لكن يُعدُّ العيش لفترة طويلة بالنسبة إلى بعضهم عبئاً أكثر من كونه نعمة، وكان يتوقَّع الناس في ستينيات القرن العشرين أن يعيشوا فقط لعقد واحد بعد التقاعد، ويعيش الآن الكثيرون 3 عقود بعد بلوغهم سِنِّ التقاعد، ما يجعل الكثيرين من كبار السِنِّ خائفين من نفاد مدَّخراتهم وهم ما يزالون على قيد الحياة، ويتناول مؤلفا كتاب "مقاومة التقدُّم في العمر: العيش لفترة أطول دون نفاد المدخرات أو الإصابة بالعجز" (AgeProof: Living Longer Without Running Out of Money or Breaking a Hip) التداخل بين الصحة والثروة، وكيفية الحفاظ عليهما مع تقدَّمنا في العمر.
ألَّف هذا الكتاب كل من الخبيرة المالية في برنامج "توداي شو" (Today Show) "جان تشاتسكي" (Jean Chatzky) والطبيب "مايكل رويزن" (Michael Roizen) وهو كبير مسؤولي الصحة في مركز "كليفلاند كلينك" (Cleveland Clinic)، ويناقش الكتاب الحقائق القاسية التي تتعلَّق بالتقدُّم في العمر، مع تقديم استراتيجيات مُثبتة لتحسين صحتنا ومواردنا المالية.
التداخل بين الصحة والمال:
الجانب الذي يظهر فيه جليَّاً تداخل الصحة والمال هو نفقات الرعاية الصحية، وكلَّما كان لديك مزيد من حالات الصحة المزمنة التي يتعيَّن عليك التعامل معها، أنفَقْتَ مزيداً من المال، فإضافة إلى نفقات التأمين الصحي، يؤدِّي ما تدفعه من أموال على سبيل نفقات الرعاية الصحية إلى نفاد مدَّخراتك التقاعدية سريعاً، هذا إذا افترضنا أنَّ لديك أساسَ مدَّخرات مالية يمكنك اللجوء إليه.
وجد تقرير صدر عام 2016 من قبَل مؤسسة "إنشورِد ريتايرمينت إينستيتوت" (Insured Retirement Institute) أنَّ ما يقرب من نصف جيل طفرة المواليد الأمريكيين لا يملكون أية مدَّخرات للتقاعد، ويتوقَّعون العيش على نفقات الضمان الاجتماعي، وأضِفْ إلى ما سبق الديون على بطاقات الائتمان والتي تبلغ قيمتها عدة آلاف من الدولارات، إضافة إلى عدة حالات صحية مزمنة، ستصبح لديك فكرة كافية عن سبب عدم الأمان المالي الذي يواجهه كثير من كبار السِنِّ في المستقبل.
يمكن بالرغم من كلِّ ما سبق وفقاً للكتاب، اتِّخاذ خطوات بسيطة لتقليل الأعباء المتوقَّعة مع التقدُّم في السِنِّ، وذلك من خلال إجراء تغييرات بسيطة على نمط الحياة التي يعيشها الشخص حالياً، فترجع 85% من نفقات الرعاية الصحية في الولايات المُتحدة الأمريكية (USA) إلى الأمراض المزمنة، والتي تنتُج في الغالب عن عوامل يمكن السيطرة عليها، مثل الإقلاع عن التدخين واتِّباع نمط غذائي صحي، وممارسة التمرينات الرياضية، وتعلُّم التعامل مع التوتر.
يقول "رويزن": "لا شكَّ أنَّ للعامل الوراثي دوراً هاماً، لكنَّ الخيارات التي تتعلَّق بنمط الحياة أكثر أهميةً بكثير"، ونعلم جميعاً أنَّه من الضروري أن نختار لأنفسنا حميةً غذائية صحية، وأن نمارس ما يكفي من التمرينات الرياضية، وأن ندَّخر المال للفترات العصيبة، ولكنَّنا نجد صعوبة كبيرة في تطبيق ذلك والسبب وفقاً لـ "تشاتسكي"، أنَّنا نخفق في رؤية الصورة الشاملة، ونركِّز بدلاً من ذلك على الحاضر فقط، دون أن نولي اهتماماً لوضعنا المستقبلي.
