يبقى الفرد ضمن بيئة العمل لفترة طويلة، فهو فعلياً يعيش ضمن بيئة تفرض شروطها باستمرار وينجم عنها نوع من القلق والتوتر، فتعلَّم الفرد ما يجب عليه القيام به في العمل، والطريقة المطلوبة للعمل، والسرعة التي يُطلب منه إنجاز الأعمال فيها، والأفراد المحيطين به والذي يُفرَض عليه التعامُل معهم يومياً؛ الأمر الذي يثير لديه مشاعر كثيرة ربما تكون في معظمها مشاعر سلبية وتقوده إلى الإحباط وظهور الصراعات والضغوطات النفسية.
في الواقع ينتج عن ضغوطات العمل نوعين من الآثار: الآثار الإيجابية والآثار السلبية، فطريقة فهم هذه الضغوطات وطريقة التعاطي معها تختلف بين فرد وآخر، فمنهم مَن يرى في هذه الضغوطات تحدِّياً ينبغي عليه ابتكار الوسائل للتعاطي معه والنجاح في تجاوزه، ومنهم من يستسلم بسهولة وينقاد باتجاه الإحباط.
في النتيجة حظِي هذا الموضوع باهتمام بالغ مؤخراً، فقد عمد الباحثون في مجال الموارد البشرية إلى وضع موضوع الضغوطات الوظيفية موضع الدراسة والبحث؛ وذلك لما تسببه من آثار نفسية وجسدية ضارة، وما ينتج عنها من سلوكات سلبية كانخفاض الولاء والشعور بالانتماء وزيادة معدَّلات الغياب ومعدَّلات الدوران، وهذا بدوره سوف يؤثر سلباً في أداء المنظمة ونجاحها.
أولاً: مفهوم ضغوطات العمل
أصبحت كلمة الضغط أو كما تُقال Stress لفظاً شائعاً في الوقت الحالي، وتنشأ بوصفها نتيجة لعدم القدرة على القيام بكل ما هو مطلوب أو عدم القدرة على تلبية الحاجات، فالضغط يمكن أن ينشأ عن أي سبب ويؤدي إلى توتر أو اضطراب جسدي أو نفسي.
بدأ الباحثون بدراسة موضوع ضغوطات العمل بشكل علمي في عام 1932 من قبل الباحث (هانز سيلي)، فقد نبَّهت دراسته إلى مخاطر الضغوطات بشكل عام وضغوطات العمل بشكل خاص، لكنَّ التحول الحقيقي والكبير في هذا المجال جاء بعد الدعوة التي أقامها جيمس كارتر ضد شركة موتورز الأمريكية، فقد تقدم بشكوى ضدها بسبب ما عانى من ضغوطات نفسية في أثناء العمل فيها وأدت به إلى إصابته بانهيار عصبي، وقد جاء الحكم لمصلحته، فقد نال تعويضاً كبيراً من الشركة؛ لذا فقد بدأ الاهتمام الفعلي من قبل المنظمات بالضغوطات العملية بعد تلك الحادثة لما تسببه من مضاعفات مادية تلحق بهم.
وُضِعَت مجموعة مختلفة من التعريفات التي حاولت توضيح معنى ضغوطات العمل، وعموماً تشير الضغوطات العملية إلى الحالة الناجمة عن تفاعل الإنسان مع العمل الذي يقوم به، والتي ينتج عنها حدوث تغيرات في داخلهم وتدفعهم باتجاه الانحراف عن أدائهم الطبيعي.
شاهد بالفيديو: كيف تتعامل مع ضغوطات العمل؟
من التعريفات في هذا المجال:
- محمد أحمد عبد الجواد في كتاب (إدارة ضغوط العمل والحياة): مجموعة من المثيرات الموجودة في بيئة عمل الأفراد، وينتج عنها مجموعة من ردود الأفعال التي تظهر في سلوك الأفراد في العمل أو في حالتهم النفسية والجسمانية أو في أدائهم لأعمالهم؛ نتيجة تفاعل الأفراد في بيئة عملهم التي تحوي الضغوطات.
- طاهر ميسرة في كتاب (ضغوط العمل وأثره على العلاقات الأسرية): الانعكاس السلبي والضار على صحة الإنسان النفسية والعضوية؛ نتيجة للمتطلبات المتزايدة في بيئة العمل والتي تفوق قدرة الشخص على العطاء في كثير من الأحيان.
