ما الذي يجعل الشخص "سامَّاً"؟
في علم النفس التطبيقي، يُقيِّم الباحثون سمات الشخصية السامة في نطاق ما يُطلَق عليه "الثالوث المظلم"، وهو النرجسية، والميكيافيلية، والاضطراب النفسي.
وفقاً لدراسة في كتيِّب "علم النفس بين الأفراد" (Interpersonal Psychology)، تتميَّز النرجسية بالشعور بالعظمة والأنانية والإحساس المُبالَغ فيه بالاستحقاق الشخصي؛ بينما تشير الميكيافيلية إلى التلاعب واستغلال الآخرين، وتتعلَّق السيكوباتية أو الاضطراب النفسي باللامبالاة، والاندفاع، وتبني سلوكات السعي وراء الإثارة.
وبالتالي، هناك أنواع عدَّة من الأشخاص السامِّين، قد يكون بعضهم مزعجاً في التعامُل (كصديقٍ يتباهى بحياته باستمرار)، وقد يُخلِّف آخرون آثاراً مدمِّرة على سعادتك وتقديرك لذاتك وصحتك وسلامتك العامة.
إذا كنتَ تعرف شخصاً في حياتك يتَّصف بهذه الصفات، فما الذي يمكنك فعله للابتعاد عنه وحماية شعورك بتقدير الذات والرضا عن الحياة؟
تُقدِّم الأقسام التالية مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات النفسية والشخصية التي تدعمها الأبحاث لمساعدتك على التعامُل بصورة جيدة، أو حتى قطع العلاقات تماماً مع أفراد العائلة والأصدقاء السامِّين.
أفراد العائلة السامِّين:
إذا كان الشخص السامُّ أحد أفراد العائلة، فقد يكون الابتعاد عنه أمراً صعباً للغاية –إن لم يكُن مستحيلاً– والأمر نفسه بالنسبةِ للأزواج، فرغم أنَّ اكتشاف العلاقة السَّامة خطوةٌ أوليَّةٌ جيِّدةٌ، لكنَّها ليست بسيطة؛ إذ ليس من السهل الانفصال عن هؤلاء والمضي قدماً في الحياة؛ وبالتالي يُعدُّ قطع الصلات مع أفراد الأسرة -خاصةً إذا كنتَ تعيش معهم- قراراً معقَّداً للغاية ومرهِقاً عاطفياً ولا ينبغي اتِّخاذه بعبثية.
إذا كان هذا الشخص سامَّاً ويُلحِق بك الأذى لدرجة كبيرة ولا يرغب في التغيير، فقد تصل في النهاية إلى مرحلة عليك فيها التخلِّي عن العلاقة والابتعاد عنه تماماً. ولكن إذا كنتَ ترغب في حماية نفسك منه دون قطع صلتك به، فهناك طريقتان للحدِّ من تأثيره على حياتك دون قطع العلاقة:
1. إنشاء حدود حازمة للتواصل:
تكمن مشكلة الأشخاص السامِّين في أنَّهم إمَّا يفتقرون إلى الوعي الذاتي حول كيفية تأثير كلماتهم وأفعالهم سلباً على الآخرين، أو أنَّهم يدركون جيداً ميولهم الاستفزازية ورغبتهم في مضايقة من حولهم، ولا يحاولون أبداً تغيير طريقتهم ما لم ينبِّههم أحد لذلك.
لذا عليك أن تنسى الآن قاعدة "عامِل الآخرين كما تُحب أن تُعامَل"، وتتبنَّى قاعدة "عامل الآخرين كما يريدون أن يُعامَلوا"؛ إذ تتطلَّب هذه الأخيرة مناقشة هادفة مع الشخص السام حول كيفية تفاعلكما مع بعضكما بعضاً، بدلاً من تركك تضع افتراضات حول الطريقة التي يريد الشخص الآخر أن يُعامَل بها.
ملحوظة هامَّة: إحدى السمات الأكثر شيوعاً للأشخاص السامِّين؛ هي الرفض المستمر لتحمُّل المسؤولية الشخصية، أو التعاطف مع شخص آخر يشعر بالضيق، أو الأذى بسببهم؛ لذا إذا تحدَّثتَ مع شخص سامٍّ بلهجة أحادية الجانب، مثل: "لقد جرحتَني بما قلتَه، ويجب أن نتحدَّث"، سيرفض الإصغاء إليك على الأرجح، أو سيتجاهل انزعاجك لتجنُّب المناقشة تماماً، وقد يلقي اللوم عليك أيضاً.
