الذكاء العاطفي والقيادة الإدارية:
يدرك الإداريون الأوائل الإشارات الضعيفة التي لا يأخذها الآخرون على محمل الجد، وهم يدركون النموذج، حيث لا يرى الآخرون أي نموذج، وهم قادرون على تصفية المعلومات، والتي غالباً ما تكون متناقضة، وخادعة، وغير واضحة، والتي تشير إلى ما بعد الحدث على أنَّها صحيحة، ولكن بالأخص لديهم القدرة على الإصابة في قرارات صحيحة عن طريق الحدس، وهذا ما نعنيه عندما نتحدث عن الذكاء العاطفي.
وعندما يسألهم المرء، كيف يمكِن للمرء أن يُفترض به أن يتصور هذا؟ عندها تتقارب الإجابات على نحوٍ متألق، ويضع المرء دوماً الأهداف الكبيرة نصب عينيه، ويطرح على نفسه يومياً: "كيف يمكِن للمرء الاقتراب من هذا الهدف؟"؛ ويقدِّم المرء تحليلات بالمَهمة، ويتناقش مع القوى الإدارية، الزبائن، والموظفين، والاستشاريين، ويكافح المرء بصورة مستمرة حول كيف، ولماذا، ومتى.
هذا يَحدث في أغلب المرات، وذلك مباشرةً في لحظة هدوء لا يكون المرء فيها منشغلاً في الحقيقة بشركته، بحيث تتبادر إلى ذهنه الفكرة المنيرة أو حل الأمر، وفجأة يصبح كل شيء واضحاً ومنطقياً. من المفترض أن ينجح على ذاك النحو بالضبط، والمرء يعيش الإحساس المُدرك بالحظ، ولا أَحب على قلبه من الحديث قدر الإمكان عن كل هذا، ولكن عقب هذا قد يصل في الغالب إلى مرحلة من الشك مرةً أخرى، ويبدأ إشغال نفسه عقلياً، ويراجع التحليل على هذا النحو أكثر وعلى هذا النحو إلى الأمام، ولكن لا يحظى المرء بالتأكيد بالهدف المأمول على هذا النحو، ويصيب المرء في القرارات في إطار مخاطر مماثلة بالنسبة للشركة.
وقد تكون لعبة الشطرنج المثال الأفضل على اتخاذ القرارات المتوافقة مع الحدس، وبصورة عامة؛ يتم تمثيل الإدراك، حيث تستلزم لعبة الشطرنج قدراً مرتفعاً جداً من القدرات الإدراكية، وفيها يحلل اللاعب بصورة تنظيمية جميع التحركات، والحركات المضادة، ولا يقوم باتخاذ أيَّة خطوة دون تفكير مكثف، وعقب ثلاث خطوات من الفتح، يُعدُّ بصورة نظرية بحتة، التغلب على تسعة ملايين موقع أمراً ممكناً، وقال ملك الشطرنج، جاري كاسبروف، في إحدى المقابلات: "يميِّز لاعب الشطرنج نفسه بالأخص عن طريق الحدس، والسبب يكمن في أنَّ لعبة الشطرنج، التي يُنظر لها بصورة رياضية، لعبة لا نهاية لها، أنا أحقق ربما نحو 15 نقلة، وهذا تقريباً الأعلى، مما قدر عليه الناس حتى الآن".
وكيف يمكن اتخاذ قرار صائب في لعبة معقدة على هذا النحو في غضون ثوان؟ يعطي أحد الخبراء جواباً جيداً: يتم عرض مواقع الأشكال على غير لاعب بما يعادل 25 حجراً في غضون ثوان، عندها يُطلب منه إعادة ترتيب الأشكال بالشكل الصحيح من جديد، عندها لا يحقق بالمعدل أكثر من نحو ستة مواقع صحيحة، وعند وضع ملك الشطرنج في المكان نفسه، سيضع كل الأشكال في مواقعها الصحيحة.
بالطبع يُعزى هذا إلى القدرة غير العادية في استقراء المعلومات بصرياً، وتخزينها. وعلى أية حال، يكرر المرء التجربة نفسها، حيث يضع الأشكال على اللوح عشوائياً دون منطق، عندها سيقوم غير اللاعب من جديد بوضع ستة أشكال منها في الموقع الصحيح، بينما خبير الشطرنج كذلك. لماذا؟ إنَّ خبير الشطرنج يرى خلف كل تشكيل نموذجاً، وإذا تم وضع الأشكال على نحو بعيد عن المنطق، لا يمكِن له عندها أخذ أي نموذج بعين الاعتبار، وإجمالاً، كما تظهر التقديرات، يمكِن لخبير في الشطرنج، إدراك 50 ألف تشكيل موثوق به، والشيء الذي يتم النظر إليه على أنَّه قرار متفق مع الحدس، هو في الحقيقة الإدراك السريع كسرعة البرق للنماذج، الشيء الذي يَحدث على غير دراية تامة نوعاً ما.
