1. ما هو الحب؟
اختلف العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والفلاسفة في تعريف الحب ووصفه، فقد قال عنه الإمام ابن حزم في كتابه الماتع النافع طوق الحمامة أنَّه: "اتصالٌ بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع". ومنهم من عرَّفه أنَّه: "الانقياد لأمر المحبوب، وإيثاره على مراد المُحِب، والإقبال على حديثه".
يتّضح مما تقدّم عدم وجود تعريفٍ جامعٍ للحب، إنَّما يمكن وصفه فنقول: "هو شعور الانجذاب والإعجاب تجاه شخصٍ ما، أو شيءٍ ما. وقد يُنظر إلى الحبّ على أنّه كيمياء متبادلة بين اثنين، وعاطفةٌ يؤدّي تنشيطها إلى الشعور بنوعٍ من أنواع اللذّة؛ ماديّةً كانت أم معنويّة".
2. علامات الحب وأنواعه:
يوجد علاماتٌ تدلُّ على أنَّ الحبّ قد سرى في العروق، وولج بدون استئذانٍ إلى القلب، ومن هذه العلامات على سبيل المثال لا الحصر: إدمان النظر؛ فالعين مرآة القلب، والإقبال على المحبوب والإنصات إليه وإلى حديثه بتمعّن، وتعمّد الجلوس بقربه والدنو منه، ومسارعة الخطى نحوه والتباطؤ في مفارقته، وتسارع نبضات القلب عند سماع صوته أو اسمه، والنيل إلى الانعزال والسهر وحدوث اضطرابٍ في الطعام والنوم.
كلّ هذه وغيرها علاماتٌ تدلّ على وقوع القلب في الحب، وتختلف من حيث الشدّة والخفّة بحسب الأحوال.
3. درجات الحب:
للحبّ تقسيماتٌ عديدةٌ ومسمّياتٌ كثيرة، وأكثر من برع في هذا الباب هم العرب الأوائل، وذلك أنَّ اللغة العربية لغةٌ غنية تزخر بالمفردات، وهم من أصَّلوا الحبّ وأبدعوا فيه، فقالوا أنَّ الهوى هو أوّل درجات الحب التي سرعان ما تختفي، والصبوة هي ما يعقبها فيكون فيها الودّ والانجذاب إلى المحبوب، فتليها مرحلة الشغف التي تتوق نفس المحبّ فيها إلى مجالسة الحبيب والاختلاء به، أما رابع درجات الحب فهي الكَلَفُ وعندها يشتد الحبّ ليصل إلى الافتتان بالمحبوب، لتعقبها مرحلة العشق حيث تسيطر المشاعر على قلب المحبِّ بالكامل، فلا يرى سوى محبوبه، وقد يخالط العشق الرغبة في الحصول على لذّةٍ حسيّة. لتأتيَ بعدئذٍ درجة النجوى التي يمتزج فيها الحبُّ بالحزن والألم النفسي. أما الوُدّ فهو مرحلة الرفق واللين بالمحبوب، والهيام فهي حينما يهيم الحبيب فيكون إلى الجنون أقرب؛ إذ يشغل الحبيبُ تفكيرَ المحبِّ طوال الوقت.
4. الحب من حيث النشأة:
- حبٌّ فطريّ: الحبّ الذي يجده الإنسان في قلبه تجاه شخصٍ ما بدون سببٍ أو شرط، هو فطرةٌ من الله سبحانه، كحبِّ الأمِّ لأبنائها؛ فهي جُبِلَت عليه دون أن يبذل الأبناء جهداً في ذلك. ومن صوره كذلك حب النبي صلوات الله وسلامه عليه لأمِّ المؤمنين خديجة؛ فقد جاء في صحيح مسلمٍ عن النبيّ عليه الصلاة والسلام قوله: "إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا".
ومن أعظم أنواع الحب وأعلاها مرتبةً هو الحبّ في الله، فقد روى البخاريُّ في صحيحه عن النبيّ صلى الله عليه وسلّمَ في حديث "السبعة الذين يظلهم الله في ظله" فذَكر منهم: "ورجلان تحابّا في اللهِ، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه". وما يميز هذا الحبَّ أنَّه مطلقٌ غيرُ مقيد، ولا مكان للمصلحة والعطاء المشروط فيه، وليس فيه مقابل فهو قائمٌ على البذل دون انتظار المقابل أو المردود.
