يُظهر علم الأعصاب أنَّ دماغ الإنسان مُصمَّم لاتِّخاذ قرارات تُعزز من فرص البقاء والسعادة، ويتم ذلك من خلال توازن دقيق بين العواطف والعقلانية، فتُستعمل الدوائر العصبية لتقييم الخيارات المختلفة من خلال منظور الفوائد والأضرار المحتملة، فمثلاً تساهم مناطق معيَّنة من الدماغ مثل القشرة الجبهية الأمامية والجهاز الحوفي في معالجة المعلومات وتحديد القرارات التي تُعظِّم المنفعة.
سنستعرض في هذا المقال مفهوم الرفاهية النفعية، وكيف يتجسَّد في حياتنا اليومية، كما سنستكشف الآليات العصبية التي تقودنا لاتِّخاذ قرارات نفعية، ومن خلال فهم هذه الآليات، يمكننا تحسين قدرتنا على اتِّخاذ قرارات تعود بالفائدة القصوى على الأفراد والمجتمع ككل.
كيف يتَّخذ دماغك قرارات نفعية؟
كيف يمكنك اتِّخاذ خيار يفيد أكبر عدد من الأشخاص عندما تكون هناك تفضيلات متضاربة؟ وكيف يفهم الدماغ وجهات النظر المختلفة ويُنظِّمها لاتِّخاذ القرار؟ في دراسة نُشرت مؤخراً في JNeurosci، اكتشف باحثون من جامعة "لودفيغ ماكسيميليان" وجامعة "زيوريخ" التعقيدات العصبية لقرارات الرعاية النفعية، ومن خلال التحقيق في دور قشرة الفَص الجبهي البطني من خلال تفضيل الطعام ومهام القرار، تكشف الدراسة كيف تتنقَّل أدمغتنا في الاختيارات الاجتماعية المعقدة، وتقدِّم رؤى هامة عن الأساس العصبي لصنع القرار النفعي.
ما هي الرفاهية النفعية؟
الرفاهية النفعية هي مفهوم في اقتصاديات الرفاهية يُعرِّف الرفاهية الاجتماعية بأنَّها رفاهية جميع أفراد المجتمع، وهو يقوم على فلسفة الأخلاق النفعية، التي تنصُّ على أنَّ المسار الصحيح للعمل هو الذي يؤدي إلى تعظيم السعادة الشاملة أو الرفاهية لأكبر عدد من الناس، فالنفعية تعامل جميع الأفراد على قدم المساواة ولا تفرِّق بين شخص فقير وشخص غني، وهو يختلف عن مفاهيم الرفاهية الأخرى مثل نهج راولسيان، الذي يُركِّز على تعظيم رفاهية أفراد المجتمع الأسوأ حالاً.
إنَّ اتخاذ القرارات المتعلقة بالرفاهية النفعية، هو إطار يُستخدم في سياقات مختلفة، فيكون الهدف هو تحقيق أقصى قدر من الرفاهية العامة أو المنفعة لأكبر عدد من الناس، فالسياسة العامة هي مثال، وتحاول الحكومات اتخاذ قرارات من شأنها أن تزيد من الرفاهية الاجتماعية العامة، فتؤثر قرارات الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية والرعاية الاجتماعية في السكان ككل، وإنَّ الحفاظ على البيئة مثال يتطلَّب الموازنة بين المصالح المتنافسة لتحقيق أكبر فائدة شاملة للأنظمة البيئية والأنواع، سواء الآن أم على الأمد الطويل.
على نطاق فردي أصغر، فإنَّنا نتَّخذ قرارات نفعية يومياً، وعند اختيار الطريقة التي ننفق بها وقتنا وأموالنا، فإنَّنا نأخذ في الحسبان عوامل مختلفة في محاولة لاتِّخاذ القرار لتحقيق أكبر فائدة، وتهدف التبرعات الخيرية، والتمويل الشخصي، وخيارات المستهلك، وقرارات الصحة الشخصية عادةً إلى تحقيق أقصى قدر من الرفاهية العامة، سواء لنا أم لمجتمعاتنا أم المجتمع الأوسع.
