ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب ورائد الأعمال كريستوفر مايرز (Christopher Myers)، والذي يحدِّثنا فيه عن رحلته في السعي إلى السعادة المستدامة.
لقد قضيت العقد المنصرم من حياتي كرائد أعمال مكرِّساً نفسي للعمل مع الشركات الصغيرة، وكتبت باستفاضة عن رحلتي في عالم ريادة الأعمال، وخلال ذلك الوقت حققت نجاحات هائلة ومررت بإخفاقات شخصية عصيبة؛ حيث تجلَّت كلُّ لحظة من هذه الرحلة المتخبطة في كتاباتي وأعمالي التلفزيونية؛ والآن بعد مرور سنين يدهشني تأمل تلك التجارب التي مررت بها.
أهمُّ ما كتبته خلال حياتي من دون شك هو مقال نُشِر عام 2016 ناقشت فيه موضوع الاكتئاب الذي يتعرض له روَّاد الأعمال، واليوم بعد مرور أربع سنوات بلغ عدد قارئي المقال أربعة ملايين شخص؛ إذ تواصل معي العديد منهم طلباً للنصيحة الشخصية، وقد فتحَت هذه التجربة عيناي وجعلتني أكثر تواضعاً.
بِعتُ بعد كتابة المقال شركةً، ودخلت استثمارات عدَّة ناجحة، وقاسيت بعض الإخفاقات المؤلمة، والآن أقضي أيامي في إدارة شركة قروض قائمة على مهمة واضحة، وأعمل مستشاراً لعددٍ من الشركات، كما أكتب وأعلِّم في "جامعة ولاية أريزونا" (Arizona State University)؛ غير أنِّي تعلَّمت منذ ذلك الحين دروساً قاسية غيَّرت نظرتي للحياة والسعادة والنجاح.
أنا مؤمن بأنَّ هذا التغيير في المنظور كان اللحظة التي أصبحت فيها راشداً؛ حيث يقترن ذلك الإدراك مع الاضطرابات الاجتماعية التي نمرُّ بها، وهما ما دفعاني اليوم إلى التوسع في شرح المفهوم الذي شاركته قديماً؛ فأنا أشجع رواد الأعمال الذين يطلبون نصيحتي اليوم بأن يسعوا إلى "اليودايمونيا" (eudaimonia)، بدلاً من التغلب على القلق والاكتئاب في صراعهم الدائم معهما.
اليودايمونيا مفهوم فلسفي قديم يُعرِّفه الرواقيون (Stoics) بأنَّه "العيش بتناغم مع الطبيعة"، لكن قد يعرِّفها الجمهور المعاصر بأنَّها السعادة الحقيقية المستدامة بغض النظر عن الظروف؛ واستيعاب هذا المفهوم وتطبيقه تطبيقاً صحيحاً هما مفتاحا التغلب على المصاعب والمخاوف التي نواجهها الآن أو في المستقبل.
آمور فاتي (Amor fati):
أوَّل من صاغ مصطلح "آمور فاتي" (amor fati) "فريدريك نيتشه" (Friedrich Nietzsche) وهو يعني حرفياً "حبَّ القدر"، لكنَّ مفهوم تقبُّل الإنسان للأمور الخارجة عن سيطرته يعود إلى ما قبل ذلك بكثير، وينسب غالباً إلى الفيلسوف الرواقي الروماني "إبيكتيتوس" (Epictetus).
بغضِّ النظر عن معتقداتك، لا يمكن لأحد إنكار أنَّ ما سيحدث سيحدث لا محال، وقد نحاول أن نعطي معنى أو إرادة للأمور التي تحدث، لكن في النهاية لا يمكننا التحكُّم سوى بردة فعلنا على تلك الأحداث؛ فما يحدث لنا ليس سيئاً أو جيداً بحدِّ ذاته، لكنَّ ردة فعلنا تحدِّد أثره في حياتنا.
يحمل مفهوم "آمور فاتي" معنىً عميقاً بالنسبة إلي شخصياً؛ ففي بداية عام 2020 مررت بأول فشل ذريع في حياتي المهنية؛ إذ إنَّ مجموعة عوامل - أحدها كوفيد 19 - أدَّت إلى إغلاق خدمة إدارية كنت أحاول طرحها في سوق أمريكا الجنوبية، لقد استثمرت أموالاً ضخمة في المشروع، وبذلتُ جهداً كبيراً؛ لذا أثَّر فشلي في ذلك المشروع فيَّ بشدة اقتصادياً ونفسياً.
لم تكن تلك التجربة جميلة، وقد احتجت بعدها إلى بعض الوقت لاستجمع قواي وأضمِّد جروحي، لكن حين أنظر الآن إليها أدرك أنَّها كانت تجربة تعلُّمٍ لا مثيل لها؛ فالألم الذي تحمَّلته علمني درساً هاماً في الأعمال ودفعني إلى أن أصبح زوجاً وأباً وقائداً أفضل؛ وأعُدُّ اليوم تخطِّي تلك المرحلة معادلاً لحصولي على شهادة ماجستير في إدارة الأعمال.
