ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب "سكوت إتش يونغ" (Scott H Young)، ويشرح فيه عن منظوره للتعاسة، ويقدِّم تجربته الشخصية في توظيفها بطريقة صحيحة.
بعض التعاسة ضرورية لعيشٍ هانئ:
هناك بعض الحجج القوية التي تدَّعي أنَّ الشعور بالتعاسة بين الفينة والأخرى ضروريٌّ لحياةٍ مثالية:
1. حالة الفرح المستمر أمرٌ مستحيل:
هناك حجَّة مفادها أنَّ السعادة المتواصلة بصورةٍ مثالية أمر مستحيل، وثمَّةَ أدلَّة قوية تؤكِّد دور الجينات في تحديد السعادة، وهذا يعني أنَّه قد يكون لدينا جميعاً مرحلة محدَّدة نشعر عندها بالسعادة الداخلية، ولتحقيق هدفنا في تحسين الذات يكفي تغيير هذه المرحلة، وليس تجاهلها.
قد يعيش بعض الناس حياةً أكثر سعادة لو أنَّهم وُلدوا بشخصيةٍ مختلفة؛ إذ إنَّ هذا ليس عدلاً، لكنَّ الشكوى بشأنه كالتذمُّر من قصر القامة، فهي لن تنفع، وستقودُ إلى تجاهل كل الأمور التي يمكنك القيام بها لتعيش حياةً أفضل.
حتى لو لم تكن نقطة الضبط الجينية تلك موجودةً، فإنَّ الشعور المستمر بالسعادة أمرٌ مُستبعَد، ولا علم لي بأي شخصٍ عاش حياته هكذا، ومن المفارقات أنَّ ترقُّب السعادة التامة، سيجعلك على الأرجح متوتراً وبائساً جرَّاء المحاولة.
2. الألم ثمنٌ تدفعه مقابل سعادتك المستقبلية:
هناك حجَّةٌ مفادها أنَّ التعاسة تعزِّز الشعور بالسعادة، فأكثر اللحظات تحديَّاً وصعوبةً هي التي تحدِّد هويتنا، فالألم والحزن ينحتانِ الحيِّز اللازم لاختبار الفرح الحقيقي.
لن أذهب إلى حدِّ القول إنَّ كل السعادة التي نشعر بها وليدةَ آلام الماضي، وإلَّا فما الفائدة من السعي إلى عيش حياةٍ أفضل إذا كان الوصول للسعادة محصوراً فقط بالعيش ببؤس، ومع ذلك فإنَّ بعض التعاسة غالباً ما تكون عربوناً لأفراح المستقبل.
3. السعادة ليست الهدف:
هناك حجَّة مفادها أنَّ متلازمة السعادة مقابل التعاسة ليست مقياساً للحكم على الحياة المثالية، فالحياة بلا هدفٍ لا معنى لها، سعيدة كانت أم تعيسة، فالمسألة ليست العيش برغد وترف، بل العيش بهناء؛ إذ إنَّ لهذه الحجة وقعاً قوياً عليَّ، وإذا أردتُ أن أكون منحازاً، أقول إنَّ الحياة البائسة المكرَّسة للوصول إلى هدفٍ ما، أقرب إلى المثالية من حياةٍ سعيدةٍ بلا هدف.
كما أنَّ العيش الهانئ يقود إلى العيش الرغيد، فإنَّ وجود معنى لحياتك يعزِّز ذلك النوع من السعادة التي لا يمكن أن تصل إليه عادةً بمجرد امتلاك بعض المقتنيات المادية، وقد أُلِّفت كتبٌ كاملة عن هذه الحجة، لذا لن أُضيف المزيد، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّها ليست حجةً قوية.
4. التعاسة الفعَّالة:
إنَّ مقدار اللحظات التعيسة ليس ما يهمُّ في النهاية، بل التوجُّه الذي تأخذه هذه الأفكار، فإذا وُجِّهت لحظات الألم أو الإحباط توجيهاً صحيحاً، تصبح أدوات لعيش حياةٍ مثالية، بدلاً من أن تحطَّ من قدرك، وقد تخدم الكثير من المشاعر السلبية أهدافاً هامةً، فيردعكَ الخوف عن المجازفات الحمقاء، ويضمن لك الغضب فرض نفسك أمام المعتدي، ويمنعك الألم من وضع يدك في النار.