- حبٌّ مُكتسب: وهو الذي يكون بين أغلب الناس وفي معظم العلاقات الاجتماعية، وهو ما ذكره ابن حزم بقوله: "وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها، فمن ودَّك لأمرٍ ولّى مع انقضاءه"، وصورته أن يحدث الانجذاب والتقارب بين اثنين لصفاتٍ معينة، أو لأسباب محددة إما شكليّة، أو مادّية، أو اجتماعيّة، ويتلاشى هذا الحبّ في حال غياب المسبب، لذلك يطلق عليه صفة الحب المشروط، فهو يبقى بقدر وجود سببه، ومتى زال السبب اختفى الحب. لذلك هو يتّسم بالتذبذب والاطِّراد وعدم الاستقرار.
5. دورة الحب في العلاقة الزوجية:
يسري ما ذكرناه عن الحب سابقاً تماماً على الحبّ بين الزوجين؛ إذ تمر الحياة الزوجية بدورة طبيعيّة يتقلّب عبرها الزوجين بأطوار مختلفة تستمرّ بين ستة أشهر لتصل إلى سنتين، لتستقرّ بعدها وترجع إلى نقطة البداية، بالتالي فإنَّ فهمَ الزوجين وإدراكهما لهذه الدورة وأطوارها وخصائصها المصاحبة من شأنه أن يكون ترياقاً نافعاً للعديد من المشكلات الزوجية، أو يكون بمثابة مُسكّن لأوجاعها وآلامها النفسيّة المصاحبة التي يكون فتور الحب بين الزوجين نتيجة طبيعية وشائعة جداً لها، وهو ما يؤدي إلى ما يعرف بالطلاق العاطفي، وهي المرحلة التي تسبق الطلاق الحكمي أو الطلاق الفعلي؛ فالشهر الأول من الزواج كما يُطلق عليه شهر العسل، ليس كالسنة الخامسة منه؛ وهكذا.
لا يعني هذا أنَّ الحبّ يكون في أوّل سنة زواجٍ فقط، وإنَّما هو عبارةٌ عن دورةٍ طبيعيّةٍ تحمل خصائص معيّنة وتمرّ بها العلاقة الزوجية، ويمرّ بها الزوجان بالتبعيّة، ويكون لها بدايةٌ ونهاية. ومن شأن الوعي بها والتنبّه لها أن يساهم في تجاوز هذه المحنة بسلام.
وأطوار دورة الحبِّ في العلاقة الزوجية كما يُعرِّفُها أحد المختصين في كتابه المميز "أسرار العلاقات الزوجية السعيدة" هي: مجموعة مراحل، لكلّ مرحلةٍ خصائص ووقت محدد، وهي على الشكل الآتي:
- مرحلة الإعجاب: وهو ما يكون بين الرجل والمرأة قبل الزواج، حيث يشعر كلٌّ منهما بسعادةٍ غامرةٍ يصاحبها هَوَسٌ عاطفيٌّ يُولِّدُ الانشغال الدائم بالآخر، ويكون التركيز فيها على الجوانب الإيجابيّة فقط بحيث يرى كلٌّ منهم الآخر على أنَّه أروع ما في هذا الوجود، فلا يُرى إلَّا الصفات الشكليّة الظاهرة في كلٍّ منهما.
- مرحلة الانجذاب: وهنا تبدأ مرحلة إدمان التفكير في الآخر، ويبدأ نشاط الخيال في رسم لوحاته الفنيّة الرائعة المبنية على العاطفة الجياشة، بحيث يشعر كلّ طرف بالطمأنينة والميل القويّ تجاه الآخر. وتستمر هذه المرحلة من ثلاثة إلى ستة أشهر، وغالباً ما تتمثَّل بفترة عقد القرَان - (الملكة) في اللهجة الخليجية.
- مرحلة التقدير: وهي مرحلةٌ يبدأ كلّ طرفٍ فيها في الشعور بالامتنان والتقدير والسعادة لأنَّه قد وجد أخيراً شريك الحياة المناسب، فيحاول كلّ طرفٍ منهما غضَّ الطَّرفِ عن السلبيات أو مؤشر التنبيه الداخليّ -صوت الضمير- والخارجيّ الذي يعمل على تنبيه صاحبه في حالة وجود خطبٍ ما، أو خصلةٍ سلبيّةٍ أو صفة تتصادم وشخصيته، "فعين الرضى عن كلّ عيبٍ كليلةٌ" كما يقول الشاعر.
