواجس المتعلِّقة بثقافة الشركة مُبرِّراً كافياً لفرض العودة إلى أسلوب العمل في المكتب على الموظفين، وإذا لم يكن للأمر أي تأثير في الإنتاجية، فمن الأفضل السماح للموظفين باختيار أسلوب العمل المناسب بأنفسهم.
أضف تعليقاً