من المؤكَّد أنَّ هناك أوقاتاً تأتي فيها هذه المشاعر بنتائج عكسية، فتخشى المخاطر التي تكون أبعادها السلبية لا تُذكر، وتغضب عندما يحتاج منك الأمر بعض الدبلوماسية، وتشعر بالألم عندما تكون بخير إلى حدٍّ ما، لكن لمجرد أنَّك تستطيع جرح نفسك بالمنشار، لا يعني أنَّ المناشير عديمة النفع.
يستشهد المؤلِّف الأمريكي "بن كاسنوكا" (Ben Casnocha)، بالمؤلِّفِ والمدوِّن الأمريكي "جوناه ليرر" (Jonah Lehrer) في كتاباته عن الغاية المحتملة للتعاسة: "جو فورغاس (Joe Forgas)، عالمُ النفس الاجتماعي في "جامعة نيو ساوث ويلز" (University of New South Wales) في أستراليا، أثبت مراراً وتكراراً من خلال التجارب أنَّ الحالة المزاجية السلبية تؤدي إلى اتخاذ قراراتٍ أفضل في المواقف الصعبة، ويقترح "فورغاس" أنَّ السبب متجذِّرٌ في الطبيعة المتداخلة للمزاج والقدرة المعرفية: إذ يعزِّز الحزن استراتيجيات معالجة المعلومات الأكثر ملاءمةً للتعامل مع المواقف الصعبة".
مضيفاً من تجربته الشخصية: "لقد لاحظت منذ فترة طويلة أنَّني عندما أكون أكثر سعادةً وبهجة، أُنجز القليل فقط من العمل الفعلي".
شاهد بالفديو: 6 أمور تسرق منك السعادة إياك والقيام بها
توجيه حالتك الذهنية عوضاً عن اختيارها:
نحن لا نحظى غالباً بالفرصة لاختيار ما نشعر به حيال أمرٍ ما، وفي أحسن الأحوال، نكون قادرين على التحكُّم بمقدار ما نشعر به من سوءٍ أو سعادةٍ حياله، ونادراً ما يمكننا تغيير الشعور الذي يمنحنا إياه، فعلى الرَّغم من أنَّ المشاعر ليست خياراً بيدك على الأمد القصير، لكن من السهل اختيار ما ستفعله بهذه المشاعر، بمجرد الإحساس بها.
فإذا رُفضتُ، لا تُتاح لي الفرصة عادةً للتجاوب مع هذا الأمر، بنفس الطريقة التي قد أتفاعل بها مع ربح مليون دولار، ويمكنني تبرير ذلك أو التأقلم أو إلهاء نفسي للتخفيف من حدَّة الموقف، لكنَّ الرفض سيظلُّ أمراً سيئاً.
مع ذلك، بمجرد أن أحصل على حفنة التعاسة هذه، فأنا أملك الخيار في كيفية توظيفها؛ إذ يمكنني تحويلها إلى أمرٍ مدمِّرٍ للذات، واستخدامها بوصفها وسيلةً للطعن بتقديري لذاتي، أو إلى دافعٍ إيجابي، أستعيد به تركيزي على تطوير الذات.
عقلية "آيكيدو" (Aikido) والتعاسة المعاد توجيهها:
الآيكيدو فنٌّ قتالي ياباني يركِّز على "إعادة توجيه قوة الهجوم، بدلاً من مواجهته مواجهةً مباشرةً"، وانطلاقاً من هذا المنظور، يمكن أن ينقلب عدوان المهاجم عليه، وعلى نفس المنوال، إذا كنت عالقاً في دوامة مشاعر سلبية، يمكنك إعادة توجيه تلك الطاقة نحو أمرٍ مفيد، فمن المؤكَّد أنَّ هذا النوع من القوة الذهنية ليس أمراً تمارسه بصورةٍ مثالية، ولكنَّه قد يكون طريقةً أفضل للتعامل مع اللحظات التعيسة.
