في بحثنا الدائم عن السعادة، كان الباحثون يركزون على ضبط النفس والتحلي بالعزيمة لبعض الوقت، وكانت هاتان الصفتان وأهميتهما لعيش حياةٍ سعيدة تطغى على النقاشات لدرجة أنَّنا نسينا إلى حد ما ضرورة العناية بالذات، ولكن حتى العناية بالذات أصبحَت شبيهةً بمَهمة نخصص لها الوقت ضمن روتيننا المليء بالمهام التي يتطلب إنجازها أداءً عالياً، ومن المفترض أن يؤدي كل ذلك إلى النجاح والسعادة، ولكن لماذا نشعر أنَّ هناك شيئاً ناقصاً دائماً؟
فوائد ضبط النفس:
أكَّد الباحثون الذين أجروا هذه الدراسة أهمية ضبط النفس، فكما يعلم أي شخص لديه أطفال، فهو يساعدنا على التركيز على أهدافنا طويلة الأمد، وضروري لتحقيق النجاح والعافية؛ إذ وجد عدد كبير من الأبحاث أنَّ ضبط النفس يؤدي إلى نتائج إيجابية من الناحية الصحية، كما أنَّه يُعَدُّ مفتاح التنظيم الذاتي، وهو من أبرز المفاهيم الجديدة في علم النفس؛ بالمختصر، يزيد ضبط النفس من سعادتنا وصحتنا.
الإصرار وضبط النفس هما صفتان هامتان حين تحاول تحقيق هدف، مثل خسارة الوزن أو النجاح في مادة دراسية، فهما اللتان تساعداننا على اتخاذ القرار الصحيح بين تناول المزيد من الحلوى أو ممارسة الرياضة، وبين الخروج برفقة أصدقائنا أو ملازمة المنزل والدراسة.
تحقيق القدر المناسب من ضبط النفس:
إذا كنتَ تتساءل إن كان من الممكن أن يزيد ضبط النفس عن حده، فهذا ما حاول الإجابة عنه مُعِدُّو بحث من "جامعة زيورخ" (University of Zurich) و"جامعة رادبود" (Radboud University) في هولندا، فقد ساورهم الشك حول الفكرة السائدة بأنَّ ضبط النفس يؤدي إلى حياة سعيدة ومُرضية عبر تمكيننا من إعطاء الأولوية لأهدافنا طويلة الأمد عوضاً عن ملذاتنا اللحظية.
قالت الباحثة في علم النفس التحفيزي "كاتارينا بيرنيكر" (Katharina Bernecker) من "جامعة زيورخ" (University of Zurich) في بيان صحفي: "ضبط النفس أمر هام بالطبع، ولكن يجب أن يولي البحث عن التنظيم الذاتي القدر نفسه من الاهتمام للانغماس بالملذات، أو المتعة قصيرة الأمد"، حيث يُظهر بحثها أنَّ الانغماس في الملذات وضبط النفس هامَّان لتحقيق السعادة.
ويشير الباحثون بمصطلح الانغماس في الملذات إلى قدرتنا على الاستمتاع، حيثُ يستطيع الأشخاص الراضون الذين يعيشون حياةً سعيدة أن يشعروا بالمتعة دون أن تشغل بالهم أفكار دخيلة، فيمكنهم القيام بشيء يستمتعون به وعيش اللحظة؛ بمعنى آخر، هؤلاء الأشخاص السعيدون ليسوا مشغولين بالقلق بشأن الأمور التي يجب أن يفعلوها لدرجة ألا يتمكنوا من الاستمتاع بما يفعلونه، وهو أمر هام؛ ذلك لأنَّ الدراسة وجدَت أنَّ قدرتنا على الشعور بالمتعة والانغماس في الملذات، ضروريان لسعادتنا في الحياة بقدر ضبط النفس.
شاهد بالفيديو: كيفية التحكم بالانفعالات وضبط النفس
القدرة على الشعور بالمتعة:
يتضمن البحث خمس دراسات؛ ففي الدراسة الأولى، قاس الباحثون القدرة على الانغماس في الملذات، أو قدرة الشخص على الاستمتاع دون أن تزعجه الأفكار الدخيلة، وكانت الفكرة هي معرفة الفارق بين الناس من حيث قدرتهم على الاسترخاء أو الاستمتاع، ووجدَت الدراسة الثانية أنَّ أولئك الذين استطاعوا فعل ذلك كانوا أكثر سعادةً وعافية.