يجب أن تعلم أنَّك لستَ مديناً لأي شخص سامٍّ ومؤذٍ بأي شيء، ولكن إذا كنتَ ترغب في أن يصغي إليك ويغيِّر طريقة تعامله، فإليك بعض الأمثلة لمساعدتك على البدء في وضع حدود تواصل أكثر صرامة معه:
- "عندما قلتَ أنَّني شخصٌ ضعيفٌ على سبيل المزاح، انزعجتُ من هذا الأسلوب؛ فأنا لا أفضِّل إيذاء مشاعر الآخرين؛ لذا من الأفضل أن تقول أنَّني شخصٌ رقيقُ القلب بدلاً من ذلك".
- أو: "لا تعجبني الطريقة التي تتحدَّث بها معي؛ فهي تزعجني لأنَّني أشعر فيها بالاستهزاء؛ لذا عليك ألَّا تتحدَّث معي بهذا الأسلوب مرَّة أخرى، هل أنت مستِعدٌ لفعل ذلك؟".
- أو: "أنت شخص عزيز على قلبي، لكنَّ مزاحك يزعجني، وأعتقد أنَّه سيكون من الأفضل لعلاقتنا أن تتحدَّث معي بطريقة تكون أكثر لباقة".
2. النأي بالذات:
يشير مفهوم النأي بالذات إلى إبعاد نفسك نفسياً عن حدثٍ ما، وممارسة التأمُّل الذاتي لتعديل أفكارك ومشاعرك حول شخص أو موقف ما، ويشبه النأي بالذات ممارسات اليقظة الذهنية؛ إذ تصبح من خلاله أكثر وعياً بذاتك بينما تعمل على تطوير المرونة العاطفية اللازمة لإدارة النزاعات مع الآخرين بنجاح.
على سبيل المثال: لنفترض أنَّك تتعامل مع أحد أفراد الأسرة الذي يرفض تحمُّل المسؤولية أو الاعتذار عن أقواله وأفعاله؛ فتعرف من تجربتك معه أنَّه لا جدوى من الجدال مع هذا الشخص السام على أمل أن يستسلم في مرحلةٍ ما ويعترف بخطئه (نادراً ما يعترف الأشخاص السامُّون بخطئهم، وقد لا يحدث ذلك إطلاقاً).
في هذه الحالة، يكون النأي بالذات هو الخروج من الموقف وتقييم القضية من منظور مراقب خارجي محايد، مثل أن تتخيل أنَّ المشكلة تحدُث لصديق بدلاً منك. وفي هذه المرحلة قد تتساءل: إذا كان هذا الشخص السام أحد أفراد عائلتي، ومن غير المرجَّح أن يبالي كثيراً لمشاعري، فلماذا لا أفكِّر أنا في مشاعري؟ والإجابة هي لأنَّنا نميل إلى الانفعال العاطفي أو الشعور بالضيق عند التفكير في الأشخاص والتجارب التي تزعجنا.
لقد نشرت مجلة "بيرسوناليتي" (Personality) دراسةً في عام 2019 قارنَت فيها الآثار المعرفية والعاطفية والسلوكية للنأي بالذَّات كاستجابة للتجارب السلبية بدلاً من التركيز على الذات (كالتفكير في الأشخاص السلبيين أو الأحداث مع التركيز على أفكارك ومشاعرك بشأن هذه المسألة)، ولقد وجدَت في نهاية المطاف، أنَّ الأفراد الذين مارسوا النأي بالذَّات كانوا أكثر قابلية لتحقيق نموٍّ كبير في العواطف الإيجابية، بدلاً من تفاقم العواطف السلبية.
