على وجه الخصوص، كان الاقتصادي الإيطالي كارلو تشيبولا واحداً من أبرز الخبراء في مجال الغباء البشري، "قوانين الغباء البشري الخمس الأساسية"، القصيدة التي حققت له نجاحاً لا يصدق، هي الآن معلمٌ، ويحتوي هذا الكتاب على عدة دروس لم يتم فهمها بعد، وشجعت على العديد من الدراسات والنظريات الأخرى التي تهدف إلى فهم أفضل للغباء البشري.
لنغص أكثر في إحدى هذه النظريات ونفهم الأسباب الثلاث للغباء البشري، ولنتعرف إلى أهمية الغباء في عملية البحث العلمي.
قوة الغباء البشري:
وفقاً لتشيبولا، السلوك هو الذي يجعل الناس أغبياء؛ لذلك، قبل أن نتعمق في أسباب الغباء البشري، من الضروري فهم المخاطر التي تنتج عن التصرف بطريقة غبية، ففي الواقع، يمكن أن يكون لتجاهل القوة المدمرة للغباء البشري عواقب كارثية على المجتمع؛ لذلك، دعونا نتعمق فيما قاله تشيبولا عن هذا الموضوع المثير.
المخلوق الغبي سيُزعجك من دون سبب، من دون فائدة، دون أي خطة أو مخطط، وفي أغرب الأوقات والأماكن، وليس لديك وسيلة رشيدة لمعرفة متى وكيف ولماذا يهاجم المخلوق الغبي، فعند مواجهة فرد غبي، فأنت تقع تماماً تحت رحمته.
في هذا المقتطف المأخوذ من قوانين الغباء البشري الخمس الأساسية، يجعل كارلو تشيبولا الأمور واضحة تماماً، قوة الغباء البشري تكمن في عدم القدرة على التنبؤ به؛ وهذا يعني أنَّ الأشخاص الأذكياء سيتعرضون دائماً للمفاجآت من هجمات الأفراد الغبية، إضافة إلى ذلك، والأسوأ حتى، لا يوجد دفاع ممكن، فمَن يمكنه وضع دفاع متين عندما يفتقر الهجوم إلى أي هيكل منطقي؟
على وجه الخصوص، يفشل الجميع باستمرار في التعرف إلى القوة الضارة والمدمرة بشكل طبيعي للغباء البشري، وكما آمن تشيبولا، يكمن السبب في أنَّ البشر يميلون للشعور بمشاعر الرضى والاستهتار عند مواجهتهم للغباء، وهو خطأ شائع، يمنع أدمغتنا من بناء الدفاعات، فإهمال قوة الغباء البشري هو ما يجعله أقوى.
إضافة إلى ذلك، أشار كارلو تشيبولا إلى كيفية تأثير الأشخاص الأغبياء في المجتمع بأكمله بقوله: "يعتقد الإنسان أنَّ الفرد الغبي سيؤذي نفسه فقط، ولكن هذا يدمج الغباء مع العجز"، ولجعل رأيه أكثر وضوحاً، أضاف أيضاً أنَّ "الأشخاص الأغبياء يتسببون في خسائر للآخرين دون أن يحققوا مكاسب على حسابهم الخاص، وهذا يفقر المجتمع ككل، وهذا يعني أنَّ آثار الغباء البشري واسعة الانتشار وتقريباً لا مفر منها، والاعتقاد بأنَّ الأفراد الأغبياء يمكن أن يؤذوا أنفسهم فقط هو اعتقاد ساذج، وبالمثل، تجاهلهم تماماً ليس حلاً صحيحاً.
مقاومة الغباء البشري:
حقيقة أنَّ نشاط وتحركات المخلوق الغبي تكون غير منتظمة وغير منطقية لا تجعل الدفاع مشكلة فقط، ولكنَّها تجعل أي هجوم مضاد صعباً جداً.
في هذا المقطع، فهم كارلو تشيبولا المشكلة الكامنة في مقاومة الغباء البشري، والتعامل معه بنجاح يكاد يكون مستحيلاً؛ لذلك، من الأفضل أن نحاول تجنب أو على الأقل تقليل السلوك الغبي، وإنَّ تصميم حل يمكن تنفيذه في المجتمع لصالح الجميع أمر معقد جداً ويحمل مخاطر سياسية؛ لذا، الطريقة الوحيدة الممكنة للتصدي للغباء البشري هي التصرف بشكل فردي بشكل عاقل، بفضل التأمل والوعي.