تقول في هذا السياق: "البشر غير مجبولين على اتِّخاذ قرارات حكيمة فيما يتعلَّق بالمال والصحة"، وتتابع بالقول: "أحد أهم الأسباب لذلك هو الانغماس انغماساً مطلقاً في عيش اللحظة الحالية، والسعي لتحقيق كل ما نرغب به فوراً"، وقد لا يكون من السهل تأجيل الإشباع، لكن تُظهر الأبحاث أنَّ تنمية هذه المهارة هي دليل على النجاح في المستقبل، وكلَّما سارعت في اتِّخاذ الخطوات اللازمة للحفاظ على صحتك ومالك، قلَّت المعاناة التي ستواجهها مع التقدُّم في العمر.
تشير "تشاتسكي" إلى تجربة "مارشميلو ستانفورد" (Stanford Marshmallow Experiment) التي أُجريت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وطُلب في هذه التجربة من الأطفال الاختيار بين مكافأة فورية صغيرة (قطعة واحدة من المارشميلو، أو البسكويت، أو الكعك المُمَّلح)، في حين يحصل الطفل على مكافأة أكبر تتمثَّل بقطعتين من الحلوى السابقة في حال انتظر لمدة 15 دقيقة.
وجد الباحثون أنَّ الأطفال الذين تحلَّوا بالصبر، وانتظروا للحصول على مكافأة أكبر كانوا أكثر نجاحاً في المستقبل، فقد حصلوا على درجات أعلى في اختبار "سات" (SAT) الخاص بالالتحاق بالجامعات الأمريكية، وحصلوا على مستويات تعليمية أعلى، وحافظوا على رقم منخفض في مؤشر كتلة الجسم.
لقد أُقنعنا منذ مدة طويلة بفائدة عقلية "الاستمتاع في الحاضر"، ولكن توجد اليوم طرائق أكثر من أي وقت مضى لإشباع رغباتنا فوراً وبطريقة سلبية، فمثلاً نحن نفضِّل تناول الوجبات السريعة اللذيذة وسهلة التحضير والأرخص ثمناً، على تناول الطعام الصحي، ونفضِّل الاستلقاء على الأريكة ومشاهدة برامج التلفاز بدلاً من ممارسة الرياضة، كما نفضِّل شراء كل ما نرغب به بواسطة الاستدانة على بطاقة الائتمان بفوائد عالية بدلاً من الادِّخار وتوفير المال لشراء احتياجاتنا.
بالطبع نميل جميعاً إلى الإشباع الفوري بين حين وآخر، لكن تكمن المشكلة في الآثار الهدامة لهذا الإشباع عندما يصبح أسلوبنا المهيمن في الحياة، وتشير الإحصاءات إلى أنَّ ثلثي مواطني الولايات المتحدة الأمريكية (USA) يعانون من الوزن الزائد والسمنة، إضافة إلى عدم سداد ما يقرب من نصفهم لديونهم على بطاقاتهم الائتمانية مع نهاية كل شهر.
وفقاً لدراسة حديثة أجراها بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإنَّ متوسط ديون الأسرة الأمريكية يزيد على 15 ألف دولار من ديون بطاقات الائتمان، بمتوسط سعر فائدة يبلغ 15%، ما يعني أنَّ فوائد هذا الدين تبلغ 2250 دولار سنوياً، وبالرغم من أنَّنا ذكرنا وفقاً لما جاء في الكتاب بأنَّ الشخص يمكنه تجنُّب كثير من المعاناة على صعيد المال والصحة في المستقبل كلَّما أسرع في اتِّخاذ الخطوات اللازمة للحفاظ على هذين الموردين، إلَّا أنَّ "تشاتسكي ورويزن" يتفقان على أنَّ الأوان لم يفت بعد لاتِّخاذ ما يلزم.
شاهد بالفديو: "Riley Moynes" "رايلي موينتس" كيف تتأقلم مع فترة التقاعد وتشعر بالسعادة مجدداً؟
الخروج من الحلقة المفرغة:
وفقاً لدراسة إحصائية أجرتها جمعية "ذا أميركان سايكولوجيكال أسوسيشن" (the American Psychological Association) عام 2015، فقد أفاد 72% من الأمريكيين أنَّهم شعروا بالتوتر بشأن المال على الأقل لبعض الوقت في الشهر الماضي، وأفاد 22% منهم أنَّهم بلغوا مستويات شديدة من التوتر، وارتبطت معظم هذه المشكلات المالية بالرعاية الصحية.