يتعجب العديدون من قدرتي على النظر بحيادية إلى حدث مفجع كهذا، حتى أنِّي أجد قيمة في التجربة، لكنَّني تعلَّمت أنَّ هذه النظرة أساسية للوصول إلى اليودايمونيا؛ فلم يكن في مقدوري فعل شيء لمنع ما حصل، وعلى الرغم من الألم الذي سببه لي، لم يكن أمامي سوى خيارين، إمَّا أن أسمح للضغوطات بأن تسحقني، أو أن أعثر على السعادة في ظروفي، وقد يبدو ذلك لبعضهم إنجازاً بطولياً في التأقلم، لكن بالنسبة إلي كان الخيار الوحيد الخاضع لإرادتي في ظل ظروف خارجة عن سيطرتي.
سيواجه معظم روَّاد الأعمال تحديات مستمرة، ولن يتمتع العديدون بشبكة الأمان التي حظيت بها أنا، وعلى الرغم من ذلك، يجب أن نسأل أنفسنا: "ماذا ستكون ردة فعلي؟" إذ لا مهرب مما سيحصل، وبعض الأحداث ستفيدنا وبعضها الآخر سيعيقنا، لكنَّ الأمر الوحيد الذي في إمكاننا اختياره هو كيفية استجابتنا لها.
استبدل الأمور السطحية وغير الهامة بقيم أسمى:
الحقيقة المرَّة لليودايمونيا أنَّ الأمور التي نلهث خلفها معتقدين أنَّها ستمنحنا السعادة مثل الثراء والنجاح التجاري، لن تسعدنا في الحقيقة، ويمكنك أن تسأل أيَّ شخص حصل على ثروة حديثاً أو باع شركته عن ذلك، وسيخبرك أنَّ الإنجازات جعلت حياته مريحة، لكنَّها لم تؤدِّ إلى أيِّ تغيير حقيقي في سعادته.
تنبع السعادة الحقيقية من اكتشاف الذات والتحسن التدريجي والتمتع بإحساس بالهدف، وعلى الرغم من معرفتي بأنَّ هذه الكلمات لن تعزِّي شخصاً يمرُّ الآن بخسارة في العمل أو فقد منزله للتو بسبب الوباء؛ لكنَّ ذلك لا يغيِّر حقيقة أنَّ النقطة الوحيدة التي يمكنك التحكم بها في هذه الظروف هي ردة فعلك.
لا تخلط بين اليودايمونيا (eudaimonia) واليوفوريا أو "الابتهاج" (euphoria)، فنحن نتحدث هنا عن اتِّباع منهج طويل الأمد للوصول إلى السعادة الحقيقية وليس الراحة الآنية، وبالطبع سيكون الطريق وعراً وشاقاً على أغلبنا، لكنَّنا سنستفيد على الأمد الطويل طالما نستمر بالتركيز على إيجاد الجانب المشرق من ظروفنا.
من السهل جداً أن نفقد منظورنا خاصة حين نشعر بالخوف أو الإحباط، لكن علينا أن نتذكَّر المثل القائل: "دوام الحال من المحال"، فيمكننا أن نعثر على البهجة حين نستثمر كلَّ ظرف للحصول على أقصى قدرٍ من المعرفة، فالحكمة والشجاعة والعدالة والاعتدال كلها ثمنها غالٍ، ولا سبيل للتمتع بها سوى بالجهد والعمل والإصرار.
اختيار هرقل:
لعلَّ أفضل مثال على القيمة الدائمة والمتأصلة في السعي نحو اليودايمونيا نجدها في حكاية "اختيار هرقل" (The Choice of Hercules)، فيها يصادف المحارب اليوناني هرقل امرأتين في أثناء سفره على طريق مهجور؛ المرأة الأولى بديعة تخطف الأبصار وتدعى كاكيا (Kakia)، ويناديها رفاقها "يودايمونيا" (سعادة)، وعدَت كاكيا هرقل بأن تدلَّه على طريق سهل ورغيد يؤدي إلى مكان يعيش فيه دون تعب، أمَّا المرأة الأخرى متواضعة وقوية وتدعى أريتي (Arête)، والطريق الذي وعدته به طويل وشاق؛ فإن اختاره هرقل سيمر بالمحن من أول مشواره حتى آخره، وكي تفسر سبب ذلك قالت: "لا يحصل الإنسان على شيء حسن وبديع في حياته إلَّا عبر الألم والكدح".
اختار هرقل بالطبع طريق أريتي رافضاً وعود كاكيا/ يودايمونيا الكاذبة؛ وذلك لإدراكه أنَّ الطريق الحقيقي إلى اليودايمونيا (السعادة) يمرُّ بالمصاعب.
في الختام:
يقف كلٌّ منا حين يواجه الصعوبات أمام مفترق طرق كما فعل هرقل، ولن يكون اختيار الطريق الصحيح سهلاً ولن تحصد نتائجه على الفور، لكن حالما تدرك أنَّ السعي إلى السعادة الدائمة؛ أي اليودايمونيا، الأمرُ الوحيد الذي يستحق السعي نحوه ستكون أفضل حالاً على الأمد الطويل، وحينها فقط سترتقي إلى مصافي الراشدين.
أضف تعليقاً