من ناحية أخرى، يُعدُّ التحرر من مثل هذا التعلق الشديد بالذات سمة مميزة للتدفق الذهني، أو تلك الحالة المرغوبة بشدة من النشاط والتركيز، وإنَّ عدم التركيز على الذات هو أيضاً هدف معظم المجالات الروحية، والألعاب الرياضية والإبداعية أيضاً؛ وذلك لأنَّك كلَّما صرفت انتباهك عن نفسك، شعرت بتحسن، وتصرفت على وجه أفضل، وأصبحت شخصاً أفضل.
لسوء الحظ، فإنَّ الروح الحالية تعزز التركيز على الذات، وتشمل الأمثلة وسائل التواصل الاجتماعي، الأهمية المفترضة لبناء "علامة تجارية شخصية"، أو حركات تحسين وتقدير الذات، ويبدو أنَّ فكرة الذات المنفصلة - التي تُعَد مصيدة - تُروَّج لنا اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وعلى الرَّغم من وجود عشرات الطرائق لحل هذه المشكلة، سنقدم لك طريقتين يمكنك الاعتماد عليهما:
1. السعي وراء إتقان أيِّ شيء:
منذ أكثر من 2000 عام، كتب الفيلسوف أرسطو في كتابه (الأخلاق النيقوماخية) "Nicomachean Ethics" أنَّ النضال من أجل حياة ذات معنى جزء لا يتجزأ من الحياة ذات المعنى، أو ما يمكن أن نسميه اليوم التميز أو الإتقان؛ إذ أشار أرسطو، مع ذلك إلى أنَّ تحقيق الواقع - سواء كان ذلك عن طريق الانغماس الكامل في عمل فني أم فكري أم ألعاب رياضية - ليس ممتعاً دائماً، و"الحياة الفاضلة"، كما كتب "تتطلب مجهوداً، ولا تشمل التسلية"؛ لكنَّه كتب أيضاً أنَّنا في مثل هذه الأعمال الفاضلة كالاعتراف بضعفنا وتكريس أنفسنا لشيء ما، نفقد التركيز على أنفسنا.
بعد قرون، في كتابه الشهير "القيادة" (Drive)، وهو كتاب يتحدث في جوهره عمَّا يجعل الناس متحمسين، قدم المؤلف دانيال بينك (Daniel Pink) حالة مماثلة، فـ "الإتقان"، كما كتب بينك، "هو الألم"، ومع ذلك، مثل أرسطو، يذكُر بينك أيضاً أنَّ الإتقان له مغزى، وأنَّ فوائد مواجهة المرء للتحدي بملء إرادته والانهماك في نشاط ما كبيرة جداً.
في دراسة نُشرت في مجلة ذا جورنال أوف بيرسوناليتي آند سوشال سايكولوجي (the Journal of Personality and Social Psychology)، قامت عالمة النفس كارول ريف (Carol Ryff) باستطلاع آراء أكثر من 300 رجل وامرأة، من أجل تحديد علامات السلامة والعافية، ووجدت أنَّ الأشخاص الذين لديهم "شعور بالتطور المستمر"، ووجدوا أنفسهم "ينمون ويتوسعون" كانوا أكثر ميلاً لتسجيل علامات عالية في تقييمات الرضى عن الحياة واحترام الذات من أولئك الذين لم يفعلوا ذلك.
شاهد بالفيديو: كيف تتفادى التحول إلى شخصية سامة؟
يُظهر بحث آخر أنَّه عندما يمارس الأفراد نشاطاً من أجل النشاط نفسه، وليس من أجل نوع من المكافأة الخارجية، مثل المال أو الشهرة، فإنَّهم يميلون إلى الإبلاغ عن شعورهم بالعافية والإنجاز مدة طويلة.
قد تبدو محاولة إتقان حرفة أنانيةً بطبيعتها، لكنَّ هذا ليس هو الحال، وفي مقابلات مع أكثر من 100 عالم وفنان وأشخاصٍ آخرين يعملون في مهنٍ مختلفة ويقدمون إنتاجيَّةً عاليةً في أعمالهم، اكتشف عالم النفس ميهالي تشيكسينتميهايي (Mihaly Csikszentmihalyi) أنَّ معظمهم وجدوا أنَّ المعنى في حياتهم على وجه التحديد؛ وذلك لأنَّهم فقدوا تركيزهم على أنفسهم في أثناء مزاولتهم عملهم، أو لأنَّهم سلموا أنفسهم له.