والأستاذ "جيرالد هوتر"، باحث ذهني معروف، والذي يُدير مؤسسة بحث في الدراسات البيولوجية للجهاز العصبي في جامعة جوتينجين، يقول: إنَّ العقل البشري يعمل مثل الكمبيوتر فقط لدى مواجهة قرارات عادية جداً، وهنا يتم قياس جميع الميزات، والمساوئ بصورة عقلية ملحوظة، وعندها يصل على هذا النحو إلى قرار.
شاهد بالفيديو: ما العلاقة بين الذكاء العاطفي والقيادة؟
الذكاء العاطفي وعملية صنع القرار:
أما فيما يتعلق بالقرارات الصعبة والمعقدة؛ فيصل إلى تشابك معقد للمعرفة والخبرات والعواطف التي تؤدي إلى شكل مختلف بالكامل من العقلية أكثر مما لدى القرارات العادية والسهلة، ولا يوجد الحدس ضمن المنطق العام بهذا الشكل، وينطوي تحت "قرارات الحدس" مجريات متداخلة، والتي تجعل الخبرات المختلفة، والمعرفة النظرية المعززة على نحوٍ نظري، في شكل ووسيلة خاصين، أمراً مفيداً، وتؤكِّد محصلات البحث، أنَّ الناس، الذين عن طريق فضولهم، والانفتاح، وتكيّفهم مع الفرص، يتناسبون مع قدر عال جداً من المعرفة، وهم بصورة جذرية غالباً في الموقع، مع الإصابة في قرارات جيدة تتفق مع الحدس، أكثر من الناس، الذين يملكون مخزون خبرات قليلاً نسبياً.
والحدس طبقاً لهذا ليس الحاسة السادسة السحرية، ولا عملية فوق عادية، وهو ليس مناقضاً للعقلية، ولا اتخاذ قرار حسب مبدأ الصدف؛ بل هو شكل بالغ التعقيد والتطوير من الاستنتاجات التي تعتمد على خبرة طويلة، وتعليم، وحقائق، ونماذج، ومبادئ، وتقنيات، وفكر تجريدي، وكل شيء آخر نشير إليه نحن على أنَّه معرفة نظامية مخزنة في أذهاننا.
الحدس غير معروف، فهو يرتكز إلى الخبرات المخزنة التي لا تُعدُّ ولا تحصى، وهو عبارة عن أعوام سريعة ومعالجة من الخبرات في غضون ثوان، فالحدس معقد، ويعالج معلومات بصورة متداخلة، وليس حسب مجريات اتخاذ القرار الطولية، والعقلية التحليلية، ويعتمد الحدس على الخبرة، التي تنعكس في الموجة المساعدة أو المشجعة على كشف القرارات، وعلى العواطف، والتي تترافق مع موقف محدد، وحافز محدد.
والشروط "لقيام" الحدس، واستخدامه، لا تزال حديثة البحث نسبياً في علوم الإدارة، ورغم هذا يتم اشتقاق المعرفة الأولى من الدراسات المعروضة.
ويحتاج الحدس إلى الخبرة، فليس له علاقة لا بالفطرة، ولا برؤية الغيب، الحدس هو "الخبرة الأوتوماتيكية"، فكلما كانت الخبرة معقدة وشاملة أكثر، كانت القرارات موثوقة أكثر، وكلما كان مزيدٌ من النماذج موثوقة بالنسبة له، كان حدسه أفضل.
يتم تخزين معارف الخبرة في العادة على أنَّها معرفة ضمنية، ولا يمكِن التلفظ بها بوضوح، وعندما تقرر إحدى القوى الإدارية العليا ذات الخبرة بناءً على ما تشعر، لأنَّ حدسها يملي عليها أنَّ هذا هو القرار الصائب، فإنَّ هذا في الحقيقة هو الإدراك النموذجي من الخبرة. وعندما لا يكون المسؤول الإداري في الموقف، لأن يعبر بوضوح، لماذا يَعدُّ هو هذه القرارات صائبة، عندها لا يعني هذا بالضرورة أنَّ قرار الحدس سيء.
تشير الدراسات إلى أنَّ القوى الإدارية المسؤولة في المناصب العليا، تصيب في قرارات حدس أكثر من القوى الإدارية في المناصب المتوسطة والدنيا، وأنَّ رجال الأعمال الصغار يقررون بالقدر نفسه كثيراً من الحدس مثل القوى الإدارية العليا في الشركات الرائدة.
وتحتاج القوى الإدارية إلى شبكات، وهم بحاجة إلى الشبكات للعمل على تبادل الخبرات، والحصول على التغذية الراجعة الجيدة لاتخاذ القرارات، وفقط عن طريق التغذية الراجعة ينشأ مناخ للتعليم، والذي يدعم تعزيز معارف الخبرة، وعلى القوى الإدارية العليا التعاطي مع الناس، الذين يماثلونهم، والذي يهتمون معهم بمناخ محادثة منفتح، ويحدث غالباً العكس في الممارسات الإدارية، حيث يميل المرء إلى جمع قائلي "نعم" حوله.
