ما هو الفرق الأساسي بين شخص يحترق وينهض من رماده كطائر الفينيق كلما عصفت به الحياة، وآخر يعجز عن مواجهة ما يعترضه من مشكلات فتراه ينهار عند أول ضربة؟
يستحيل أن نتطرق في مقال واحد لجميع الأسباب التي تعرقل تقدُّم الناس، ولكن يستمر علماء النفس والاجتماع في تكريس وقتهم لاستكشاف موضوعات، مثل السعادة والتفاؤل والعبقرية والموهبة والتسويف والتأثير ليكشفوا عن أسرار أو نقاط قوة من شأنها أن تجعل حياتنا أكثر فاعلية وإنتاجية.
إحدى تلك الأسرار هي فهم الاختلاف بين عقلية النمو والعقلية الثابتة؛ إذ يساعدك هذه الفهم على التحرر واعتماد النمو الذي يُعد حقك المشروع في الحياة، كما يمكِّنك من معاملة مجموعة من التأثيرات السلبية التي ترافق استخدام العقلية الثابتة.
ما هي العقلية الثابتة؟
ببساطة يحسب صاحب العقلية الثابتة أنَّه إمَّا أن يتَّسم ببعض الصفات أو لا يتسم بها؛ فهو إما بارع في شيء ما أو ليس كذلك، وإما ذكي أو ليس كذلك، وإما جميل أو ليس كذلك.
قد تقول إنَّ ذلك صحيح؛ فبعضنا يمتلك موهبة فطرية وآخرون لا يمتلكونها، والأمثلة كثيرة في حياتنا؛ فبعض الأطفال بارعون في كرة القدم في حين غيرهم ليسوا كذلك، ولكن تشير كتب مثل "شفرة الموهبة" (The Talent Code) لكاتبه "دانيال كويل" (Daniel Coyle) و"تطوَّر" (Bounce) للكاتب "ماثيو ساييد" (Matthew Syed) و"الموهبة أمر مبالغ به" (Talent is Overrated) لمؤلفه "جيفري كولفين" (Geoffrey Colvin) إلى أنَّ فكرة أنَّ الموهبة تقتصر على الفطرة فحسب ليست صحيحة؛ إذ نظروا إلى أمر العباقرة، إضافة إلى الأماكن التي تخرج منها مواهب استثنائية في العالم، وخلصوا إلى أنَّ الممارسة المكثفة المناسبة هي ما تفصل بين الجيد والبارع؛ بعبارة أخرى أي شخص يعمل بجد ويستثمر جهوده في تطوير المهارات بالصورة المناسبة قادر على الاقتراب من العبقرية والوصول إليها.
قد تقول إنَّك وُلدت بسِمة تميزك عن غيرك؛ فأنت بارع إما بالموسيقى أو الرياضة منذ نعومة أظفارك، ومقتنع بثبات موهبتك؛ وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن دعونا ننظر إلى مخاطر الافتراض بأنَّ لديك موهبة أو ذكاء فطري ثابت؛ فكم من أطفال "أذكياء" يرتادون مدارس للطلاب الموهوبين ليجدوا أنفسهم فجأة محاطين بآخرين "أذكى" بكثير منهم، أو هكذا يبدو الأمر، فيكمن هنا الفارق بين العقلية الثابتة وعقلية النمو.
يبدأ الأطفال أصحاب العقلية الثابتة بالشك في موهبتهم وذكائهم؛ فهم محاطون بأطفال موهبتهم فذَّة وليس لها مثيل، وقد أظهرت الدراسات التي تابعت وضع الأطفال أصحاب العقلية هذه أنَّ درجاتهم الدراسية تراجعت بعد عامين، وازداد تجنبهم للمواقف التي يحسبون أنَّهم لا يستطيعون معاملتها؛ ما حرمهم من فرصة النمو، فإذا ما أسقطتَ النمط السلبي هذا على حياتهم بأكملها ستكون إنجازاتهم محدودة، ولن يبلغوا أقصى إمكاناتهم.