لقد حصل لي أمران منذ أن بدأت باتِّباع هذا النهج:
- انخفاض شدَّة المشاعر السلبية: فلا تحظى التعاسة بفرصة لتتفاقمَ عند إعادة توجيهها بأسلوب صحيح.
- زيادة الشعور بالسيطرة: فمن المؤكَّد أنَّ شعورك بالضيق لن يزول بسهولة، ولكنَّ الإدراك بأنَّك متحكِّمٌ بهذه الطاقة وقادرٌ على توجيها، يمنحك بعضاً من الهدوء وسط هذا العاصفة.
تدريب عقلية آيكيدو الخاص بك:
يتضمَّن التدريب في الغالب خطوتين:
- الفصل بين التوجُّهات البنَّاءة للمشاعر السلبية والمدمرة منها.
- تذكير نفسك أن تعتمدَ التوجه الأول عند الشعور بالحزن.
بالنسبة إلى الخطوة الأولى، بدأت بالتركيز على الأمور التي أُجيدها، عندما أواجه حالةً ذهنيةً معيَّنة، فإذا كنت غاضباً من أمرٍ ما، أمارس الرياضة بطريقةٍ أفضل، وإذا ما تعرَّضتُ للرفض، تساعدني هذه الطاقة غالباً على الاجتهاد أكثر، كما يُتيح لي الشعور بالضغط أن أبلي حسناً في المهام الروتينية اللاعقلية.
قد تختلف الخطط المقترحة الخاصة بك عن تلك الخاصة بي، لكن إذا قمت بتجربة عدة أمور، قد تتفاجأ بأنَّك في الواقع أقوى وأكثر إبداعاً ومثابرةً عندما تمرُّ بنوبة تعاسة أكثر ممَّا هي الحال عليه حين تكون سعيداً.
ربما تكون الخطوة الثانية أكثر صعوبة، فالحالاتُ الذهنية قد تقودك للإدمان عليها، وسواء كان ذلك لمصلحتنا أم لا، فنحن نريد تغذية مشاعرنا لا إلغاءها، فالأشخاص التعساء يستمعون للموسيقى الكئيبة، لا للأغاني المبهجة، حتى لو كانوا لا يحبِّذون الشعور بالحزن، إلا أنَّهم يتَّخذون خطوات كفيلة بتعزيز هذا الشعور.
هذا هو أحد الأسباب الذي عزَّز اعتقادي بأنَّ عقلية آيكيدو أكثر نجاحاً من محاولة تغيير حالتي العاطفية، ونظراً لأنَّنا مدمنون بصورةٍ لا منطقية على المشاعر التي نمرُّ بها، فمن السهل غالباً إقناع نفسك باتخاذ خطوات لتوجيه تلك التجربة بدلاً من تغييرها.
عقلية آيكيدو في الواقع:
أتذكَّر مرةً قبل بضع سنوات، بعد أن رُفضت من قبل فتاةٍ كنت معجباً بها، لقد كانت نقطة تحوُّلٍ ناجحة بالنسبة إليَّ، لأنَّني استخدمت كثيراً من الطاقة للخروج بأفكارٍ لتحسين نفسي، وأتذكَّر كيف قضيت وقتاً أكثر من المعتاد في تحديد ما أريدهُ في الحياة، وإعادة توجيه طاقتي للوصول إليه.
لقد شعرت بالسوء خلال ذلك الوقت، فإعادةُ التوجيه لم تغيِّر من حقيقة شعوري بالصدمة، ولكنَّ ذلك كان يعني أنَّني استطعت حماية نفسي كي لا تسوء حالتي، ووجَّهت تلك الطاقة المتبقية إلى أمرٍ بنَّاء.
ربما لم تكن جلسة العصف الذهني الخاصة بي ناجحة، كما لو أنَّني كنت واثقاً من نفسي، ومع ذلك فإنَّ توجيه تلك الطاقة يعني أنَّه يمكنني تحقيق شيءٍ بنَّاء، بدلاً من التمرغ في ذلك الشعور بالتعاسة.
أضف تعليقاً