في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، قرَّر المحلِّل النفسي "آرون بيك" (Aaron Beck) اختبار مفهوم أساسي للنظرية الفرويدية، وفسَّر المحلِّلون النفسيون الاكتئاب بأنَّه دافع ماسوشي، وهو العداء الذي يتحول إلى الداخل تجاه الذات، وإذا كان الأمر كذلك، توقَّع "بيك" أن تظهر هذه الموضوعات في أحلام المرضى، ولكن عندما فحص هذه الأحلام، لم يجد صوراً ماسوشية، بل كانت لدى مرضاه تصورات عدائية قليلة، وبدلاً من ذلك، وجد موضوعات الخسارة والرفض.
دفع هذا الفشل في النظرية الفرويدية "بيك" إلى التشكيك في افتراضاته بالكامل، فإذا استحال إثبات المبادئ الأساسية للنظرية في التجارب، فما هو مدى فائدة التحليل النفسي؟
وُلِد العلاج المعرفي من هذا الفشل، وفي العقود التي تلت عمل "بيك"، أثبت هذا النمط من العلاج فاعليته بوصفه أحد أهم الممارسات لعلاج الاكتئاب والقلق والعديد من الآلام النفسية الأخرى، وغالباً ما يفيد العلاج السلوكي المعرفي (CBT) أكثر من الأدوية الصيدلانية وحدها، وقد أصبح المعيار الأساسي للعلاج النفسي.
ما هو العلاج السلوكي المعرفي؟
الفرضية الأساسية للعلاج السلوكي المعرفي هي أنَّ التفكير المشوه يسبب ضائقة نفسية وسلوكات مختلة، وفي هذا النموذج، تدفعنا معتقداتنا إلى تفسير المواقف الغامضة بطرائق معينة، وتؤدي هذه التفسيرات إلى ظهور أفكار وألفاظ وصور تلقائية ترتقي إلى مستوى الوعي، وتُنتج هذه الأفكار بدورها ردود أفعال وسلوكات عاطفية.
على سبيل المثال، تخيل شخصاً مكتئباً يعتقد أنَّه غير كفء؛ عندما يحصل أداؤه في العمل على تقييم سلبي، فإنَّ ذلك يثير فكرة تلقائية من قبيل: "أنا فاشل جداً، لا أستطيع أن أفعل أي شيء على الوجه الصحيح"، ومن ثم تؤدي هذه الفكرة إلى الشعور بمزيد من الاكتئاب، وبالنتيجة انخفاض الحافز للعمل.
تعزز المعتقدات والأفكار والعواطف والأفعال بعضها بعضاً، وحتى لو كانت التغذية الراجعة مزيجاً من الإيجابيات والسلبيات، فإنَّ الشخص المصاب بالاكتئاب يفسرها تفسيراً سلبياً، وهذا يثير لديه أفكاراً تلقائية عن الفشل ويزيد من اكتئابه، فيجد صعوبة في العمل، وهذا بدوره يزيد من ترسيخ الاعتقاد الأصلي، ويجعل التفسيرات المماثلة أكثر احتمالاً في المستقبل.
يشجع العلاج السلوكي المعرفي الأشخاص على ملاحظة أفكارهم التلقائية والتشكيك فيها، ثم استخدام المنطق والتجريب لاختبار معتقداتهم وتبنِّي معتقدات أكثر واقعية، وتؤدي هذه العملية إلى أفكار ومشاعر وسلوكات سوية.
شاهد بالفيديو: 6 استراتيجيات لتحفيز الذات عند الإحساس بالاكتئاب
إدراك التفكير المضطرب:
تنشأ الأفكار التلقائية عفوياً، وليس لدينا أي سيطرة على محتواها، والهدف من العلاج السلوكي المعرفي ليس إنكار هذه الأفكار، بل ملاحظتها وتدقيقها، وفي دليل العمل الرائد للعلاج السلوكي المعرفي تسرد "جوديث بيك" (Judith Beck) (ابنة وتلميذة آرون بيك) عدداً من أنماط التفكير المضطرب التي يستخدمها الأشخاص الذين يعانون من ضغط نفسي متكرر:
- مبدأ إما كل شيء أو لا شيء: "أنا إما ناجح أو فاشل".