وفي الدراسة الثالثة، أكَّد الباحث على أنَّ سبب عدم استمتاع بعض الأشخاص بالنجاح اللحظي أو الشعور بالمتعة، هو في الواقع تشتُّت انتباههم، وقالت عالمة النفس "دانييلا بيكر" (Daniela Becker) من "جامعة رادبود" (Radboud University) في بيان صحفي: "على سبيل المثال: قد تقضي وقتك وأنت مستلقٍ على الأريكة تفكر في أنَّك يجب أن تمارس الرياضة عوضاً عما تفعله، فتتعارض هذه الأفكار المرتبطة بأهداف طويلة الأمد مع الحاجة اللحظية إلى الاسترخاء، وتفسد المتعة".
وأما في الدراستين الرابعة والخامسة، فأظهر الباحثون أنَّ: "القدرة على الانغماس في الملذات تتنبأ بالقدرة على النجاح في السعي إلى تحقيق المتعة اللحظية في الحياة اليومية"؛ لذا فإنَّ الأشخاص الذين يستطيعون الاستمتاع استمتاعاً أفضل يزيد احتمال أن يكون الاستمتاع هدفاً لهم.
أهمية المتعة لتعزيز الصحة النفسية:
يميل الأشخاص الذين كانوا قادرين على الاستمتاع تماماً عند السعي نحو المتعة إلى أن يشعروا بسلامة أكبر على الأمد القصير والطويل، والأهم من ذلك، كان الأشخاص الذين يتمتعون بقدرة أعلى على الانغماس في الملذات أقل عُرضةً للإصابة بالاكتئاب والقلق، ومن هذه المعطيات استنتج الباحثون ما يلي: "يمثِّل السعي خلف المتعة مُهمَلاً إلى حد كبير، ولكنَّه جانب قابل للتكيف من التنظيم الذاتي"؛ بمعنى آخر، العزيمة ليست كل شيء.
لكنَّ مفتاح سعادتنا ليس التخلص من ضبط النفس وملاحقة الملذات دون تفكير، بل يتطلب فهم أهمية كل منهما؛ حيث قال "بيرنيكر": "ليس هناك من داعٍ لتعارض هدف المتعة والأهداف طويلة الأمد مع بعضها؛ إذ يُظهر بحثنا أنَّ كليهما هام وأنَّهما يكملان بعضهما لتحقيق العافية والصحة الجيدة، ومن الضروري الوصول إلى توازن مناسب بينهما في الحياة اليومية".
وهذا يعيدنا مباشرة إلى الصعوبة التي يواجهها العديدون، وهي إيجاد وقت لممارسة العناية بالذات، وللتغلب على هذه العقبة، يشارك الباحثون بعض النصائح مثل التخطيط لقضاء وقت مرح، مع الاعتراف بأنَّ الجائحة غيَّرَت معالم العديد من ظروف عملنا وحياتنا الخاصة؛ حيث يعمل الناس، ويعلِّمون أطفالهم من المنزل أكثر من أي وقت مضى، ويقترح الباحثون التخطيط لفترات من الاستمتاع وتحديدها زمنياً بحيث تميِّزها بوضوح عن النشاطات الأخرى.
صعوبة التركيز على المتعة:
بعد قراءة ما سبق، لا بُدَّ أنَّك قرَّرتَ الاستمتاع بوقتك أكثر، لكن لسوء الحظ، وجدَت الدراسة أيضاً أنَّ الانغماس في الملذات قد لا يكون كافياً، فلن نصبح سعيدين بعد قراءة كتابٍ مسلٍّ أو تناول طعام شهي أو قضاء المزيد من الوقت مع أصدقائنا إذا لم نتمكن من التركيز على اللحظة التي نعيشها.