- بارون baron: إنَّ الضغوطات المهنية تستخدم للدلالة على حالتين مختلفتين، تشير الأولى إلى الظروف البيئية التي تحيط بالفرد في بيئة العمل وتسبب له الضيق والتوتر (المصادر الخارجية للضغوطات)، أما الحالة الثانية فإنَّها تشير إلى ردود الفعل الداخلية التي تحدث بسبب الأولى.
لا بد من الإشارة إلى تنوع الضغوطات الوظيفية، ومنها:
1. الضغوطات الإيجابية:
الضغط الإيجابي هو بمنزلة التحفيز الذي يدفع الفرد لبذل مزيد من الجهود لتحسين أدائه وزيادة مهاراته بهدف تحقيق النجاح، كما قد تمارس بعض المنظمات هذا النوع من الضغط بهدف المحافظة على نشاط العاملين وأدائهم الجيد وإبعادهم عن الكسل والملل.
2. الضغوطات السلبية:
هي التي تسبب آثاراً كارثية على حياة الإنسان وسلوكه وتمنعه من تحقيق التوازن في حياته، فهذه الضغوطات تؤدي إلى التوتر والقلق، وانخفاض الروح المعنوية، وظهور الانفعالات السلبية المختلفة وكل ما من شأنه إرباك حياته وعدم شعوره بالهدوء والسعادة.
من حيث زمن استمرار ضغوطات العمل:
3. الضغوطات البسيطة:
التي لا تستمر لفترة طويلة، فقد تدوم من دقائق إلى ساعات فقط، وغالباً ما يكون سببها مضايقات أفراد العمل أو أحداث بسيطة.
4. الضغوطات المتوسطة:
تمتد من ساعات وحتى أيام، وقد تنجم عن مضايقات في العمل، أو التأخر بعض الشيء في إنجاز العمل، أو زيارة مدير ما.
5. الضغوطات الطويلة:
هي الضغوطات المضاعفة التي تسبب الآثار السلبية طويلة الأمد، وقد يصل الفرد بسببها إلى فقدان عمله.
ثانياً: أسباب ضغوطات العمل
1. شخصية الفرد:
تختلف شخصيات الأفراد في الاستجابة لظروف العمل المختلفة، فيوجد تفاوت بين قدرة فرد وفرد آخر في تحمُّل ضغط العمل وفي القيام بمهام العمل وفي درجة الالتزام ودرجة التأقلم مع الضغوطات المختلفة.
2. الضغوطات الاجتماعية المحيطة بالفرد:
قد يعجز الفرد بسبب ما يقع على عاتقه من ضغوطات اجتماعية على تحمل الظروف الخاصة بالعمل.
3. اختلاف حاجات الفرد ومتطلباته بين فترة وأخرى:
الأمر الذي ينعكس على عمله وتأقلمه معه.
4. عبء العمل الكبير:
يشير عبء العمل الكبير أو الزائد إلى وجود مهام وواجبات وظيفية تفوق قدرة الفرد ولا يستطيع تلبيتها أو إنجازها على أكمل وجه، الأمر الذي يسبب له التعب والإرهاق والخجل في كثير من الأحيان.
5. الملل:
قد تكون قدرات الفرد ومؤهلاته العلمية والمهارات التي يمتلكها أكبر من الوظيفة التي يشغلها، وهذا يدفعه للشعور بالملل وفقدان الدافع وأي شعور محفز للاستمرار بالعمل.
6. عدم وضوح الدور الوظيفي:
قد يعمل الفرد في وظيفة غير واضحة المهام وغير محددة لحجم الأعمال المطلوبة إنجازها أو أعمال متداخلة ومتشعبة أو هناك غموض في طريقة العمل، وهذا يفقد الفرد الرغبة في إنجازها أو محاولة التهرب منها.
7. صراع الدور:
المهام الوظيفية الموكلة للفرد متعددة وتتضارب مع بعضها أو أنَّها لا تنسجم مع شخصية الفرد وما يحمله من مبادئ.
8. عدم تحقق الأهداف الوظيفية التي يضعها الفرد لنفسه:
عندما يحدد الفرد لنفسه أهدافاً معينة ويربطها بالزمن لإنجازها ويفشل فيها، أو عندما لا يحقق أي تقدُّم يُذكَر في الوظيفة، أو عندما يقارن نفسه بالآخرين الذين تتسم مسيرتهم بالنجاح، كل ذلك سوف يولِّد الضغط ويقود في حالات كثيرة إلى الإحباط.