- التهويل: "إذا تركني شريكي، فلن أتمكن من العيش".
- تجاهُل الأدلة المؤيدة للتفسيرات الإيجابية: "لقد اجتزت الاختبار بسبب الحظ".
- الاستدلال العاطفي: "ما دمت أظن أنَّني فاشل، فأنا فاشل".
- النعت: "أنا فاشل".
- التضخيم/ الاستهانة: "التقييم المختلط يعني أنَّني غير كفء، والتقييمات الإيجابية لا تعني أي شيء".
- المرشح العقلي: "لأنَّ أحد الأشخاص في الحفلة لم يحبني، فلا بد أنَّني فاشل". (حتى لو كان الآخرون يحبونك).
- قراءة الأفكار: "إنَّها تعتقد أنَّني أحمق".
- المبالغة في التعميم: "لقد أفسدتُ الوصفة، لا أستطيع أن أفعل أي شيء على الوجه الصحيح".
- أخذ الأمور على محمل شخصي: "ألغت سوزان خططنا لأنَّها تكرهني". (متجاهلاً أنَّه ربما كان لديها سبب آخر).
- التفكير المتشدد: "لا ينبغي أن أرتكب أخطاء أبداً".
- الرؤية الضيقة: "إنَّه أحمق، لا يستطيع أن يفعل أي شيء على الوجه الصحيح".
أحد المبادئ الأساسية للعلاج السلوكي المعرفي هو عدم إنكار هذه التصريحات إنكاراً قطعياً، فغالباً ما تكون صحيحة جزئياً، وهذه الحقيقة هي التي تسمح لها بأن تتجذر بعمق في أذهاننا، وبدلاً من ذلك، يشجع المعالِج المرضى على البدء في ملاحظة هذه الأفكار التلقائية، ومن ثم، وبعملية الاستجواب السقراطي، يُقيِّم المريض مدى صحتها، ويُطلب من المرضى تقديم أدلة على صحتها وعلى عدم صحتها.
قد يؤدي عدم رد الصديق على رسالة نصية إلى إثارة فكرة "إنَّه لا يحبني، لا أحد يحبني"، ولكن بالنظر إلى الاحتمالات الأخرى، "ربما هو مشغول؟" أو تذكُّر أنَّه ساعدك على الانتقال العام الماضي ودعاك إلى حفلة حديثاً، قد يساعدك على التشكيك في صحة هذا الاعتقاد.
خطط العمل: العلاج السلوكي في العلاج السلوكي المعرفي
كانت الغاية من العلاج المعرفي في البداية التركيز على التفكير المضطرب، لكن اندمج منذ ذلك الحين مع العلاج السلوكي الذي يركز على سلوكات الناس المختلة.
انظر إلى القلق على سبيل المثال، يبدأ الشخص القلِق اجتماعياً بالشعور بالقلق عندما يُطلب منه تقديم عرض في العمل، فيلازمه القلق طوال الشهر، ثم يعتذر، ويطلب من رئيسه تكليف شخص آخر.
تجنُّب قلقه له نتيجتان رئيستان:
- يؤدي الارتياح الذي يشعر به لعدم الاضطرار إلى تقديم العرض إلى تعزيز سلوكه، فيتشجع الجزء التحفيزي من دماغه على إيجاد طرائق لتجنب العرض في المستقبل.
- بسبب رفضه تقديم العرض، لن يتمكن أبداً من معرفة ما إذا كانت مشاعره بشأن العرض دقيقة أم لا، فربما كان يعتقد أنَّه سيتعرض للإهانة، لكنَّه لن يحصل أبداً على دليل ينفي أنَّ مثل هذه النتيجة غير محتملة.