لقد صاغ مصطلح "الاندماج الحيوي"، أو علاقة مع نشاط ينشغل المرء في إنجازه انشغالاً كاملاً، وكتب تشيكسينتميهالي أنَّ المعنى "مشتق من ارتباط الفرد بالتقاليد والمشاريع والمجتمع التي تتعدى الذات".
لا يهم ما هو نوع الحرفة، فبالنسبة إلى بعضهم قد يكون الجري، وبالنسبة إلى الآخرين النحت أو الطهي أو العزف على البيانو، ما يهم هو أنَّك تحترم تقاليد الحرفة وتكرمها، وتتابع التقدم فيها، ولا تشارك من أجل رفع نفسك (أي تعزيز الأنا)، لكن من أجل تجاوز فكرة "ذاتك" تماماً، عليك التعبير عن نفسك في العمل، وفقدان التركيز على ذاتك في العمل في الوقت نفسه.
2. اللطف:
مثلما قد يكون تكريس النفس للإتقان عملاً ذا معنىً نبيلاً، قد يكون تكريس الذات تكريساً مباشراً لمساعدة الآخرين أكثر قوة، (بالطبع، وجود أحد هذين الأمرين لا يلغي وجود الآخر)، تؤكد سونيا ليوبوميرسكي (Sonya Lyubomirsky)، إحدى أبرز باحثي السعادة في العالم أنَّ أبحاثها ما تزال تُظهر أنَّ واحدة من أفضل الطرائق لتعزيز السعادة والمعنى هي القيام بأعمال طيبة، مثل التطوع أو المنتورينغ أو الكوتشينغ أو حتى مجرد كتابة خطاب امتنان لشخص ما، وتقول إنَّه عندما يشارك الأفراد في هذه الأنشطة، فإنَّهم يبلغون عن مزيد من المشاعر الإيجابية، سواء على الفور أم بمرور الوقت.
تؤكد سلسلة حديثة من الدراسات أنَّ "التواصل الاجتماعي يعزز معنى الحياة"، سأل عالِم النفس داريل فان تونجرين (Daryl Van Tongeren)، وزملاؤه أكثر من 400 مشارك عن عدد المرات التي يمارسون فيها الإيثار، ثم سألهم عن مغزى حياتهم، أفاد أولئك الذين كانوا أكثر إيثاراً بمغزى أكبر في حياتهم.
بعد ذلك، أجرى تجربة من نوع الحالات والشواهد؛ أي إنَّه أخذ مجموعة من الأفراد، وقاس إحساسهم بالمعنى وفق معيار الحد الأدنى المطلوب، ثم أمر نصف المشاركين بممارسة أعمال الإيثار والنصف الآخر بعدم القيام بذلك، أفاد المشاركون الذين شاركوا في أعمال الإيثار عن زيادات أكبر في المعنى مقابل أولئك الذين لم يفعلوا ذلك، مما يشير إلى وجود علاقة سببية، أو أنَّ نتائج الطيبة لا ترتبط فقط بالمعنى؛ بل تصنعه بالفعل.
على الرَّغم من أنَّ الآلية الدقيقة التي يؤدي بها أداء الأعمال اللطيفة إلى تعزيز المعنى غير معروفة، لكن يتكهن الباحثون بأنَّ القيام بذلك يجعلنا نشعر بأنَّنا أكثر ارتباطاً وتجذراً في المجتمع، إضافة إلى ذلك فإنَّ القيام بأشياء لطيفة للآخرين يمنحنا هدفاً يتجاوز أنفسنا وفرصة للمساهمة في قضية أكبر، وكلاهما مرتبط بزيادة المعنى.
في الختام:
يدور عالم اليوم كلُّه حول الحلول السريعة، والآراء المتشددة، والغضب، ومع ذلك وفقاً للعلم وتقاليد الحكمة القديمة، فإنَّ مفاتيح الحياة الجيدة هي عكس ذلك تماماً.
أضف تعليقاً