كيف نتَّخذ القرارات؟
يتَّخذ البشر القرارات باستخدام مجموعة متنوعة من مناطق الدماغ المختلفة، وتؤدي قشرة الفص الجبهي دوراً حاسماً في اتخاذ القرار من خلال دمج المعلومات وتقييم الخيارات واختيار مسار العمل المناسب، فهي تحدِّد المعلومات الإضافية المطلوبة وتسترجعها من الحصين، ويشارك الحصين في تخزين واسترجاع الذكريات والمعرفة ذات الصلة بعملية صنع القرار، ويوفر معلومات أولية لقشرة الفص الجبهي بناءً على المدخلات الحسية والتجارب السابقة، وترتبط اللوزة الدماغية بمعالجة العواطف ويُعتقد أنَّها تساهم في اتخاذ القرار، خاصة في المواقف التي تنطوي على المخاطرة والمكافأة والتكافؤ العاطفي، وتتفاعل مع قشرة الفص الجبهي والمناطق الأخرى للتأثير في نتائج القرار.
شاهد بالفيديو: 7 خطوات لاتخاذ القرارات والالتزام بها
الرفاهية النفعية في الدماغ:
إنَّ الكيفية التي يمكن بها لمناطق الدماغ المسؤولة عن معالجة المكافآت، التمثيل بدقة والجمع بين التفضيلات المختلفة لأفراد مختلفين، ليست مفهومة جيداً، وأجرى فريقٌ من الباحثين من قسم علم النفس في جامعة "لودفيغ ماكسيميليان" في "ميونيخ/ ألمانيا"، وقسم الاقتصاد في "زيوريخ/ سويسرا"، دراسةً نُشرت في JNeurosci، وتبحث في كيفية تنفيذ الدماغ لقرارات الرفاهية عندما يفضِّل الآخرون صراعاً.
في دراستهم، قُدِّمت مواد غذائية لـ 46 مشاركاً وطُلِبت منهم الإشارة إلى مدى إعجابهم بكل منها، واختير زوجاً من العناصر الغذائية لكلِّ مشارك مع تسمية الطعام المفضل بـ "A" والأطعمة الأقل تفضيلاً بعلامة "B" وخُصِّص لوناً عشوائياً (أزرق أو أحمر)، فيتعلَّم المشاركون اللون المرتبط بكل عنصر غذائي قبل التقدم إلى مهام القرار داخل ماسح التصوير بالرنين المغناطيسي، فالمهمة الأولى هي مهمَّةٌ فردية، فيختار المشاركون تفضيلهم بين كميات مختلفة من A وB، موضَّحة بعدد المربعات الزرقاء أو الحمراء، وفي مهمة تعلُّم التفضيلات، يتنبأ المشاركون باختيارات اثنين من المشاركين أو الوكلاء الآخرين، وإذا كان التوقُّع صحيحاً، يظهر +10، وإذا كان التوقع خاطئاً، يظهر -10، ولدى الوكيلين تفضيلات متعارضة بين الطعام A وB، ويُجري المشارك 312 تجربة، ويتعلَّم تفضيلات الوكيلين.
أخيراً، يشارك المشاركون في مهمة تعظيم الرفاهية، ويقومون باختيارات تحدِّد كميات مختلفة من A وB للعاملين، ومثال على الاختيار هو "1A للوكيل 1، 5B للوكيل 2 مقابل 5A للوكيل 1، 1B للوكيل 2"، ولا يوجد أي حافز للمشاركين في هذه المهمة ولا يتلقون أية تعليمات محددة عن كيفية الاختيار، ولتحقيق أقصى قدر من الرفاهية النفعية، يجب على المشارك اختيار توزيعات يفضِّلها أحد العوامل بشدة، ولا يكرهها الآخر إلَّا كرهاً بسيطاً، على التوزيعات التي يكرهها أحد العوامل بشدة ويحبها الآخر بشكل طفيف، الأمر الذي يتطلب مقارنة بين الأشخاص لشدة التفضيل.
دور قشرة الفص الجبهي البطني في اتخاذ القرار:
تشير نتائج المهمة الأولى إلى أنَّ قشرة الفص الجبهي البطني، الموجودة في الجزء السفلي من القشرة الجبهية الوسطى، تشفِّر تفضيلات الفرد في اتخاذ القرار الفردي، وبما يتوافق مع النتائج السابقة، تتفاعل قشرة الفص الجبهي البطني مع شبكات الدماغ المختلفة، مثل المخطط البطني المرتبط بمعالجة المكافأة واللوزة الدماغية المرتبطة بالعاطفة.
تفهم الأدبيات العلمية العصبية الحالية أنَّ قشرة الفص الجبهي البطني الأنسي، هي مركز حاسم يدمج المعلومات المعرفية والعاطفية والاجتماعية لتوجيه عملية صنع القرار وتنظيم العاطفة والإدراك الاجتماعي من خلال اتصالاتها مع مناطق الدماغ الأخرى، وتبحث المهمة الثانية فيما إذا كان نظام المكافأة العصبي نفسه يُشفِّر أيضاً تفضيلات الآخرين.