تعد خطط العمل والتجارب السلوكية المصممة لاختبار صحة المعتقدات أمراً أساسياً في العلاج السلوكي المعرفي، وهذه الأمور هامة تحديداً للمرضى المصابين بالاكتئاب الذين يجعل مرضهم القيام بالأعمال المنزلية البسيطة أو الرعاية الذاتية أمراً صعباً جداً، وباتخاذ إجراءات صغيرة، فإنَّك تقطع حلقة التغذية الراجعة المستمرة ذاتياً التي تولِّدها أفكار الاكتئاب والتقاعس عن العمل.
هل يصلح العلاج السلوكي المعرفي لمن لا يعاني الاكتئاب أو القلق؟
أحد الأشياء التي تذهلك عند قراءة البحث عن العلاج السلوكي المعرفي هو مدى ارتباطه بالأداء النفسي الصحي عموماً، وليس فقط الحالات الشديدة من القلق أو الاكتئاب.
إذا أمعنتَ النظر في ذلك، ترى أنَّ معظم النصائح في العلاج السلوكي المعرفي موجودة في كتب المساعدة الذاتية، ومن ذلك: اتخذ إجراءً، حتى لو لم يكن لديك رغبة في ذلك، وتصوَّر نواياك، وحدد الأهداف، ومارس الرياضة، وكوِّن عادات لتعزيز دوافعك؛ فربما يرجع ذلك إلى أنَّ العلاج السلوكي المعرفي يعتمد على الفطرة السليمة.
ما هو العنصر النشط في العلاج السلوكي المعرفي؟ السلوكي أم المعرفي؟
كما ذكرنا آنفاً، يعد العلاج السلوكي المعرفي، ككل، أحد أكثر أشكال العلاج فاعلية، لكن العلاج السلوكي المعرفي ليس تقنية محددة، وإنَّما إطار للتفكير في المشكلات النفسية يشمل عديداً من الأساليب المختلفة، مثل التعرض، واليقظة الذهنية، واختبار الفرضيات، وقبول الذات، وحل المشكلات، وتحديد الأهداف وغيرها من الأفكار كلها تقع تحت مظلَّة العلاج السلوكي المعرفي، ومن ثم، فإنَّ تحديد عناصر العلاج السلوكي المعرفي التي تعزز فاعليته ما يزال قيد النظر.
يدور النقاش حول ما إذا كان العنصر النشط في العلاج السلوكي المعرفي هو تغيير الاعتقاد؛ أي ملاحظة الأفكار التلقائية وإخضاعها لنوعٍ من التحليل العقلاني، أو ما إذا كان التغيير السلوكي المباشر هو الذي يجعل العلاج السلوكي المعرفي فعالاً جداً.
وجدت الأبحاث عن العلاج بالتعرض للرهاب واضطرابات ما بعد الصدمة والقلق أنَّ التعرض وحده يؤدي دوراً مماثلاً تقريباً للتعرض إضافة إلى العلاج المعرفي، وقد لا يكون الحديث عن سبب عدم خوفك بنفس أهمية تعريض نفسك لمخاوفك والسماح لها بالتلاشي.
بالمثل، في حينَّ أنَّ مرضى الاكتئاب يستغرقون في أنماط التفكير المضطربة، فإنَّهم يواظبون أيضاً على أنماط السلوك المختل، وقد يؤدي البقاء في السرير طوال اليوم وعدم ممارسة الرياضة والتقاعس عن متابعة مهام الحياة الأساسية إلى تفاقم الاكتئاب، ولعل قيمة العلاج السلوكي المعرفي تكمن أكثر في قدرته على دفع الناس إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة، حتى لو كانوا يشعرون بالاكتئاب.
في الختام:
يسهم العلاج السلوكي المعرفي إسهاماً كبيراً في تحسين الصحة النفسية، وبفهم مبادئ العلاج السلوكي المعرفي وفي ظل ارتفاع تكلفة الحصول على الدعم الصحي النفسي، يمكننا وضع استراتيجيات فعَّالة بأنفسنا للتعامل مع التحديات النفسية والتغلب عليها، لا سيما أنَّ معظم الصعوبات التي نعانيها لا ترتقي إلى مستوى الاضطراب السريري، وهذا يساعدنا على تحسين نوعية حياتنا وتحقيق أهدافنا الشخصية بطريقة صحية ومتوازنة.
أضف تعليقاً