فقد أصبح العمل عن بُعد موضوعاً هامَّاً للنِّقاش بين الشَّركات والموظَّفين على حد سواء، لا سيَّما بعد تأثير جائحة كورونا التي أجبرت العديد من المؤسَّسات على تبنِّي هذا النَّمط من العمل؛ لضمان استمراريَّة الأعمال وسلامة الموظَّفين.
يهدفُ هذا المقال إلى استعراض مستقبل العمل عن بُعد، والتَّركيز على الفوائد والتحدِّيات التي تصاحبه، والاستراتيجيَّات الممكنة للتغلُّب على هذه التحدِّيات، وسنستكشف أيضاً كيف يمكن للتطوُّرات التكنولوجيَّة والسياسات الحكوميَّة المستقبليَّة أن تؤثِّرَ في هذا النَّمط من العمل، وكيف يمكن للشَّركات والأفراد الاستعداد بصورةٍ أفضل للمستقبل الذي يتَّسمُ بمزيد من المرونة والتنوُّع في طرائق العمل.
تطور العمل عن بعد:
سنتعرَّف فيما يأتي إلى كيفيَّة تطوُّر العمل عن بُعد:
1. تاريخ العمل عن بعد:
بدأ العمل عن بُعد بصورةٍ محدودة في الستينيَّات والسبعينيَّات باستخدام الهاتف وأجهزة الفاكس، فهو ليس جديداً، ثُمَّ تطوَّرَ مع تقدُّم التكنولوجيا.
2. كيف ساهمت التكنولوجيا في تسهيل العمل عن بعد؟
جعلَت التطوُّرات التكنولوجيَّة، مثل الإنترنت عالي السِّرعة، والتكنولوجيا السحابية، وأدوات التعاون مثل "Skype وSlack وZoom" العملَ عن بُعد أكثر فاعليَّةٍ وسهولة.
3. تأثير "جائحة كورونا" في انتشار العمل عن بعد:
دفعت "جائحة كورونا" الشَّركات لاعتماد العمل عن بُعد بصورةٍ أوسع، وهذا أبرزَ إمكاناته، وأدَّى إلى تغييرات دائمة في كيفيَّة إدارة الأعمال.
4. التحول إلى نموذج العمل الهجين:
دفعت تجارب العمل عن بُعد في أثناء الجائحة العديدَ من الشَّركات لتبنِّي أنموذج عملٍ هجين يجمعُ بين العمل من المكتب والعمل عن بُعد؛ لتحقيق التَّوازن بين الفوائد والتحدِّيات.
أصبح العمل عن بُعد جزءاً أساسيَّاً من النِّقاش في مستقبل بيئة العمل بعد هذه التحوُّلات.
فوائد ومزايا العمل عن بعد:
إليكَ أهمُّ فوائد ومزايا العمل عن بُعد:
1. المرونة في ساعات العمل:
تُعَدُّ المرونة الكبيرة التي يوفِّرها العمل عن بُعد للموظَّفين في تحديد ساعات عملهم من أهمِّ فوائده، ويُتيحُ هذا النَّمط للأفراد العملَ في الأوقات التي تناسبهم، وهذا يُساعدُهم على تحقيق توازن أفضل بين الحياة العملية والشخصية، ويُمكنُ للموظَّفين اختيار العمل في ساعات الصَّباح الباكر، أو في وقتٍ متأخِّرٍ من المساء وفقاً لتفضيلاتهم الشخصية واحتياجاتهم اليومية، وتُعزِّزُ هذه المرونة الرِّضى الوظيفي، وتُقلِّلُ من الضَّغط النَّفسي الناتج عن الالتزام بجدولٍ زمنيٍّ صارم.
2. تقليل التكلفة بالنسبة للشركات والموظفين:
يؤدِّي العملُ عن بُعد إلى توفيرٍ كبيرٍ في التَّكاليف بالنسبة إلى الشَّركات والموظَّفين على حدٍّ سواء، ويقلِّلُ هذا الأنموذج بالنِّسبة للشَّركات الحاجة إلى مساحات مكتبيَّة كبيرة ومُكلِفة، وهذا يؤدِّي إلى تقليل نفقات الإيجار والمرافق والخدمات الأخرى المرتبطة بالمكاتب التقليديَّة، إضافةً إلى ذلك يمكنُ تقليل تكاليف الصِّيانة والأثاث والمعدَّات المكتبيَّة.