- مرحلة التعوّد: وفيها يعتاد كلا الزوجين على الآخر، فتنتهي مرحلة التصنع والتكلف، ويظهر الوجه الحقيقي لكليهما، وتغلب العادة ويغلب الطبع على التطبع.
- مرحلة المقارنة: وفيها يبدأ كلاً منهما بتذكير الآخر بأيامه المنصرمة، فتبدأ معها المقارنة بين اللحظة الحالية التي يعيشانها، وبين علاقتهما في مرحلة الإعجاب أو الانجذاب، وقد تكون ظاهرةً من خلال جدالٍ قد ينشأ بين الزوجين، أو خفيّةً -في أحيانٍ كثيرة- من خلال حواراتٍ داخليّة بين الإنسان وقلبه وعقله؛ وهذه هي أخطر أنواع الحوارات، لأنَّها غالباً ما تكون مبنيّةً على تفسيراتٍ وتحليلاتٍ شخصيّة غير دقيقة ومنصفة؛ وذلك أنَّ الحكم يكون مقتصراً على النظر من زاويةٍ واحدةٍ فقط، فينتج عنها شعورٌ في غير محله، ما يتسبب في ظهور ممارساتٍ سلبيّةٍ قد تكون عدوانيّةً أو هجوميّةً غير مُبَرَّرَةٍ أو مفهومةٍ بالنسبة إلى شريك الحياة في كثيرٍ من الأحيان.
- مرحلة انعدام التوازن العاطفي: وفيها يبدأ المخّ الأيسر المسؤول عن المنطق والتحليل، بإلغاء التجارب الإيجابيّة التي يقوم بها الطرف الآخر، ويبدأ في التركيز على التجارب السَّلبية، وتصيُّدِ الزلات؛ فيكثر الحساب والعتاب واللّوم. ثم يبدأ كلٌّ منهما بربط التجارب السلبيّة بالأحاسيس المزعجة، كالقلق والتوتر والضيق وغيرها من المشاعر التي تتولّد نتيجة ممارساتِ وسلوكاتِ الطرف الآخر.
يزداد هذا الأمر في نهايات الطور الأخير من دورة الحب في العلاقة الزوجية، فتبدأ بعد ذلك عمليّة التعميم السلبيّ؛ كأن تقول المرأة أنَّ زوجها مهملٌ لا يتحمّل المسؤولية، أو أن يقول الزوج أنَّه لم يتوقّع أن تظهر زوجته بهذه الصورة، على سبيل المثال لا الحصر.
والحقيقة تقول أنَّ الجهاز العصبي لا يميز بين الحقيقة والخيال، فيرى كلّ شيءٍ أمامه حقيقةً فيسعى إلى إثباتها. وبالتالي، يبدأ كلُّ منهما في البحث على أدلّةٍ وبراهين تُعزِّزُ وتأكّد تلك الأحكام الذهنيّة المبنيّة على تحليلاتٍ قاصرةٍ وأحكامٍ مسبقة؛ حالهُ حالَ شخصٍ يرتدي نظارةً سوداء فلا يبصر سوى السواد وإن جرى ذلك في وَضَحِ النهار.
وعند هذه المرحلة، يبدأ كلا الطرفين في الانسحاب والتقوقع على ذاته، أو يبحث عن بديلٍ يشغل وقته فيه كالعمل أو الأبناء أو العلاقات الاجتماعية أو الاهتمام بالموضة وسواها من أمورٍ بديلة، وفي أسوء الحالات يكون الحلّ في البحث عن بديل، لتبدأ هنا مرحلةٌ جديدةٌ تسمَّى "الخيانة الزوجية". - مرحلة الخروج: وهي المرحلة الختاميّة لهذه الدورة الطبيعية في العلاقة الزوجية، وهي أحد أمرين لا ثالث لهما؛ إما الصمت القاتل أو الصراع الدائم، وما يميز هذه المرحلة من علامات هي: عدم التقبل وعدم الاحترام وعدم التعاون وعدم الاهتمام وعدم الالتزام وعدم المرونة والمقارنات وعدم الإنجاز وانعدام الحوار.
كانت هذه إذاً درجات الحُبِّ وعلاماته بدءاً من النشأة ومروراً بالزواج وصولاً إلى مماته. أمّا كيف نُحيي الحبَّ بين الأزواج، فهذا ما سنتطرَّقُ إليه في الجزء الثاني من مقالنا هذا.
أضف تعليقاً