تشير النتائج إلى أنَّ قشرة الفص الجبهي البطني الأنسي تشفِّر التفضيلات المقدرة للآخرين، بصرف النظر عن تشابه تفضيلات الآخرين مع تفضيلات الشخص، ويبدو أنَّ القشرة الجبهية البطنية الأنسية تستخدم أنماطاً عصبية مميَّزة لتمثيل تفضيلات الفرد مقارنةً بتفضيلات الآخرين.
مع ذلك فمن الجدير بالملاحظة أنَّه على الرغم من الاختلافات في التفضيلات بين مختلف الأفراد، فإنَّ قشرة الفص الجبهي البطني الأنسي تستخدم رمزاً عصبياً ثابتاً لتمثيل القيمة الذاتية المرتبطة بهذه التفضيلات، ويمكِّن هذا الاتِّساق الدماغ من إجراء مقارنات القيمة بين الأشخاص.
التداعيات والتوجهات المستقبلية:
تقدِّم هذه الدراسة نظرة ثاقبة عن كيفية تعامل البشر مع التفاعلات الاجتماعية المعقدة، ومن خلال إثبات أنَّ قشرة الفص الجبهي البطني الأنسي تؤدي دوراً مركزياً في تمثيل ومقارنة تفضيلات الآخرين، تسلِّط الدراسة الضوء على قدرة الدماغ الرائعة على دمج وجهات نظر متنوعة لتحقيق أقصى قدر من الرفاهية العامة، وهذه النتائج لها آثار هامة في كل من الحسابات النظرية للفلسفة الأخلاقية وعمليات صنع القرار العملية.
تتحدَّى هذه الدراسة الفكرة التقليدية القائلة إنَّ مقارنات الرفاهية تعتمد فقط على التفضيلات الترتيبية، فترتَّب التفضيلات دون قياس دقيق، وبدلاً من ذلك، فإنَّها تؤكد على أهمية تضمين معلومات المنفعة الأساسية، التي تحدِّد قيماً رقمية محددة للتفضيلات، ومقارنات المنفعة بين الأشخاص، والتي تتضمَّن مقارنة قوة أو شدة التفضيلات بين الأفراد.
إضافةً إلى ذلك، تشير الدراسة إلى أنَّ تعظيم الرفاهية النفعية يُمكن من خلال قدرة الدماغ على مقارنة تفضيلات الآخرين على مقياس أساسي، وهذا يوفر حلاً محتملاً لمشكلات القرار المعقدة فتكون التفضيلات الترتيبية وحدها غير كافية، وبالنظر إلى المستقبل، يمكن للأبحاث المستقبلية أن تستكشف الآليات العصبية الكامنة وراء اتخاذ القرار النفعي، ومن ذلك دور مناطق الدماغ الأخرى وتأثير العوامل الإضافية مثل العواطف والسياق الاجتماعي.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ التحقيق في كيفية تأثير تفضيلات الأفراد في قراراتهم عند توزيع الرعاية الاجتماعية بين مختلف الناس وبين أنفسهم يمكن أن يوفر رؤى قيِّمة لعمليات صنع القرار في العالم الحقيقي، وتفتح هذه الدراسة آفاقاً جديدة لفهم كيفية تعامل الدماغ مع المشكلات الاجتماعية وإرشاد عملية صنع القرار في سياقات متنوعة.
في الختام:
إنَّ الرفاهية النفعية ليست مجرد فلسفة نظرية، بل هي مبدأ عملي يمكن تطبيقه في حياتنا اليومية لتحسين رفاهية الأفراد والمجتمع ككل، وتعتمد هذه الفلسفة على التوازن بين العقلانية والعواطف في اتخاذ القرارات، وهو ما يُظهره علم الأعصاب بوضوح من خلال دراسة كيفية عمل الدماغ.
عندما نفهم كيف يُقيِّم دماغنا الخيارات المتاحة ويسعى لتحقيق أكبر قدر من المنفعة، نستطيع أن نصبح أكثر وعياً بقراراتنا وأكثر قدرة على اتخاذ خيارات تخدم الصالح العام، وهذا الفهم يعزز من قدرتنا على بناء مجتمع أكثر عدالة ورفاهية، فتُقدَّر سعادة ورفاهية الجميع على قدم المساواة، لذا فإنَّ تبنِّي الرفاهية النفعية في حياتنا اليومية، قد يكون المفتاح لتحقيق توازن أفضل بين المصالح الفردية والجماعية، وهذا يؤدي في النهاية إلى عالم أكثر سعادة وعدلاً.
أضف تعليقاً