لن يكون الأمر يسيراً في البداية، ولكن إذا كنتَ ترغب بالابتعاد عن الأشخاص السامِّين والتحرُّر من تلاعُبهم، فإليك طريقتين للنأي بالذَّات لبدء ممارستهما في حياتك اليومية:
- فكِّر في الأحداث باستخدام ضمير الغائب: يكون الحديث مع الذات أكثر فاعلية عندما تصوغ الأفكار والمشاعر باستخدام ضمائر "هو" و"هي" و"هم" بدلاً من "أنا" و"نحن".على سبيل المثال: قد تسأل نفسك: "لماذا قالت له أخته ذلك؟"، بدلاً من صيغة "لماذا قالت لي أختي ذلك؟"؛ إذ يساعد هذا في النأي بالذَّات عن طريق نزع ارتباطك بالموقف مؤقَّتاً؛ ممَّا يسمح لك بالتفكير فيه من وجهة نظر أكثر حيادية.
- ابدأ الكتابة التعبيرية: خصِّص 20 دقيقة لتدوين جميع أفكارك ومشاعرك المتعلقة بالصراع الذي تعيشه مع أحد أفراد العائلة. يُسمَّى أسلوب كتابة اليوميات هذا باسم "الكتابة التعبيرية"، ويجب أن تحتفظ بكتاباتك لنفسك فقط (أي لا تشاركها مع أي شخص بعد ذلك؛ فأنت تكتب كل هذه الأحداث والمشاعر لتتمكَّن من إدارة مشاعرك والتعبير عنها بصورة أفضل لاحقاً).
شاهد بالفيديو: 5 خطوات لوضع حدود شخصية لنفسك
الأصدقاء السامُّون:
من يجلب لك أقصى درجات السعادة؟ عائلتك أم أصدقائك؟ لقد وجدَت دراستان أُجريتا على حوالي 300000 بالغ في جميع أنحاء العالم، أنَّ الصداقات تُحقِّق أفضل النتائج لسعادة الفرد وصحته؛ قد يعود هذا إلى أنَّنا نختار أصدقائنا ونتعامل معهم برغبة ووعي، في حين أنَّ العلاقات الأسرية تبدو أشبه بالتزامات مفروضة علينا، ونحن مُطالَبون بالوفاء بها.
ومن المثير للاهتمام، أنَّ هذه الدراسات وَجدَت أنَّه عندما تكون الصداقات مُسبِّبة للتوتُّر، يبلِغ الأفراد عن معدَّلات مرض أعلى، بينما لا يكون للعلاقات الأسرية تأثير يُذكَر على صحة الفرد وسلامته.
وفي حين أنَّ هذه النتائج الإحصائية العامَّة لا تنطبق على الجميع لعدم المساواة، يشير هذا إلى أنَّ الأصدقاء السامِّين قد يكونون أكثر تدميراً لصحتك وسعادتك من أفراد الأسرة؛ لذا إذا كان أحد أصدقائك نرجسياً، أو عدوانياً، أو مُخادعاً، أو متذمِّراً ويميل إلى السلبية تجاه كل شيء، فبإمكانك الابتعاد عنه دون التخلِّي عن صداقتك أو الدوائر الاجتماعية المُشتركَة، مستخدماً النصائح الآتية:
1. ناقِش المشكلة معه مباشرةً:
يجب أن تحدِّد أولاً مدى قربك من هذا الصديق؛ فإذا كنتما أصدقاء منذ سنوات ولم يبدأ في التصرُّف بهذه الطريقة إلا مؤخَّراً، فعليك أن تخبره عمَّا يزعجك مباشرةً من خلال اتِّباع بعض إرشادات إدارة النزاع؛ إذ يجب عليك طرح المشكلة بهدوء، والاعتراف بأي مسؤولية قد تقع على عاتقك في النزاع، واقتراح حل وسط يكون عادلاً لكلا الطرفين.
إذا فعلت كل ما سبق وظلَّ صديقك يتذمَّر أو يجادل، ستكون خطوتك التالية هي تحديد ما إذا كانت هذه الصداقة تستحق الاستمرار على هذا الوضع أم لا؛ فالغرض الرئيس من الصداقة في نهاية المطاف، هو توفير المساندة والدعم المتبادَلين؛ فإذا كان في حياتك شخص آخر على استعداد لبذل الوقت والجُهد للقيام بذلك، فمن الأفضل الابتعاد عن الأشخاص السامِّين مثل هذا الصديق لتتمكَّن من توفير طاقتك العاطفية لشخص آخر يعاملك بالطريقة التي تستحقها.
