أدَّى انتشار وباء فيروس كورونا إلى التخفيف بشدةٍ من ضعفنا الفردي والجماعي، وهذا التقييم الأوَّلي ليس خيالياً، فضعفنا حقيقة.
نعم، إنَّها الحقيقة، لكنَّها ليست الحقيقة الكاملة، فعلى الجانب الآخر من ضعفنا تكمن حقيقة مرونتنا.
إليكَ تقييماً ذاتيَّاً سريعاً، وما عليك إلَّا أن تجيب عن الأسئلة الآتية على أنَّها صحيحةٌ بشكلٍ عام، أو خاطئةٌ بشكلٍ عام:
- أنا قادرٌ على التكيُّف عند حدوث التغييرات.
- يمكنني التعامل مع كلِّ ما يأتي في طريقي.
- أحاول أن أرى الجانب الهزلي من الأشياء عندما أواجه المشاكل.
- قد يجعلني التعامل مع التوتر أقوى.
- أميل إلى التعافي بعد المرض أو الإصابة أو غيرها من المصاعب.
- أعتقد أنَّني أستطيع تحقيق أهدافي، حتَّى لو كان هناك عقبات.
- أستطيع الحفاظ على تركيزي تحت الضغط والتفكير بوضوح.
- لا يُحبطني الفشل بسهولة.
- أفكِّر في نفسي كشخصٍ قويٍّ عند التعامل مع تحديات وصعوبات الحياة.
- أنا قادرٌ على التعامل مع المشاعر غير السارة أو المؤلمة، مثل: الحزن والخوف والغضب.
إذا أجبت بـ "صحيح" على معظم الأسئلة، فيمكن أن تعدَّ نفسك شخصاً مرناً.
كمجالٍ للبحث، كان مفهوم المرونة النفسية موجوداً منذ فترة، ومثل المفاهيم الكبيرة الأخرى في علم النفس كالذكاء أو الشخصية، فمن الصعب التوصُّل إلى تعريفٍ دقيقٍ ومتَّفقٍ عليه عالمياً؛ ولكن بشكلٍ عام، تُستخدَم المرونة على نطاقٍ واسعٍ للإشارة إلى قدرة المرء على تحمُّل الشدائد دون أن يعاني من آثارٍ منهِكة.
على سبيل المثال: يُظهِر الأطفال المعرَّضون إلى الخطر المرونة إذا حقَّقوا معه كفاءاتٍ اجتماعيةً معينةً مثل القدرة على الثقة بالآخرين، أو مهام تنمويةً مثل النجاح المدرسي.
ركَّز الباحثان الرائدان (آن ماستين) و(نورمان غارميزي) دراستهم على ثلاث ظواهر مرونةٍ ذات صلة هي:
- جودة النتائج لدى الأطفال المعرَّضين إلى الخطر.
- الكفاءة المستمرة في الأطفال الذين يعانون من الضغط.
- التعافي من الصدمة.
وقد حدَّدوا المرونة النفسية بأنَّها: "عملية التكيف الناجح، أو القدرة عليه، أو تحصيل نتائجه؛ وذلك على الرغم من الظروف الصعبة أو المهدِّدة".
منذ تسعينيات القرن الماضي، أظهر بحث المرونة على الأطفال والبالغين على نحوٍ مقنعٍ تماماً أنَّ المرونة هي وضعنا الافتراضي كبشر، فعلى سبيل المثال: وجدت (ليزا بتلر) من جامعة ستانفورد وزملاؤها في دراسة تتبَّعت أكثر من 1200 شخصٍ بعد هجمات 11 سبتمبر لمدة 6 أشهر، أنَّ "معظم الأفراد الذين تعرَّضوا -حتَّى بشكلٍ مباشر- إلى الترهيب أو تجارب الصدمات الجماعية الأخرى واسعة النطاق، لم يتعرَّضوا إلى صدمةٍ شديدة، بل أظهروا مرونةً ملحوظة".