أمَّا بالنسبة للموظَّفين، فيمكنهم توفير تكاليف التنقُّل اليوميَّة، مثل الوقود أو وسائل النقل العامَّة، فضلاً عن تقليل الإنفاق على الوجبات والملابس الرسميَّة، ويمكنُ أن يُحسِّنَ هذا التَّوفير في التكاليف من مستوى المعيشة للموظَّفين، ويزيد من رضاهم عن العمل.
3. زيادة الإنتاجية ورضى الموظفين:
تُشيرُ الدِّراسات إلى أنَّ العمل عن بُعد يمكن أن يزيدَ من إنتاجيَّة الموظَّفين، فالعديد من الأشخاص يجدون أنَّ بيئة العمل المنزليَّة أقلُّ تشتُّتاً من المكاتب التقليديَّة، وهذا يُتيحُ لهم التَّركيز بطريقةٍ أفضل على مهامهم، كما يمكن للموظَّفين تنظيم بيئة عملهم بما يتناسب مع احتياجاتهم الشخصيَّة، وهذا يُعزِّزُ راحتهم وكفاءتهم.
يمكنُ أن يزيد العمل عن بُعد أيضاً من رضى الموظفين، فالمرونة في ساعات العمل وتوفير التَّكاليف يؤدِّيان إلى تحسين جودة الحياة، وهذا ينعكس إيجاباً على الرِّضى الوظيفيِّ، ويكون الموظَّفون الذين يشعرون بالرضى عن عملهم أكثر احتماليَّة للبقاء مع الشَّركة لفترة أطول، وهذا يُقلِّلُ من معدَّلات الدَّوران، ويوفِّرُ تكاليف التَّوظيف والتَّدريب للشَّركات.
4. توسيع نطاق الوصول إلى المواهب العالمية:
يفتحُ العمل عن بُعد أمام الشَّركات فرصاً متنوعة للوصول إلى مواهب من جميع أنحاء العالم بدلاً من الاعتماد فقط على القوى العاملة المحليَّة، ويمكنُ للشَّركات الآن توظيف أفضل الكفاءات بغضِّ النَّظر عن موقعهم الجغرافي، وهذا يتيح للشَّركات بناء فِرَق عملٍ متنوِّعة ومتعدِّدة الثقافات، وتعزيز الابتكار والإبداع، كما يمكن أن يكون توسيع نطاق الوصول إلى المواهب العالميَّة ميزة تنافسية كبيرة للشركات، لا سيَّما في الصِّناعات التي تتطلَّبُ مهاراتٍ مُتخصِّصة، إضافةً إلى ذلك يمكنُ لهذا التوسُّع أن يساعدَ الشَّركات على التكيُّف مع التغيُّرات في السُّوق العالميَّة، والاستجابة بطريقةٍ أكثر فاعليَّة للتحدِّيات والفُرَص الجَّديدة.
5. تحسين الاستدامة البيئية:
يُسهمُ العمل عن بُعد في تحسين الاستدامة البيئية؛ لأنَّ تقليل التنقُّل اليومي يعني تقليل الانبعاثات الكربونيَّة النَّاتجة عن استخدام السيارات ووسائل النقل العامَّة، إضافةً إلى ذلك، يُسهمُ تقليل الحاجة إلى مساحات مكتبيَّة كبيرة في تقليل استهلاك الطاقة والموارد الطبيعيَّة، ويمكنُ أن تؤثِّرَ الشَّركات التي تتبنَّى العمل عن بُعد إيجاباً في الجُّهود العالميَّة لمكافحة التغيُّر المناخي والحفاظ على البيئة، وهذا يُعزِّزُ صورة الشَّركة، ويساعدها على الامتثال للمعايير البيئيَّة المُتزايدة التي تفرضها الحكومات والمنظَّمات البيئيَّة.
6. تعزيز التنوع والشمول:
يمكنُ أن يُعزِّزَ العمل عن بُعد التنوُّع والشُّمول في بيئة العمل، وذلك من خلال إزالة الحواجز الجغرافيَّة، ويمكن للشَّركات توظيف موظَّفين من خلفيَّات ثقافيَّة وجغرافيَّة متنوِّعة، ويقوِّي هذا التنوُّع روابط الفهم الثَّقافي، ويُسهمُ في توفير بيئة عمل أكثر شمولاً، إضافةً إلى ذلك قد يكون العمل عن بُعد فرصة لتمكين الأفراد الذين قد يواجهون صعوبات في العمل في بيئات مكتبيَّة تقليديَّة، مثل الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصَّة، أو أولياء الأمور الذين يحتاجون إلى رعاية أطفالهم، وهذا يعزِّزُ من التنوع والشُّمول، ويسهمُ في تعزيز ثقافة عملٍ أكثر دعماً للجميع.