2. قلل من تفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي:
إذا كانت صداقتكما عرضية أو إذا كنتَ لا ترغب في قطع الصلات تماماً، فيجب أن تكون خطوتك التالية هي تقليل تفاعلك معه عبر الإنترنت؛ إذ قد يؤدي البقاء على علاقة وثيقة مع صديق يسعى جاهداً ليجعلك تشعر بالغيرة، أو ينشر أشياء مزعجة، أو ينتقص من قدرك إلى عواقب وخيمة على صحتك النفسية والعاطفية.
والأسوأ من ذلك أنَّ أقوال وأفعال صديقك السام ليست هي المشكلة الوحيدة؛ بل تُشكِّل شبكة الإنترنت في حدِّ ذاتها -وخاصةً وسائل التواصل الاجتماعي- على ما يبدو أرضاً خصبة لا نهاية لها للتفاعلات السامَّة بين الناس.
لقد كتب البروفيسور "إم جيه كروكيت" (M.J. Crockett)، أستاذ علم النفس في جامعة ييل (Yale University)، في تحليل عام 2017 في مجلة "نيتشر هيومان بيهافيور" (Nature Human Behavior)، أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي تشجِّع على التعبير عن الغضب من خلال تفاقُم المحفزات العاطفية، والحدِّ من مخاطر سوء السُمعة، وتعزيز الفوائد المحتمَلة التي قد تُكتسَب من الأقوال والسلوكات السامَّة عبر الإنترنت.
كما توصَّلت دراسة أُجريَت عام 2020 حول الطريقة التي تُؤثِّر بها البنية التقنية لمنصات التواصل الاجتماعي على التواصلات السامَّة بين المستخدمين؛ إلى أنَّ خوارزميات هذه المواقع تدعم بث المحتوى التحريضي والمشحون عاطفياً لتحقيق أكبر قدر ممكن من المشاركة والمشاهدات، والإعجابات، والنقرات، والتعليقات؛ أي وبعبارة أخرى، تسمح وسائل التواصل الاجتماعي للسمية بالترسُّخ بينما تنهار الصداقات.
وللحدِّ من العواقب السلبية المترتِّبة على التواصل مع الأصدقاء السامِّين عبر وسائل التواصل الاجتماعي دون الحاجة إلى إلغاء الصداقة أو حظرهم تماماً؛ يمكنك القيام بما يلي:
- ألغِ المتابعة أو فعِّل خاصية إخفاء المنشورات (Mute): تُوفِّر معظم منصات التواصل الاجتماعي خيارات للمستخدمين لإخفاء منشورات شخص معيَّن دون إخطار الشخص الآخر بأنَّك فعَّلت هذه الخاصيَّة (Mute). وعلى غرار النأي بالذَّات، تتيح لك هذه الإستراتيجية البسيطة الحصول على استراحة لازمة من رؤية منشوراتهم وصورهم دون قطع الصداقة تماماً.
- تحكَّم في خصوصية مشاركاتك: إذا كان صديقك يجري مقارنات سلبية بينكما باستمرار، أو يسخر منك بسبب ما تنشره (حتى لو كان على سبيل المزاح)، فتحكَّم في خصوصيتك وامنعه من رؤية المحتوى الذي تنشره.
الخلاصة:
من الصعب الابتعاد عن الأشخاص السامِّين عندما تكون قريباً منهم جسدياً وعاطفياً، كما هو الحال مع أفراد عائلتنا وأصدقائنا. ففي هذه العلاقات، يكون التعرُّف على الشخص السام أمراً صعباً، وإدراك أنَّك تستحق أن تعامَل معاملة أفضل، وتقليل خسائرك حتى تتمكن من المضي قدماً في حياتك؛ ولكن إذا أردتَ الحفاظ على سعادتك وسلامتك، فيعدُّ وضع الحدود والنأي بالذَّات من الأساليب الأساسية التي يمكنك استخدامها بغضِّ النظر عمَّا إذا كان الشخص السام على استعداد للإصغاء إليك وبذل الجُهد لتغيير الطريقة التي يعاملك بها أم لا.
لا يمكننا التحكُّم في أفكار ومشاعر وأفعال الآخرين، ولكن يمكننا التحكُّم في أفكارنا ومشاعرنا وأفعالنا.
أضف تعليقاً