يخرج الملايين يومياً من منازلهم وهم في وهم عن أحوالهم الحقيقية، يبتسمون ابتسامة مصطنعة، ويتحدثون بلغة لا تعبِّر عن قلوبهم. إنَّها ظاهرة عالمية، ففي أروقة شركات اليابان العملاقة مثلاً ترى النمط نفسه، أشخاص يخفون هشاشتهم وضعفهم تحت طبقات سميكة من التظاهر.
كنت أعيش ذلك بنفسي لسنوات طويلة بعد وفاة والدتي في عام 2015، كنت واهماً أنَّني الشخص الذي لا يضعف ولا ينكسر، واهماً بأنَّ إظهار الحزن ضعف وأنَّ البكاء ليس من شيِمَ الرجال الأقوياء، وكنت محطماً لكنَّني كنت مُصراً على أنِّي بخير، وأنَّ الألم لم يمسني، كاد يقتلني هذا التظاهر، لم يكن لدي الصدق الشخصي لاعترف حتى لنفسي.
تعرَّضتُ لمواقف متعددة كشفَت لي اهتزاز التوازن النفسي، كخذلان كبير من مجموعة كنت أعمل بها، كذبت على نفسي مرة أخرى وقلت: "أنا بخير، ولا مشكلة في الأمر" بينما كان الغضب والقهر ينهشان في داخلي.
كان جسدي يصرخ بينما رفض عقلي ولساني الاعتراف، والنتيجة أنَّ جسدي مَن دفعَ الثمن، فقد أصابني المرض لفترة طويلة، والسبب الحقيقي وراء ذلك هو (ما قادني شيء مثل الوهم)، فإن كنت تعتقد أنَّها تحميك، يؤسفني أن أخبرك أنَّك مخطئ، فهي تعزلنا عن ذواتنا الداخلية وعن الآخرين.
المصداقية مع الذات: الحقيقة التي تحررك
"يبدأ الطريق إلى السلام الداخلي بالصدق مع الذات" – دالاي لاما.
تخيَّل معي شخصاً يرى نفسه ناجحاً ومحترفاً في عمله، بينما هو في الحقيقة متأخر في إنجازاته ولديه مشكلات مالية كبيرة؛ يذهب لعمله يومياً بابتسامة عريضة، ويظهر للجميع أنَّه في قمة الإنجاز، بينما يعيش في داخله صراعاً مع واقع مؤلم لم يعترف به.
إنَّها الفجوة بين الحقيقة والوهم، وهي ما يسبب هذا الألم، والقلق، والشعور بالضياع، فهي تشبه بناء قصر على الرمال المتحركة، كلما بنيتَ أكثر زادت احتمالية انهياره.
الحقيقة أنَّ السلام الداخلي، لا يمكن أن يُبنى على أكاذيب ولو كانت تلك الأكاذيب موجهة لأنفسنا، ورحلة المصداقية مع الذات على الرغم من أنَّها مؤلمة في بدايتها إلَّا أنَّها ضرورية.
أتذكر جيداً عندما بدأتها، قضيتُ شهوراً من القلق والاكتئاب والعزلة، لقد كانت صدمتي كبيرة عندما اكتشفت الفجوة الهائلة بين ما أخبر الناس عن نفسي وبين ما أنا عليه فعلاً، شعرتُ أنني أعيش في وهم.
لكنَّ ذلك الانهيار كان بداية التغيير الحقيقي، وفرصة لإعادة بناء نفسي، ليس بالاعتماد على الوهم الذي أعيشه؛ بل على حجر صلب وهو الحقيقية.
"يتطلب العيش بسلام داخلي منك أن تكون متصالحاً مع نفسك، ومع ضعفك قبل قوتك، ومع أخطائك قبل إنجازاتك".
التحدي: الكذب على الذات وتأثيره
"أعظم كذبة في العالم كله هي أننا أصبحنا نصدق الكذبة التي نقولها عن أنفسنا" – باولو كويلو.
يتجلى الكذب على الذات في عدة صور يمارسها الملايين يومياً حول العالم من شوارع نيويورك المضيئة إلى هدوء القرى السويسرية، أهمها ما يأتي:
1. تجاهل المشاعر
كم مرة شعرت بالإحباط، أو الإرهاق، أو الحزن العميق ولكنك ابتسمت؟ المصداقية مع الذات لا تتم بالكبت وإخفاء المشاعر الحقيقة أو تجاهلها؛ لأنَّ تخزين هذا الألم يجعله كالقنبلة الموقوتة تنتظر لحظة مناسبة لتنفجر.
2. إنكار الأخطاء
ظاهرة منتشرة انتشاراً مدهشاً، فبدلاً من الاعتراف بالتقصير نلوم الآخرين، وحتى القدر.