في هذا الصدد، تم اقتراح نظرية مماثلة وجذابة من خلال دراسة ملهمة أُجريت في جامعة إيوتفوش لوراند، فيشدد هذا البحث على أنَّه إذا أردنا تجنب تجربة الغباء، أو أن نكون ضحايا له، يجب علينا جميعاً أن نحاول تجنبه عن عمد. كيف؟ عن طريق التوعية بأسبابه، وكما يشير البحث، إنَّها ثلاثة أسباب فقط وكل واحد منها يسبب درجة مختلفة من الغباء:
1. الانشغال:
يتسبب الانشغال في أدنى درجات الغباء البشري، ويؤدي الانشغال إلى فقدان الأهداف بسبب نقص التركيز، وعدم الانتباه أو عدم تخصيص الموارد الكافية يؤدي إلى الإحباط وضياع الوقت، فيميل الأشخاص المنشغلون إلى عدم إنفاق الكمية المناسبة من الطاقة والتركيز في أثناء أداء المهام ذات الصلة؛ لذلك، يتصرفون بغباء لأنَّهم يكافحون من أجل تحقيق أهداف لا يرغبون حقاً في تحقيقها.
شاهد بالفديو: أنواع الذكاء الثمانية
2. نقص التحكم:
يؤدي هذا إلى درجة متوسطة من الغباء البشري، وإنَّ نقص التحكم شائع بين الأشخاص الاندفاعيين، وعدم وجود تحكم ذاتي يعني أن يكونوا ضحايا للأحداث، والتصرف بشكل غير منطقي نتيجة لذلك، كما وصفه تشيبولا بوضوح، هذا هو السبب الأول والرئيسي للغباء البشري؛ لذلك، يتصرف الأشخاص الذين يفتقرون للتحكم الذاتي بغباء لأنَّهم ميالون للتصرف بشكل اندفاعي، من دون عقلانية.
3. الجهل والثقة الزائدة:
يؤدي هذا إلى أعلى درجة وأخطرها من الغباء البشري، فالجهل والثقة الزائدة يؤديان إلى المخاطر، بينما لا يمتلكون المعرفة أو المهارات اللازمة لإدارة والتعامل مع النتائج المدمرة المحتملة، كما أشار كارلو تشيبولا، سيضطر الآخرون لدفع ثمن المشكلات التي يسببها هؤلاء الأشخاص، ويشمل ذلك أيضاً الأشخاص الأذكياء، فالأشخاص الجهلة يتصرفون بغباء لأنَّ أفعالهم لا تفيد سواء أنفسهم أم المجتمع.
أهمية الغباء في عملية البحث العلمي:
ينطوي العلم على مواجهة "جهلنا" المطلق، وكانت الفكرة قائمة لفترة طويلة، وهي أمر لا يقل إثارة، بل على النقيض من ذلك، تستحق إعادة النظر فيها من حين لآخر، حتى وإن كان ذلك لمجرد التحفيز الإيجابي.
أول من صاغ هذا المفهوم في الميدان العلمي كان مارتن شوارتز، أستاذ علم الأحياء الدقيقة والهندسة الطبية في جامعة فرجينيا، الذي نشر مقالاً عن دور الغباء في البحث العلمي في مجلة علم الخلايا في عام 2008.
يقترح شوارتز أنَّه ليس فقط من المقبول أن يشعر الباحث بالغباء، بل إنَّه ضروري حقاً، لأنَّك إذا كنت تتعامل فقط مع الأسئلة التي تعرف إجاباتها بالفعل، قد يجعلك ذلك تشعر بالذكاء، ولكنَّك لن تساهم في اكتشافات هامة.
إقرأ أيضاً: خطوات البحث العلمي وأهميته وأهدافه
كيف يقرر الباحث كتابة مقال عن أهمية الغباء في البحث العلمي؟
جاء إلهام شوارتز بعد لقائه بصديقة قديمة لم يلتقِ بها لسنوات، فيقول: "كنا طلاب دكتوراه في نفس الوقت، يدرس كل منا في مجال علم مختلف. غادرت بعد ذلك الكلية، ذهبت إلى كلية هارفارد للقانون، والآن هي محامية كبيرة في إحدى المنظمات البيئية الكبيرة، وفي إحدى اللحظات، تحول الحديث إلى سبب مغادرتها للدراسة العليا، لدهشتي، قالت إنَّ السبب كان أنَّها شعرت بأنَّها غبية، وبعد عدة سنوات من الشعور بالغباء كل يوم، كانت مستعدة للقيام بشيء آخر".
ثم يضيف: "كنت قد رأيتها على أنَّها إحدى أذكى الأشخاص الذين أعرفهم، ومهنتها لاحقاً تدعم هذا الرأي، وكلما فكرت فيما قالته، أزعجني، واستمر ذلك التفكير إلى يوم من الأيام قد فهمت، العلم يجعلني أشعر بالغباء أيضاً، والفارق هو أنَّني تعودت عليه، تعودت عليه لدرجة أنَّني أفتقده، ولا أعرف كيف أكون من دون هذا الشعور، حتى ظننت أنَّه يجب أن يكون الأمر هكذا".