على الجانب الآخر يفهم الأطفال الذين يتمتعون بعقلية النمو أنَّهم يستطيعون التعلم ممَّن يعرفون أكثر منهم، ويؤمنون بأنَّهم يستطيعون الوصول إلى مستوى غيرهم من خلال التعلم والممارسة، فيجربون أساليب مختلفة لنيل مبتغاهم؛ كطلب مساعدة إضافية، أو مرافقة الأشخاص الذين وصلوا في موهبتهم إلى مستوى أعلى ممَّا وصلوا هم إليه ليتعلموا كيف حققوا ذلك، كما تراهم يستمتعون بالتحديات؛ لأنَّهم يرون فيها النمو، وليس لأنَّها تعني وجود خطب ما بهم؛ فهم لا يركزون على الفشل؛ بل على التقدم بعد ذلك الفشل، في حين يركز الأشخاص أصحاب العقلية الثابتة على ما يعنيه الفشل بالنسبة إليهم.
تقول المؤلفة "كارول دويك" (Carol Dweck) في كتابها "طريقة التفكير" (Mindset): "من وجهة نظر الأشخاص ذوي العقلية الثابتة لا يبذل جهداً إلا مَن يعاني نقصاً، وحينما يدرك المرء أنَّه يفتقر إلى الكفاءة فلن يخسر شيئاً إذا ما حاول، أما إذا كنت تزعم أنَّ ليس لديك أي عيوب؛ أي إذا كنت تُعِدُّ نفسك عبقرياً أو موهوباً أو ناجحاً بالفطرة فالمحاولة ستجعلك تخسر كثيراً، وبذل الجهد يمكن أن ينتقص منك".
شاهد بالفديو: 7 استراتيجيات لتطوير عقلية النمو إذا كنت تمتلك عقلية ثابتة
ما الذي يؤدي إلى تطوير العقلية الثابتة؟
على الرغم من التناقض في الأمر إلا أنَّ مدح طفل أو انتقاده لامتلاكه (أو عدم امتلاكه) صفة معينة يمكن أن يبدأ المشكلة؛ إذ يبدو أنَّه من الطبيعي أن تخبر طفلك بأنَّه "ذكي جداً" عندما يحضِر لك فرشاة الأسنان ويطلب منك تنظيف أسنانه، إلا أنَّ ذلك يمكن أن يؤدي إلى إنشاء العقلية الثابتة، في حين يمكن لعبارة مثل: "أنا سعيد لأنَّك عرفت كيف تنظف أسنانك بنفسك" أن تعزز بذل الجهد والتفكير.
ما الذي يعزز وجود العقلية الثابتة؟
أحد الأسباب الرئيسة لذلك هو غياب الوعي بعقلية النمو؛ لكنَّك تتعلم عنها الآن، وعقلك الذي توسعت آفاقه بهذه الفكرة الجديدة لن يعود إلى سابق عهده أبداً.
نظراً لأنَّ عقولنا تبحث عن دلائل تثبت صحة ما نؤمن به؛ فسنستمر في القيام بذلك ما دمنا نرى أنَّ المرء إما أن يمتلك موهبة أو لا يمتلكها، ما لم نواجه صحوة تجبرنا على إعادة تقييم معتقداتنا، وإليك ما سيثير تلك الصحوة: إذا كنت من أصحاب العقلية الثابتة فسوف تفقد الثقة العالية في نفسك على الأمد الطويل؛ ذلك لأنَّك في كل مرة تواجه فيها أمراً يتحدى ذكاءك وموهبتك ستتعرض ثقتك بنفسك (التي تعتمد مدى ذكائك) للتهديد، وحتى إن تغلبت على ذلك التحدي سيتسلل الشك والخوف إلى قلبك دوماً، وشعور الفشل سيعتريك، كما يفكر عدد من الناس بهذه الطريقة، ولكن ثمن التفكير هذا هو الإصابة بالقلق وتجنب معاملة الناس والمواقف وغياب النمو واليأس والانتقاد الذاتي وعدم بلوغ الإمكانات، وما إلى ذلك، ولكن قبل أن تسقط في دوامة من اليأس اعلم أنَّ ثمة طرائق لتحسين العقلية هذه؛ فكما ذُكر أعلاه ما إن تتعرف إلى عقلية النمو سيطرأ تغيير كبير على طريقة تفكيرك تدفعك نحو النمو.
