يُعرِّف القاموس التواضع بأنَّه عدم حبّ الظهور، وعدم الاعتقاد بأنَّك أفضل من الآخرين، وثمّة تعريفٌ إضافيٌّ أيضاً يذكر أنَّ التواضع هو: "أن ينظر الشخص إلى نفسه نظرةً بسيطة، أي أن يكون الشخص وديعاً". لقد كانت أول مرةٍ أسمع فيها كلمة "تواضع" ضمن سياقٍ مرتبطٍ بالقيادة عندما ذكرها "جيم كولن" في عمله الذي كان له كبير الأثر والذي حمل عنوان "من الجيد إلى العظيم: لماذا تحقق بعض الشركات القفزة... دون البعض الآخر"، يسلِّط "كولنز" الضوء في هذا الكتاب على الشركات التي انتقلت من كونها جيدة إلى كونها عظيمة من خلال تحقيق عوائد في قيمة أسهمها تبلغ على الأقل ثلاثة أضعاف ما حققه سوق الأسهم العامة على مدى (15) عاماً.
من بين الصّفات التي تُميّز هذه الشركات من الشركات الأخرى هو أنَّها جميعاً لديها مديرون من المستوى5 (Level 5 leader). حيث يتخلى قادة المستوى5 عن غرورهم في سبيل تحقيق الهدف الأكبر وهو قيادة شركاتهم نحو تحقيق ما هو أروع. ولدى هؤلاء القادة مزيجٌ معقدٌ ومتناقض من التصميم الشديد على الصعيد المهني ومن التواضع الشديد على الصعيد الشخصي. فهم يحققون نتائج رائعة، ولكنَّهم يتجنبون التملُّق وهم غير متبجِّحين، ويوصفون بالتواضع. ومن الأمثلة على هؤلاء القادة الذين يجسِّدون التواضع "ديفيد باكارد" أحد مؤسِّسَيْ شركة "هيوليت-باكارد" (Hewlett-Packard) أو شركة "أتش بي" (HP) والذي يصف نفسه وفقاً لـ "جيم كولن" بأنَّه رجل (HP) أولاً والمدير التنفيذي ثانياً. لقد كان رجلاً يمثل الناس ويمارس الإدارة من خلال ما يُعرَف بالإدارة بالتجوال. يقول "باكارد" الذي كان يفضل تجنُّب جميع أشكال الظهور الإعلامي: " يجب عليك ألاّ تتبجح بأي شيءٍ قمت به، بل يجب عليك أن تمضي قدماً وتبحث عن شيءٍ أفضل لتقوم به".
"باتريك دانييل" هو أحد القادة العظماء الآخرين فهو المدير التنفيذي لشركة "إنبردج" (Enbridge) للطاقة والأنابيب والتي تعمل في أمريكا الشمالية. يتمتع "دانييل" بصفتَيْن قياديَّتَيْن: الإصرار على تحقيق النتائج والتواضع. فقد كان يتحاشى تركيز الانتباه عليه ويقدِّر دائماً مساهمات الآخرين، حيث قال: "لقد تعلمت مستفيداً من حياة القادة العظماء الذين اكتسبوا عظمتهم هذه من التواضع ومن إنكار الذات في بعض الأحيان".
اقرأ أيضاً: القيادة الخدمية: اهتم بفريقك أولاً ومن ثم بنفسك
من الواضح أنَّ التواضع بالنسبة إلى هؤلاء القادة والعديدين غيرهم لا يعني "الوداعة"، بل العكس، فالتواضع بالنسبة إليهم هو مصدر قوتهم. ولكنَّ مفهوم إنكار الذات هو أحد المفاهيم التي تسبب لنا المتاعب ضمن بيئتنا التنافسية التي تتطلب منا أن نقتنص كل فرصة للتفاخر بأنفسنا وتجعلنا لا نجرؤ على مغادرة المنزل من دون أن نتدرب مراراً وتكرارً على خطاب التعريف (elevator speech) الخاص بنا.
إنَّنا غالباً ما نخلط التواضع بالخجل، فالتواضع لا يعني إذلال الذات أو نقدها، ولكنَّه الشعور بالفخر تجاه أنفسنا، وإنجازاتنا، وقيمتنا ولكن من دون تكبُّر، فهو نقيض الغطرسة والتي هي الفخر المبالغ فيه والذي يميل إلى التكبُّر ويؤدي غالباً إلى انحراف بعض أبطال الشركة كما يحدث عند انهيار البطل التراجيدي في الدراما الإغريقية. إنَّ التواضع هو التمتع بدرجة كبيرة من الثقة من دون الحاجة إلى تسويق سلعنا بطريقةٍ براقة مخادعة، والسماح للآخرين باكتشاف مواهبنا من دون التبجح بها، والابتعاد عن التكبُّر وليس الابتعاد عن الكفاح سعياً وراء تحقيق الإنجازات.
ومن المفارقات المثيرة غالباً هي أنَّ الأشخاص كلما ارتقوا وازدادت إنجازاتهم ازداد تواضعهم. فالأشخاص الذين يحققون أكبر الإنجازات هم أقل من يتباهون بأنفسهم وكلما زادت ثقتهم بأنفسهم كانوا أكثر تواضعاً. يقول "إدوارد فريدريك هاليفاكس" (Edward Frederick Halifax): "الميزة الحقيقية هي أن تكون كالنهر فكلما كان النهر أعمق كان الضجيج الذي يصدره أقل". لقد قابلنا جميعاً أشخاصاً مثل هؤلاء وأحسسنا بالإعجاب تجاههم.