يعتقد بعض المدراء في إحدى الشركات الأوروبية التي أتيحت لي فرصة الاطلاع على نمط إدارتها أنَّهم لا يخطئون أبداً؛ كانوا يجيدون فن التبرير لكل قرار خاطئ وأدى ذلك لفصل وطرد عدد من العاملين، وكانت تلك القرارات قاسية جداً فهذا النمط يتسبب بظلم الآخرين، ويمنع الفرد من التطور والنمو؛ لأنَّه لا يتعلم من الأخطاء، فالكذب يمنعك من أن تصبح نسخة أفضل عن نفسك.
شاهد بالفيديو: 10 علامات تدل على أنك تعيش حياة صادقة مع نفسك
3. السعي للكمال
هو أحد أكثر الأوهام خطورة. كنت أعيش التجربة بنفسي عندما ظهرتُ بمظهر المسيطر على كل شيء، سواءً على مشاريعي المخصصة أم في عملي السابق، ولم يكن لدي التوازن النفسي لأكتشف أنني أُرهِق نفسي بتمثيل صورة غير حقيقية، مما جعلني أعيش في توتر دائم.
الحقيقة أنَّ لا أحد كامل ومحاولة ادعاء الكمال هو كذبة كبيرة على النفس تسرق راحة البال والسلام الداخلي.
"يخلق الكذب على الذات فجوة عميقة ناتجة عن تجاهل المشاعر، وإنكار الأخطاء ورميها على الآخرين، والسعي للكمال".
الحل: المصداقية مع الذات بوصفها أساساً للسلام الداخلي
"كن أنت لأنَّ من لا يكون هو، لا يكون شيئاً" – أبو أحمد الغزالي.
الحل في خطوة واحدة لكنَّها عميقة جداً، اعترف بحقيقتك، نعم، اعترف بكل شيء، بنقاط قوتك وضعفك، بنجاحاتك وإخفاقاتك، بمشاعرك التي كبَتَّها.
لا يعد الاعتراف استسلاماً؛ لأنَّ الصدق الشخصي هو تحرير للنفس من عبء التظاهر وسجن الأوهام، ستكتشف حينها أنَّك أصبحت قادراً على فهم احتياجاتك الحقيقية، وبناء علاقات قائمة على الثقة مع الآخرين، ومع نفسك.
رحلة المصداقية مع الذات رحلة شجاعة، والسلام الداخلي الذي ستشعر به يستحق المحاولة، فابدأ اليوم مستعيناً بالخطوات العملية التالية:
1. التأمل
خصِّص وقتاً يومياً، خمس دقائق على الأقل، اجلس مع نفسك ليس للتفكير في المشكلات؛ بل لتسأل نفسك أسئلة عميقة: "ما الذي أشعر به اليوم حقاً؟"، "هل أنا راض عن قراري الأخير؟"، ما الذي أحتاجه الآن لراحة بالي؟".
هذا الحوار الداخلي هو أول خطوة تجاه المصداقية والتوازن الشخصي.

2. الاعتراف بالضعف
تقبَّل أنَّك لست مثالياً، ولن تكون أبداً، فالاعتراف بالخطأ والضعف ليس فشلاً؛ بل هو بداية التنمية الروحية والتطور؛ لأنَّك عندما تخطئ قل لنفسك بصوت عال: "لقد أخطأت، وسأتعلم من هذا الخطأ".
إنها جملة بسيطة لكنها أقوى بكثير من ألف عذر، وتذكَّر أنَّ كل شخص عظيم تعرفه ارتكب أخطاء، لكنَّ ما جعله عظيماً هو كيف تعامل مع تلك الأخطاء.
3. الالتزام بالقيم
حدِّد أهم ثلاث قيم في حياتك، قد تكون الصدق، والأمانة، والعائلة، والإبداع. اجعل تلك القيم هي بوصلتك في كل قرار تتخذه، فعندما تعارض أفعالك مع قيمك الأساسية، هذه إشارة واضحة بأنَّك لست صادقاً مع نفسك.
"خطوات بسيطة تتطلب شجاعة تقربك من نفسك الحقيقية وتعزز الصدق الشخصي فتوصلك إلى السلام الداخلي، وتحقق رسالتك في الحياة التي تربطك بالله".
في الختام
لا تخف من الحقيقة، ولا من نفسك، فكلما كنت أكثر صدقاً، اقتربت من السلام الداخلي.
كل خطوة تقوم بها الآن تجاه المصداقية مع الذات، هي خطوة تجاه الله؛ لأنَّ الله هو الحق، وعندما تتحلى بالصدق الشخصي، فأنت تفتح باب التنمية الروحية، بالتالي تتواصل مع خالقك وتدرك أنَّ رسالتك ليست إرضاء الآخرين؛ بل أن تكن أنت؛ لأنَّ الكمال لله وحده.
اعترِف الآن بما تشعر به، وتقبَّل مَن أنت، هذه الخطوة الصغيرة بداية التغيير الكبيرة الذي يوصلك إلى سلام لم تشعر به سابقاً.
أضف تعليقاً