فحصت دراسةٌ أخرى أُجرِيت بعد هجمات 11 سبتمبر مدى انتشار المرونة -التي جرى تحديدها على أنَّها عدم وجود أعراض اضطراب ما بعد الصدمة- في عينةٍ من أكثر من 2500 من سكان نيويورك خلال الأشهر الستة التي تلت الهجوم، وقد لُوحِظت المرونة في أكثر من 65٪ من العينة.
استنتج (ماستن) و(غارميزي) من خلال عملهما مع الأطفال أنَّ "النمو النفسي البشري محميٌّ للغاية"، أي أنَّه محميٌّ بشكلٍ جيد من الفشل ومصمَّمٌ على النجاح؛ فنحن أقرب إلى المرونة، منه إلى الضعف.
في الواقع، جرى تحديد العديد من الخصائص الفردية، مثل: الذكاء، والسمات الشخصية الخمسة الكبرى، والكفاءة الذاتية العالية، والتحديد الداخلي لموضع السيطرة، والمرونة النفسية؛ على أنَّها مؤشراتٌ للمرونة والقدرة على الصمود.
على سبيل المثال: وجد (ماستن) و(غارميزي) أنَّ الأطفال يتحسَّنون في ظلِّ الظروف المعاكسة إذا كانوا "متعلِّمين جيدين ومُدرَّبين على حلِّ المشكلات"، فهم يتفاعلون مع الآخرين، ولديهم الكفاءة والفعالية المدركة التي تقدِّرها الذات أو يقدِّرها المجتمع؛ وهذه الخصائص الفردية هامَّة.
ومع ذلك، تشير الأبحاث الحالية إلى أنَّ المرونة ليست صفةً إلى حدٍّ كبير، بل هي عمليةٌ ديناميكيةٌ ومتبادلةٌ تستجيب للأجواء والظروف السياقية.
وفي مراجعةٍ حديثة، قال الباحثون الأستراليون (جيما أبورن) و(ميرين جوت) و(كارين هور): "يمكن للمرء أن يُظهِر قوةً شخصيةً كبيرة، وشجاعةً، وقدرةً على التكيُّف في مكانٍ ومجالٍ واحدٍ من مجالات الحياة؛ ولكنَّه قد يواجه صعوباتٍ يصعُب التغلُّب عليها في الحياة الشخصية".
من خلال هذا التعريف، يمكن للفرد أن يكون مرناً في يومٍ ما، ولكن ليس في اليوم التالي، وذلك اعتماداً على البيئات الخاصة التي قد يندمج فيها الأفراد في أوقاتٍ مختلفةٍ من حياتهم.
في الواقع، مال البحث إلى إظهار أنَّ الخصائص البيئية والسياقية تتنبأ بالمرونة بشكلٍ أفضل من السمات الفردية. على سبيل المثال: وجد كلٌّ من (أرنولد سامروف) و(كاثرين روزنبلوم) -عالمان بارزان في مجال المرونة- أنَّه "عندما جرت مقارنة المساهمة النسبية للمرونة المبكِّرة والتحديات البيئية في مرحلةٍ لاحقةٍ من الصحة العقلية للأطفال والإنجاز الأكاديمي في دراسةٍ طويلةٍ أُجرِيت من الولادة إلى المراهقة، ساهمت مؤشرات مرونة الطفل مثل خاصية التنظيم الذاتي السلوكي والعاطفي التي تميِّز الصحة العقلية الجيدة، والتنظيم الذاتي المعرفي للذكاء؛ في الكفاءة لاحقاً".
ومع ذلك، يلاحظ المؤلِّفون أنَّ آثار مثل هذه المرونة الفردية لم تتغلَّب على آثار التحديات البيئية العالية، مثل: وجود أبوين سيئين، وأقرانٍ معادين للمجتمع، والمجتمعات ذات الموارد المنخفضة، والمشقات الاقتصادية.