مستقبل العمل عن بعد:
تتنبَّأ بعض التوقُّعات والتحليلات بمستقبل العمل عن بُعد، وأهمَّها:
1. التحول نحو أنموذج هجين للعمل:
من المتوقَّع أن تتبنَّى مزيد من الشَّركات أنموذجاً هجيناً يجمعُ بين العمل من المكتب والعمل عن بُعد، وهذا يُتيح المرونة للموظَّفين ويُعزِّزُ من إنتاجيَّتهم.
2. تأثير التطورات التكنولوجية المستقبلية:
يمكنُ أن تُحسِّنَ التطوُّرات في مجالات الذَّكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي من أدوات العمل عن بُعد، وهذا يُسهِّلُ التَّعاون والتَّفاعل بين الفِرَق البعيدة.
3. التغيرات المحتملة في السياسات الحكومية والتنظيمات القانونية:
قد تقوم الحكومات بتحديث القوانين واللوائح؛ لتنظيم العمل عن بُعد، وضمان حقوق الموظَّفين، وحمايتهم، وهذا يستدعي من الشَّركات التكيُّف مع هذه التغيُّرات.
4. الاستعداد للمستقبل:
تحتاج الشَّركات كما الأفراد إلى الاستعداد للمستقبل من خلال تبنِّي التقنيَّات الجَّديدة، وتطوير المهارات اللازمة للعمل عن بُعد، وإنشاء سياسات مرنة تدعم هذا النَّمط من العمل.
يمكن للشَّركات والموظَّفين بهذه الاستعدادات التكيُّف مع التحوُّلات المستقبليَّة في بيئة العمل وتحقيق النَّجاح والاستدامة.
تحديات ومشكلات العمل عن بعد:
لكلِّ عملٍ تحدِّياته ومشكلاته، فلنتعرَّف إلى تحدِّيات ومشكلات العمل عن بُعد في هذه السُّطور:
1. العزلة الاجتماعية، والشعور بالوحدة:
قد يؤدِّي العملُ عن بُعد إلى شعور الموظَّفين بالعزلة والوحدة؛ بسبب غياب التفاعلات اليوميَّة مع الزُّملاء، وهذا يمكن أن يؤثِّرَ سلباً في الصحَّة النفسيَّة، ويقلِّلَ من الرِّضى الوظيفي.
2. صعوبة الفصل بين الحياة العمليَّة والشخصية
يُصعِّبُ العملُ من المنزل على الموظَّفين فصل الحياة العمليَّة عن الشخصيَّة، وهذا يؤدِّي إلى تداخل الوقت المُخصَّص للعمل مع وقت الراحة، وزيادة الإجهاد والإرهاق.
3. القضايا التقنية والأمان السيبراني:
يعتمدُ العمل عن بُعد بصورةٍ كبيرة على التكنولوجيا، وهذا يزيد من مخاطر الأعطال التقنيَّة والهجمات السيبرانية، ويجب على الشَّركات توفير بنية تحتيَّة قويَّة وأمان سيبراني؛ لحماية البيانات.
4. إدارة الفريق عن بعد وضمان التنسيق والتواصل:
تتطلَّبُ إدارة الفريق عن بُعد استراتيجيَّات جديدة؛ لضمان التَّواصل الفعَّال والتَّنسيق بين أعضاء الفريق، ويمكن أن يُساعدَ استخدام أدوات إدارة المشاريع والتَّواصل مثل "Trello وMicrosoft Teams" على تحقيق هذا الهدف.
شاهد بالفيديو: 7 نصائح لإدارة فِرَق العمل عن بعد بنجاح
5. الحفاظ على ثقافة الشركة:
يُمثِّلُ الحفاظ على ثقافة الشَّركة في أثناء العمل عن بُعد تحدِّياً؛ لأنَّ فرص التَّفاعل الشَّخصي والفعاليات الاجتماعية تقلُّ، ويمكن تعزيز الثَّقافة من خلال تنظيم فعاليَّات افتراضيَّة، وجلسات تفاعليَّة.