تتحدث كارول دويك في كتابها عن طفل أدرك أنَّ الذكاء ليس أمراً ثابتاً؛ فسأل والدموع تنهمر من عينيه: "إذاً لن أكون غبياً بعد الآن؟"، ومنذ ذلك الوقت تحسنت درجاته الدراسية وتصرفاته في المواقف كثيراً، وإذا كنت شديد الانتقاد لنفسك؛ فأنت بحاجة إلى القبول والتقدير الذاتي والثقة.
إذا كانت لديك عقلية ثابتة فقد تفرط في استخدام عملية ذهنية تسمى "التماهي" (Identification)، فقد تحدَّث اللغوي "ألفريد كورزيبسكي" (Alfred Korzybski)، مبتكر الدلالة العامة (General Semantics)، عن "جنون التماهي" (unsanity of identification) الذي يشير إلى الطريقة التي تربط من خلالها عقولنا بين الأمور؛ فعندما نربط بين شخصيتنا وفكرة سلبية نصبح أسيري عقولنا؛ فمثلاً: إذا كنت تظن أنَّك شخص فاشل فسيربط عقلك شخصيتك بأكملها بفكرة "الفشل"، إلا أنَّك لست فاشلاً بالمجمل؛ بل تحمل شخصيتك مزيجاً من التنوع والتعقيد والجمال.
أكمل الجملة الآتية واصفاً من خلالها نفسك:
"أنا ....."، ثمَّ اسأل نفسك ما إذا كان ذلك الوصف يُنصِفك، فهل أنت "كذا" في كل الأوقات وفي جميع المواقف؟
4 خطوات لاعتماد عقلية النمو في حياتك:
1. الإصغاء إلى صوت العقلية الثابتة:
عندما تواجه صعوبة ما قد يقول لك ذلك الصوت: "كان بمقدورك تجاوز هذا التحدي بسهولة لو أنَّك تتمتع بالموهبة الحقيقية، قلتُ لك إنَّها كانت مخاطرة؛ فانظر الآن كيف أظهرت للعالم محدودية إمكاناتك، لكن ما يزال لديك وقت للانسحاب، يمكنك إيجاد عذر ومحاولة استعادة كرامتك".
2. إدراك أنَّ لديك خيار:
يمكنك أن ترى التحديات على أنَّها إشارة إلى نقص في موهبتك أو قدراتك الثابتة، أو يمكنك أن تراها - باستخدام عقلية النمو - إشارة إلى أنَّك بحاجة إلى بذل مزيد من الجهد، وإيجاد استراتيجيات جديدة لتوسِّع من خلالها آفاقك.
3. مواجهة مشكلاتك باستخدام عقلية النمو:
لا تُحَلُّ معظم مشكلاتنا الشخصية أبداً لأنَّنا لا نفكر في مواجهتها وتحديها؛ لذا عليك مواجهة عقليتك الثابتة من خلال اعتماد إطار تفكير جديد قائم على عقلية النمو؛ فبدلاً من قول: "فهم الفواتير ومعاملتها أمر صعب جداً"، قل: "يمكنني معاملة الأمر تدريجياً من خلال فهم كل مفهوم على حِدة، وكل مجال منه أحسِّنه هو خطوة إلى الأمام، ولقد تعلمتُ شيئاً جديداً وأنا أتحسن"، وحتى يكفي أن تقول لنفسك: "لقد تعلَّم كثيرون كيفية القيام بذلك؛ لذا يمكنني تعلُّم ذلك والتحسن مع مرور الوقت أيضاً".
4. التصرف بناء على عقلية النمو:
افعل شيئاً يعكس عقلية النمو التي تبنيتها جديداً، فتساعدك عقلية النمو على أن تبلغ أقصى إمكاناتك، في حين تعرقل العقلية الثابتة تقدُّمك وتقيد نموك الطبيعي ضمن نطاق الحاجة إلى إثبات نفسك.
أضف تعليقاً