أحد العوامل التي وُجِد أنَّها هامَّة إلى حدٍّ كبيرٍ في المرونة هي العلاقات الاجتماعية، سواءً في الماضي أم الحاضر؛ ولقد اشتُهِر (ماستن) و(جارميزي) بجملتهما الشهيرة: "يتحسَّن أو يتعافى الأطفال الذين يعانون من محنةٍ مزمنةٍ بنجاحٍ أكبر عندما تكون لديهم علاقةٌ إيجابيةٌ مع شخصٍ بالغٍ مؤهَّل".
بينما تلعب علاقات الطفولة دوراً هامَّاً في الصمود، ربَّما يكون الدعم الاجتماعي الحالي أكثر أهمية، إذ تشير الأبحاث إلى أنَّ حجم ونوعية شبكة الدعم الاجتماعي مرتبطان بالمرونة.
يساعد الدعم الاجتماعي المرونة من خلال آلياتٍ نفسيةٍ وسلوكيةٍ متعددة، فعلى سبيل المثال: قد تحفِّز الناس على تبنِّي سلوكاتٍ صحية، وتساعدهم في تقييم الأحداث المجهدة على أنَّها أقلُّ تهديداً، وتحسين احترامهم لذاتهم.
ربَّما تكون أفضل طريقةٍ لفهم المرونة هي "العلاقة الثنائية الاتجاه بين المرونة على مستوى الأنظمة، والمرونة الفردية".
بعبارةٍ أخرى: من المرجَّح أن يختار المرء استراتيجياتٍ فعَّالةٍ -مثل التأقلم النشط الموجَّه نحو الهدف للتخفيف من الأثر السلبي للصدمة- إذا سمحت بيئته لسمات المرونة لديه أن تتطوَّر بشكلٍ صحيح، وإذا كانت البيئة الحالية تدعم وتشجِّع مثل هذا التأقلم.
خلاصة القول:
أولاً: إنَّ مرونتك الشخصية في مواجهة الشدائد ليست متروكةً لك تماماً، إذ سيعتمد الكثير من نجاحك أو فشلك على الحظ، حتَّى لو كانت المتطلَّبات الخاصَّة لمواجهة التهديد المحدَّد تتناسب جيداً مع مهاراتك وخبراتك وميولاتك الخاصة.
علاوةً على ذلك، تؤثِّر الظروف الخارجية السابقة والحالية جداً في قدرتنا على المرونة، وعلى تطوير ونشر مهارات التأقلم الفعالة؛ وكلاهما خارج عن سيطرتنا بشكلٍ كبير.
ثانياً: بعض جوانب مرونتك متروكةٌ لك حقاً، والقرارات التي تتخذها خلال الأوقات العصيبة هامَّة. ومن بين الأكثر فائدة:
- بدلاً من العزل: اهتمَّ واستثمر في علاقتك الاجتماعية، سواءً كانت عاطفيةً، أم عائليةً، أم جماعية؛ وكن مفيداً للآخرين.
- بدلاً من جَلْد الذات: زِد الرعاية الذاتية؛ وتعمَّد تضمين أنشطتك الروتينية التي تمنحك إحساساً بالمغزى، والبهجة، والسلام، والعزاء.
- بدلاً من الجمود: افتح الباب أمام المرونة، وانحنِ بحيث لا تُكسَر، وتقبَّل مشاعرك، وتشاور مع قيمك وأهدافك في اتخاذ القرارات؛ وذلك إلى جانب السعي إلى التكيُّف وإيجاد الفرص في الأزمات. قيِّم موقفك بشكلٍ عادلٍ من منظورٍ واسع، ولا تتبنَّ الفكرة الأولى التي تتبادر إلى ذهنك، تحقَّق من الحقائق، وذكِّر نفسك الحقيقة.
- بدلاً من تجنُّب القلق: اتخذ إجراءً لحلِّ المشاكل، وركِّز على جوانب وضعك التي تقع تحت سيطرتك، واقبل التحدي الذي وضعه العالم أمامك، وواجهه.
أضف تعليقاً