9. مكان العمل غير الملائم:
قد تكون بيئة العمل المادية سيئة من حيث متطلبات السلامة والضجيج والنظافة وغيرها.
10. المناخ التنظيمي السيئ:
قد تكون بيئة العمل سيئة من الناحية الاجتماعية والنفسية، فقد تكثر الصراعات والخلافات بحيث تحوِّل ساحة العمل إلى حرب بين الأفراد مقابل غياب التعاون وروح الفريق.
- تنحية الفرد عن المناصب الهامة وعدم المشاركة في عملية اتخاذ القرار.
- المستقبل الوظيفي غير الواضح وغياب الترقية عن حياة الفرد.
- عدم تناسب الأجر الممنوح للفرد مع الجهد المبذول.
- المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق الفرد وربط ما يقدمه بنجاح أو فشل المنظمة.
- التغيرات في بيئة العمل مثل تغيير التشريعات والقواعد الناظمة للعمل أو التغير في فلسفة وسياسة المنظمة.
- الغزو الثقافي الخارجي الذي يؤثر في نمط الحياة في المجتمع ومن ضمنه عمل الفرد.
- التغيرات التكنولوجية وما تفرضه من تغير في بيئة العمل تسبب القلق والخوف للأفراد.
- الآثار السلوكية
ثالثاً: الآثار الناجمة عن ضغط العمل
1. الآثار في حياة الفرد:
عدم شعور الفرد بالراحة يدفعه لتغيير سلوكاته فيزداد معدل الغياب، ويزداد معدل دوران العمل، وإنجاز المهام بشكل أبطأ، والاتجاه للانحراف والإدمان على الكحول والمخدرات، والتشتت وضعف التركيز، وعدم القدرة على التفكير السليم واتخاذ القرار المناسب، وسوء التقدير وإصدار الأحكام وغيرها من السلوكات غير الجيدة.
1. الآثار الجسدية:
ارتفاع ضغط الدم وتسارع في ضربات القلب نتيجة للغضب والتوتر المستمر، والإحساس بجفاف الفم والشعور بعدم الراحة والخمول والكسل.
2. الآثار النفسية:
التوتر والقلق والوصول إلى حد الإحباط وممارسة السلوكات العدوانية والشعور بالغضب باستمرار والحزن والكآبة وفقدان الأمل والنظر إلى المستقبل بتشاؤم.
2. آثار ضغط العمل في المنظمة:
إنَّ ضغط العمل لا يلقي بثقله فقط على الفرد بل أيضاً على المنظمة التي سوف ترتفع تكلفة العمل بالنسبة إليها، فتؤثر الضغوطات في عملية صنع القرار واتخاذه وجودة هذه القرارات، كما قد تؤدي الضغوطات إلى تعطل العمل وزيادة معدلات الغياب لدى العاملين ومعدل دوران العمل وغيرها من السلوكات التي تؤدي إلى زيادة تكاليف المنظمة.
في الختام:
عادة ما يرتكز نجاح منظمة ما على جهود الموارد البشرية العاملة فيها، فالعنصر البشري هو الأساس لأي عمل داخل المنظمة، لكن كثيراً ما توجد عوامل سواء داخل المنظمة أم خارجها تؤثر في حياة الفرد مشكِّلة ضغوطات العمل، وهذه الضغوطات لا تؤثر فقط في الفرد وحياته بل في الأفراد المحيطين به وأسرته وفي المنظمة نفسها؛ لذا تحاول الدراسات الحالية إيجاد أفضل الطرائق للتعامل مع الأفراد داخل المنظمة ومنحهم الحوافز المادية والمعنوية في محاولة لتجنُّب خسارة الكفاءات لديها، كما يجب على الفرد وضع الاستراتيجيات الخاصة به والتي تجنِّبه الوقوع ضحية هذه الضغوطات ومحاولة إكمال حياته على نحو سليم متجاوزاً ما قد يمر به من صعوبات وعقبات.
المصادر +
- رفاه عطار صباغ، أثر الضغوط الوظيفية على سلوكيات المواطنة التنظيمية ، الجامعة الافتراضية السورية، سوريا،
- وئام طنوس، أثر ضغوط العمل في مستوى أداء العاملين في القطاع المصرفي، الجامعة الافتراضية السورية، سوريا، 2019.
أضف تعليقاً