يقول "بيرنيكر": "كان يُعتقَد دائماً أنَّ الانغماس في الملذات أسهل من ضبط النفس، لكنَّ الانغماس في الملذات ليس في الواقع بهذه البساطة بالنسبة إلى الجميع؛ وذلك بسبب الأفكار المشتِّتة للانتباه"، ولم يحاول مُعِدُّو الدراسة الإجابة عن مسألة الأفكار الدخيلة، ولكن يمكن أن يساعدنا هنا علم نفس التنظيم الذاتي، وصدِّق أو لا تصدِّق، قد يكون الحل هو ضبط النفس.
اقترحَت هذه الدراسة أنَّ الانغماس في الملذات وضبط النفس هما دافعان متعارضان يجب الحفاظ على توازنهما، وحين يكونان في حالة توازن، يمكننا عيش حياةٍ أسعد والتمتع بصحة نفسية أفضل، لكن لو نظرنا إلى الموضوع من وجهة نظر مختلفة، فهل يمكن لنا استثمار ضبطنا لأنفسنا لننغمس في الملذات؟
استثمار ضبط النفس للشعور بالمتعة:
قد يكون ضبط النفس هو مفتاح الانغماس في الملذات، فمشكلة المتعة بالنسبة إلى أولئك الذين يتمتعون بدرجة عالية من ضبط النفس هي أنَّ الأفكار عن الأمور التي يجب أن يفعلوها تعوق محاولاتهم للاستمتاع، وتزيد محاولة مقاومة تلك الأفكار.
قد يكون البديل لذلك هو استخدام ضبط النفس لتحويل انتباهنا بعيداً عن تلك الأفكار ونحو المتعة، وهناك طريقتان سهلتان لفعل ذلك، الأولى هي ممارسة اليقظة الذهنية؛ ويعني ذلك ملاحظة متطلبات ضبط النفس وإعادة انتباهنا بلطف إلى الملذات التي نحاول الاستمتاع بها، فكل مرة نفكر فيها فيما يجب أن نفعله عوضاً عن الاستمتاع، يجب أن نستخدم ضبط النفس لإعادة انتباهنا إلى المتعة.
يعتقد معظمنا أنَّ اليقظة الذهنية تتمحور حول الاسترخاء، ولكنَّ أولئك الذين يبدؤون ممارستها يدركون بسرعة أنَّها تنطوي على قدر كبير من ضبط النفس، وفي الوقت نفسه، كلما مارسناها أكثر وازدادت يقظتنا، نسترخي أكثر، وكلما أصبحنا أفضل في ممارسة اليقظة الذهنية، نصبح أكثر وعياً للأمر الذي نفعله في اللحظة الراهنة، مما يُحسِّن قدرتنا على الاستمتاع.
شاهد بالفديو: كيف تتعامل مع تغيّرات الحياة المفاجئة؟
ومع ذلك، لا تزال اليقظة الذهنية فكرةً مجردة بالنسبة إلى بعضنا، وهنا قد يكون من المفيد استخدام تقنية بديلة وهي الحوار الذاتي؛ فحين تلاحظ فكرةً تمنعك من الشعور بالمتعة، تحدَّث معها قائلاً: "مرحبا يا ضبط النفس، أنا أقدِّر تذكيري بالحاجة إلى كتابة هذا البريد الإلكتروني، فكما نعلم نحن الاثنان، تساعدني مساهمتك على النجاح في حياتي، لكنَّني أحاول الآن أن أستمتع، فكما نعلم إنَّه هام لصحتنا النفسية؛ لذا، هل يمكنك مساعدتي في التركيز على مدى روعة مذاق هذه الكعكة الآن؟ أنا واثق بأنَّك ستذكِّرني بالمهام التي يجب علينا إنجازها لاحقاً".
إذا شعرتَ أنَّ ذلك سخيف، فجرِّب ممارسة اليقظة الذهنية، ولكن إذا كنتَ بالفعل شخصاً يتحدث مع نفسه في أثناء الاستحمام، فاعلم أنَّ فهم أفكارك على أنَّها محادثة بين أجزاء مختلفة منك سيريحك كثيراً، وفي الواقع، يمكن لمثل هذه المحادثات أن تعزِّز ضبط النفس وقدرتنا على الاستمتاع، وفي النهاية، يؤدي الانغماس في الملذات إلى السعادة، لكنَّ ضبط النفس يُحسِّن قدرتنا على الاستمتاع، وهذه فكرةٌ مثيرة للاهتمام.
أضف تعليقاً