سينتهي الأمر وفقاً للدراسات بإنفاق قرابة 15 مليون أمريكي لجميع مدخراتهم المالية على إجراءات الرعاية الطبية، وسيواجه حتى مع وجود التأمين الصحي قرابة 10 مليون أمريكي نفقات رعاية طبية لا يمكنهم تحمُّلها، وإذا كنت تعاني من مشكلات على صعيد المال والصحة، فمن المُحتمل أنَّك تريد التفكير في بعض الحلول.
قد تعتقد بدايةً أنَّه من المستحيل أن تكون قادراً على التخطيط للمستقبل في حين تنفق كل دخلك على احتياجاتك الشهرية، دون أن يكون لديك أي وقت لإعداد وجبات صحية، أو طاقة لممارسة التمرينات الرياضية، ومن الصعب معالجة هذه العقبات، وقد يكون التوتر الذي تتسبَّب به عاملاً أساسياً للإصابة بالمرض، ما يؤدِّي إلى الوقوع في دوَّامة من المرض، ومزيد من النفقات وهكذا دواليك.
يؤدي التوتر المزمن إلى إضعاف جهاز المناعة، والإصابة بأعراض مثل آلام الظهر والصداع والقلق والاكتئاب، وقد ينتهي الأمر بالشخص بالإصابة بأمراض القلب والسكتات الدماغية والسرطان وغير ذلك، ونظراً لأنَّ التوتر الناجم عن مشكلات الصحة والمال يُعدُّ نقطة حساسة، فإنَّنا نفضِّل التهرُّب على مواجهته.
يقول "رويزن": "إنَّ مهدئات التوتر الرئيسة في أمريكا هي المشروبات الكحولية، وبرامج التلفاز، وهي ذات تأثير آني، ولكن ما إن ينتهي تأثيرها المهدِّئ حتى نكتشف أنَّ التوتر ما يزال موجوداً"، ويضيف "رويزن": "يجب عندما تعاني من توتر بسبب مشكلات مالية، أن تتعامل مع المشكلة وتتخلَّص منها حتى يزول التوتر".
تقول "تشاتسكي": "ينطبق الأمر نفسه على المشكلات الصحية، فلا يمكنك أن تسترخي من خلال الاستلقاء في حوض استحمام مليء بمياه دافئة متوقِّعاً أن يكون ذلك كفيلاً بحلِّ المشكلة"، ويؤكِّد مؤلِّفا الكتاب أنَّ التأمُّل قد يكون بداية جيِّدة لمعالجة الموقف الذي يؤدي إلى التوتر (لأنَّك تتَّخذ قرارات أفضل عندما يكون ذهنك صافياً) لكن لا غني عن معالجة المشكلة مباشرةً فيما يتعلَّق بمشكلاتك المالية والصحية.
الخطوة الأولى هي النظر إلى الوقائع، فعلى الرغم من أنَّه قد تكون هذه العملية مؤلمة، لكن من الضروري أن تواجه الواقع، وكلَّما أسرعت في ذلك كانت النتائج أفضل، واحسب مقدار دخلك وما أنت مدين به، ومن ثمَّ حدِّد ما إذا كنت تنفق أكثر ممَّا تجني، وحدِّد أيضاً الديون التي يجب أن تسدِّدها حتَّى تحافظ على استقرارك المالي.
أمَّا بالنسبة للصحة، فيوفِّر الكتاب أيضاً أساليب بسيطة لتحديد مستوى صحتك، فمثلاً يُعدُّ قياس الخصر الذي يزيد على نصف الطول مؤشراً على تراكم كثير من الدهون في منطقة البطن، وهو أمر خطير على الصحة كون الدهون الزائدة تفرز مواد كيميائية تؤدِّي إلى الالتهابات، وتسبِّب ضغطاً على الأعضاء الداخلية، وهذا يؤدي إلى الإصابة بأمراض مزمنة، وأحد المقاييس الأخرى التي يوفِّرها الكتاب هو اختبار قدرتك على النهوض من الكرسي دون أن تدفع نفسك باستخدام يديك، وإذا تمكَّنت من القيام بذلك فهذا مؤشِّر على القوة الداخلية.