اقرأ أيضاً: 10 أخطاء شائعة في القيادة والإدارة
ثمّة أيضاً ذاك التواضع الذي لدى الأشخاص الذين نتعامل معهم كل يوم والذين لديهم القدرة على إنجاز عملهم من دون أن يلفتوا الانتباه إلى أنفسهم. كالموظف الذي يعمل خلف كمبيوتره حتى ساعةٍ متأخرة مدفوعاً فقط بإحساسه بالواجب، أو ذاك السكرتير الذي يبقى إلى ما بعد الخامسة والنصف في ليلة الجمعة في مكتبٍ فارغ منتظراً أحد العملاء، أو المدير الذي يلغي بهدوء إحدى المناسبات الشخصية المهمة ليطير وينجز أعمال الشركة. هذا أشبه بالمتصدق الذي لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
إنَّ التواضع هو أيضاً أحد الفضائل التي تتخذ أيضاً أشكالاً متعددة، فهو يتضمن مجموعة متنوعة من المبادئ. يمكننا أن نعلن بكل ثقة على سبيل المثال أنَّه لا مصداقية من دون تواضع. لماذا؟ لأنَّه دائماً ما يكون هناك فترة من حياة القائد لا يكون لديه فيها جميع الإجابات. فالإقرار بذلك وطلب مساعدة الآخرين يتطلبان أن يتمتع القائد ببعض التواضع.
إحدى العلامات الأخرى التي تميز القائد الذي يتحلى بالتواضع هي طريقة تعامله مع الآخرين، فمثل هؤلاء الأشخاص يتعاملون مع الجميع باحترام بغض النظر عن مكانتهم. ولقد قرأت منذ سنوات العبارة الآتية: علامة الإنسان المحترم هي كيفية تعامله مع الأشخاص الذين لا يقدمون له أيَّة منفعةٍ على الإطلاق.
اقرأ أيضاً: ما هو أسلوب القيادة الخاص بك؟
ثمة أشياء مثيرة أيضاً تحدث عندما نعالج الحالات من وجهة نظرٍ متواضعة. فالتواضع يفتح أمامنا باب الإمكانات عندما نفضِّل الانفتاح وحب الاستطلاع على التمترس خلف وجهات نظرنا. فنقضي مزيداً من الوقت في التفكير من خلال عقلية الأشخاص المبتدئين الذين يرغبون في التعلم مما يقدمه الآخرون. فننتقل من العناد إلى التقبُّل، ومن الشك إلى الثقة، ومن السعي إلى الحصول على الموافقة إلى السعي إلى تنوير الفكر. وننسى المثالية ونستمتع بأن نعيش اللحظة.
إليك بعض الاقتراحات التي تساعدك على التحلي بالتواضع:
- ثمة أوقاتٌ يكون فيها إخفاء المرء لشعوره بالفخر صعباً للغاية ولا يكون ثمَّة أي مكانٍ للشعور بالتواضع، فعندما ندخل في صراعٍ نحو الوصول إلى الكمال فإنَّ جميع الأطراف تبحث عن الظهور بمظهر جميل. فإذا وجدت نفسك في مثل هذه الأوضاع العبثية فطوَّرْ بعضَ الاستراتيجيات لضمان ألَّا تقودك الظروف إلى فقدان رزانتك. وجرب في بعض الأحيان التوقف عن الكلام والسماح للشخص الآخر بأن يكون مركز الاهتمام.
- إليك هذه الكلمات السحرية التي ستجعلك تشعر بالسلام الذهني أكثر ممَّا سيفعله قضاء إجازة مدتها أسبوع: "أنت محق".
- احذر من الانزلاق إلى المبالغة في إلقاء المواعظ أو القيام بالكوتشينغ مع الآخرين من دون الحصول على إذن – هل الحماسة لفرض وجهة نظرك تسيطر على تصرفاتك؟ وهل تصحيحك لأخطاء الآخرين يعكس احتياجاتك؟
- اسأل الآخرين عن رأيهم في طريقة ممارستك للقيادة. اسألهم: "كيف أبلي؟". يتطلب منك طرح سؤال كهذا أن تكون متواضعاً ويتطلب منك مراعاة الأجوبة التي تسمعها مزيداً من التواضع.
- شجع العاملين في شركتك على التحلي بالتواضع من خلال الظهور أمامهم بمظهر القدوة. ففي كل مرةٍ تشكر فيها الآخرين على النجاح الذي تحقق أكِّد على أهمية أخلاقيات العمل. جرب القيام بالكوتشينغ أو المينتورينغ مع القادة الصاعدين حول هذا الميزة المهمة من ميزات القيادة.
- ثمّة العديد من الفوائد للتحلي بالتواضع وعدم الميل إلى حب الظهور فهو يؤدي إلى تحسُّن العلاقات عبر جميع المستويات، ويقلل من الشعور بالقلق، ويشجع على مزيدٍ من الانفتاح، ويحسن ثقة الشخص بنفسه. ويفتح التواضع الباب أمامك لتحقق ذاتك. إنَّه بالنسبة إلي أجمل كلمةٍ في اللغة.
أضف تعليقاً