6. تحديات التقييم والأداء:
يتطلَّبُ تقييم الأداء في بيئة العمل عن بُعد التَّركيز على النَّتائج والإنجازات بدلاً من ساعات العمل، ويمكن استخدام مؤشِّرات الأداء والأهداف المُحدَّدة؛ لتقييم الأداء بفاعليَّة.
7. التكيف مع التغيرات القانونية والتنظيمية:
يُثيرُ العمل عن بُعد قضايا قانونيَّة جديدة مثل حماية البيانات وساعات العمل، ويجب على الشَّركات تحديث سياساتها، والامتثال للقوانين المحليَّة والدوليَّة؛ لضمان حقوق الموظَّفين وحمايتهم.
الاستراتيجيات والحلول لمشكلات العمل عن بعد:
إليكَ بعض الاستراتيجيَّات والحلول لتحدِّيات ومشكلات العمل عن بُعد التي ذكرناها:
1. البنية التحتية التكنولوجية القوية:
يجبُ على الشَّركات الاستثمار في بنية تحتيَّة تكنولوجيَّة قويَّة تشملُ الإنترنت عالي السُّرعة، والأجهزة الحديثة، والبرمجيَّات المتقدمة، ويضمنُ ذلك امتلاك الموظَّفين الأدوات التي يحتاجونها للعمل بكفاءةٍ من أيِّ مكان.
2. تعزيز الثقافة التنظيمية الرقمية:
يجبُ على الشَّركات تنظيم فعاليات افتراضيَّة مُنتظَمة، مثل اجتماعات الفريق والجَّلسات الترفيهيَّة؛ للحفاظ على ثقافة الشَّركة وتعزيزها، ويمكنُ استخدام المنصَّات الرقميَّة؛ لتعزيز التَّواصل والتَّفاعل بين الموظفين.
3. التدريب والدعم الفني:
يُساعدُ توفير التَّدريب المستمر للموظَّفين على استخدام الأدوات التكنولوجيَّة وأفضل ممارسات العمل عن بُعد على زيادة الإنتاجية وتقليل المشكلات التقنيَّة، كما يجب توفير دعم فني سريع لحلِّ أي مشكلاتٍ تواجهُ الموظَّفين.
4. تنظيم لقاءات دورية واجتماعات فريقية:
يجبُ على الشَّركات تنظيم لقاءات دوريَّة واجتماعات فريقيَّة عبر منصَّات الفيديو مثل "Zoom" أو "Microsoft Teams"؛ لضمان التَّواصل الفعَّال والتَّنسيق بين أعضاء الفريق، وتُساعدُ هذه الاجتماعات على تعزيز التَّعاون وتوضيح الأهداف والمهام.
5. تعزيز الصحة النفسية والجسدية:
يجبُ على الشَّركات تشجيع الموظَّفين على أخذ فترات راحة منتظمة وممارسة النشاطات البدنيَّة؛ لتجنُّب الإرهاق والشُّعور بالعزلة، كما يمكن تقديم برامج دعم الصحَّة النفسيَّة والاستشارات.
6. التكيف مع التغيرات القانونية والتنظيمية:
يجب على الشَّركات متابعة التغيُّرات القانونيَّة والتنظيميَّة المُتعلِّقة بالعمل عن بُعد والامتثال لها، ويمكنُ الاستعانة بالخبراء القانونيين؛ لتحديث السياسات الداخليَّة، وضمان حماية حقوق الموظَّفين.
يمكنُ للشَّركات بتبنِّي هذه الاستراتيجيَّات تحقيق أقصى استفادة من العمل عن بُعد والتغلُّب على التحدِّيات المُرتبِطة به.
في الختام:
إنَّ العملَ عن بُعد أصبح تحوُّلاً لا رجعة فيه في بيئة العمل الحديثة، ونرى مع التكنولوجيا المتقدِّمة، والتحوُّلات الاجتماعيَّة نماذج عملٍ جديدة تُسهم في المرونة والإنتاجيَّة، ولكنَّها تتطلَّبُ أيضاً حلولاً واستراتيجيَّات جديدة؛ لإدارة الفِرَق، وضمان التَّواصل والتَّنسيق بفاعليَّة، وعزَّزَ تأثير "جائحة كورونا" هذا التحوُّل، وهذا يجعلُ من الضُّروري استكشاف الحلول المُستدامة والمتكاملة لمستقبل العمل عن بُعد.
أضف تعليقاً