هل يقول شوارتز إنَّ الشعور بالغباء هو شرط أساسي لإجراء أبحاث ناجحة؟
يشرح: "الغباء الإنتاجي يعني أن تكون جاهلاً بالاختيار، فيضعنا التركيز على الأسئلة الهامة في وضع محرج لأنَّنا جهلة، وإحدى الأشياء الجميلة في العلم هي أنَّه يسمح لنا بالتردد والخطأ مرة بعد مرة، والشعور بالراحة تماماً ما دمنا نتعلم شيئاً في كل مرة.
بلا شك، يمكن أن يكون ذلك صعباً على الطلاب الذين اعتادوا على الإجابة بشكل صحيح، ومن دون شك، تساعد مستويات معقولة من الثقة والمرونة العاطفية، ولكن أعتقد أنَّ التعليم العلمي قد يفعل ما هو أكثر لتخفيف انتقال كبير جداً: من تعلُّم ما اكتشفه الآخرون إلى صنع اكتشافاتك الخاصة، كلما أصبحنا أكثر راحة بالغباء، غمرتنا أعماق المجهول بشكل أكبر وزادت احتمالاتنا في اكتشاف أمور كبيرة".
الشعور بالغباء ليس مرتبطاً مباشرة بأن تكون غبياً:
يمكن تعميم الفكرة إلى أي ميدان آخر، دون تحريف المفهوم الأساسي، إنَّه يصور إحساساً شائعاً جداً في المختبرات العلمية، فإذا شعرت يوماً ما بأنَّك غبي، فأنت لست وحدك، فالسؤال الوحيد الغبي هو السؤال الذي لم يُطرح، ومن الأصعب والأهم طرح أسئلة جيدة من إعطاء إجابات جيدة.
كما قال ألبرت أينشتاين بذكاء: "صياغة المشكلة في كثير من الأحيان أكثر أهمية بكثير من حلها، والذي قد يكون مجرد مسألة من المهارة الرياضية أو التجريبية، وإنَّ طرح أسئلة جديدة، وفتح إمكانيات جديدة، والنظر إلى المشكلات القديمة من زاوية جديدة يتطلب وجود الخيال الإبداعي، وهذا ما يشكل تقدماً حقيقياً في العلم".
فوائد التصرف بغباء:
غالباً ما نرى الناس يتصرفون بغباء على الرغم من أنَّهم ليسوا بالغباء الذي يظهرونه، يتصرفون للحصول على فوائد من كونهم أغبياء.
فيما يأتي بعض فوائد التصرف بغباء:
- الميزة الأولى لكونك غبياً هي أنَّه لا يتوقع أحد كثيراً منك، حتى إذا قمت بأداء قليل، ستحصل على كل الترحيب والفضل.
- يمكنك دائماً أن تحمي نفسك من الإحراج بالعلم أقل من الآخرين، ويمكنك طرح سؤال 10 مرات، ومع ذلك، سيتم شرح الشيء نفسه بصبر، فيعلم الناس أنَّك بطيء في الفهم.
- عندما يتعلق الأمر بك، سيتم تبسيط كل شيء ليصل إلى مستواك، وستحظى بميزة فهم الأشياء من مرة واحدة.
- يمكنك ارتكاب الأخطاء وكسر القوانين ومع ذلك، ستكون آمناً ولن يتم تحديد هويتك، وقد تتعرض للعقوبة على الرغم من ذلك.
- لن تتحمل ضغوطات العمل والإسراع فيه في كل الأوقات، وليس عليك إكمال المهمة في الوقت المحدد ومع ذلك، سيتم إعفاؤك.
- ستحصل على فرصة لتتعلم أكثر من الآخرين، وسيكون الناس على استعداد لمساعدتك أكثر، فهم يعلمون أنَّك غبي وتتعلم ببطء.
- يمكنك طرح الأسئلة في كل الأوقات، إما أن يكونوا مهذبين تجاهك ويجاوبوك أو يرفضوا الإجابة بسبب غبائك، فيمكنك أن تمتع نفسك بكليهما.
في الختام:
إنَّ الغباء البشري، على الرغم من سلبياته المظهرية، يحمل في طيَّاته فوائد غير متوقعة، ويُظهر لنا الغباء قدرتنا على الابتكار والتفكير النقدي، وكذلك يلقي الضوء على جوانب الإبداع والتطور الشخصي، إنَّه يدعونا إلى التساؤل والاستكشاف، فيمكن أن يكون الغباء قوة دافعة لتحقيق اكتشافات هامة؛ لذا فلنتقبل الغباء، ولنعش التجارب الفاشلة بوصفها جزءاً لا يتجزأ من رحلتنا نحو التفوق والنضج العلمي والشخصي.
أضف تعليقاً