تقول "تشاتسكي": "تُعدُّ هذه الأساليب في القياس هامة لتحديد الجوانب التي يجب أن تعالجها في البداية"، ويمكنك بمجرد تحديد هذه الجوانب، أن تحدِّد الخطوات التي يتعيَّن عليك اتِّخاذها للوصول إلى النتائج المرغوبة، ويسبِّب التفكير في هذه الوقائع التوتر بالنسبة إلى الكثيرين منَّا.
مع ذلك لا يُعدُّ التوتر حالة سلبية بالمطلق، خاصةً عندما يكون دافعك للتغيير، فبمجرَّد تقييم وضعك الصحي والمالي بطريقة موضوعية، فمن المُحتمل أن تكون مستعدَّاً لإجراء بعض التعديلات على عاداتك، وتضيف "تشاتسكي": "سيكون أي إجراء نقوم به لمساعدتنا على القيام بالشيء الصحيح قيِّماً جداً".
إقرأ أيضاً: 4 دروس حياتية تعلمتها من كتاب "الأب الغني والأب الفقير"
السلوك التلقائي: الطريقة الأمثل لتحقيق النجاح
يصبح السؤال بعد أن تصبح مستعداً للتغيير هو: كيف يمكنك تحقيق نقلة نوعية مستدامة في نمط حياتك؟
يجيب "رويزن وتشاتسكي" بأنَّ السر لا يكمن في قوة الإرادة وإنَّما في تكريس العادات الجديدة تلقائياً، بمعنى أن تختار عادة واحدة وتمنح نفسك بضعة أسابيع حتى تترسخ لديك، فمثلاً، إذا اشتركت في أحد حسابات التوفير أو التأمين الصحي فلن تضطر لاقتطاع جزء من راتبك شهرياً بل سيُدَّخَر بصورة تلقائية، وبالمثل إذا أعددتَ وجبات فطور وغداء صحية في وقت مبكِّر وأخذتها معك إلى العمل، فستكون أقلَّ عرضة لتناول الوجبات السريعة عندما تشعر بالجوع، وتقول "تشاتسكي": "تساعدنا كل هذه الإجراءات على الالتزام بعادات أكثر صحةً، ويساعدنا هذا على الأمد الطويل".
معظم عاداتنا مدفوعة بالسلوك التلقائي، وقد وجدت الأبحاث التي أجرتها جامعة "ديوك" (Duke University) أنَّ 40% من سلوكاتنا اليومية تحكمها العادات وليس القرارات الواعية، لذلك بدلاً من محاولة الإقلاع على العادات السلبية، ينصح مؤلفا كتاب "مقاومة التقدُّم في العمر" باستبدالها بعادات إيجابية، وستقلِّل هذه الطريقة من الصعوبات التي تواجهها على صعيد تحسين مستقبلك المالي، والصحي كونها تنسجم مع آلية عمل أدمغتنا، وتقول "تشاتسكي": "تثبت عدة أبحاث أنَّك إذا كنت قادراً على تعلُّم إلى عادة جديدة، واكتشاف طريقة لجعلها جزءاً من حياتك اليومية، فستزيد من فرص نجاحك وستكون النتائج أفضل".
يقول "رويزن" إنَّ من بين مرضاه مثلاً من استبدل الأريكة الموجودة أمام التلفاز بدراجة ثابتة لممارسة التمرينات الرياضية، وقد حقَّقوا نجاحاً أكبر في التعافي من مرض السكري من النوع الثاني أو ارتفاع ضغط الدم أو أمراض القلب، وليس من الضروري أن تغيِّر نمط حياتك دفعةً واحدة، بل ينصح "رويزن وتشاتسكي" بالقيام بذلك تدريجياً، فاختر عادة واحدة ترغب بتغييرها، وامنحْ نفسك بضعة أسابيع حتى تترسخ، ويضيف مؤلفا الكتاب إنَّ نجاحك في تغيير عادة واحدة يمنحك القدرة والقوة للتغلُّب على العقبة التالية في سبيل تحسين وضعك الصحي والمالي.
في الختام:
يقول الفيلسوف اليوناني "أرسطو" (Aristotle): "العادة محرك السلوك"، ويمكننا أن نفهم من هذه المقولة ما يدفعنا للقيام بمعظم ما نقوم به خلال حياتنا اليومية، وربَّما كان السر لفترة طويلة هو بتحويل العادات التي ترغب بامتلاكها إلى سلوك تلقائي يحلُّ محل العادات السلبية بدلاً من إجبار نفسك بلا جدوى على اتِّباع العادات الصحية.
أضف تعليقاً