تحتاج القوى الإدارية إلى الذكاء العاطفي، ويترافق الحدس غالباً مع العاطفة، وقد أثبت عالِم الجهاز العصبي، جوزيف ليدوكس، أنَّ الهيكل العصبي على شكل اللوزة، وعقلنا العاطفي يصنِّف الحوافز السريعة في عملية سريعة، ويصدر السلوك كعملية إدراكية، بكلمات أخرى: العواطف تسبق الإدراك، ولا يمكِن للحدس ردعنا إزاء القرارات الخاطئة فحسب، ولكن كذلك يجعلنا متيقظين تجاه الفرص، وبهذا يقصد دانيل جولمان أيضاً، أنَّ الاستماع إلى المشاعر يمكِن أن يقود إلى قرارات أفضل، ووجد جولمان كذلك، أنَّه يمكِن توضيح نحو 90 في المئة من القرارات بين ممثلي الإدارة العليا، والقوى الإدارية الناجحة بالمعدل ضمن المستويات العليا عن طريق الذكاء العاطفي، وهنا تبرز بالأخص الثقة بالنفس، ومعرفة المشاعر الخاصة، وهذا يعني القدرة، على إدراك العواطف الخاصة، وفهمها، وتفسيرها على نحوٍ سليم.
أركان الذكاء العاطفي:
إنّ فهم الإنسان لمبادئ الذكاء العاطفي، وتعلم مهاراته يعني الاطلاع بداية على الأركان التي يقوم عليها مفهوم الذكاء العاطفي ككل؛ إذ يوجد للذكاء العاطفي ستة أركان وهذه الأركان هي:
1. الوعي الذاتي:
ويقصد به تعرف المرء على المشاعر وكيفية التحكم بها وإدارتها، فالشخص الذكي عاطفياً يدرك تماماً مشاعره ويستطيع تحديدها والفصل بينها، كما تكون لديه إدارة على انفعالاته وردود أفعاله.
2. التنظيم الذاتي:
ويقصد به حالة الاستقرار الداخلي الذي ينشأ من جراء استخدام وتطبيق مهارات الذكاء العاطفي، فالذكي عاطفياً يمتلك مقدرةً على مشاركة الآخرين عواطفه، لأنه يعرف شعور الآخرين ويدرك عواطفهم.
3. التحفيز:
إن مهارات الذكاء العاطفي، تولد تحفيزاً داخلياً لدى الفرد، وتعزز القيم عنده، ولذا نجد أن الذكي عاطفياً لا يتأثر كثيرا بالمحفزات الخارجية كالشهرة والمال، لأنه يملك محفزاته التي ترضي طموحه وشغفه.
4. المهارات الاجتماعية:
ويقصد بها بناء العلاقات الصحيحة ووضع حدود التعامل، فالذكي عاطفياً لديه مقدرة على بناء علاقات اجتماعية فعّالة، كما يمتلك قدرةً على وضع حدود التعامل مع الآخرين، مما يكسبه حب الآخرين وودهم.
5. التفاؤل:
تزود مهارات الذكاء العاطفي الفرد مقدرة على التفاؤل واستقراء الواقع الإيجابي، وتحليل المشكلات لاستكشاف جوانب الخير فيها، فالذكي عاطفيا، ينظر إلى النصف الممتلئ من الكأس، ويحلل الأحداث السلبية، ليستخرج منها المنح والعطاء، وهذا التفكير يجعله قادرٌ أيضاً على نشر التفاؤل والسعادة إلى محيطه الذي حوله.
التعلم من الأخطاء:
بما أنَّ الحدس بحاجة إلى الخبرة، فإنَّ النطاق ضروري، والذي يمكِن فيه صنع الخبرات، سواء الإيجابية أو السلبية، وهذا يتطلب كذلك قدراً معلوماً من الاستعداد لمواجهة المخاطر، والروح الرياضية لتقبُّل الأخطاء، ويمكِن للقوى الإدارية أن تحقق مثل هذه الثقافات، بحيث تدعم هذه القوى الإدارية بصورة عامة ومستمرة، في التماشي مع المخاطر، وارتكاب الأخطاء، وبالتالي التمكين لهم في مثل هذه المهن.
شاهد بالفيديو: كيف تعزز الذكاء العاطفي في فريقك؟
الفضول ورؤية الفرص بدلاً من المخاطر:
على القوى الإدارية أن تترك مساحة لفضولها، وغالباً في مساحات العمل الحرة والتي تكون مثقلة بالأعباء. وهذا الفضول هو الشرط ليكون بإمكان المرء كشف الغطاء عن الفرص الجديدة، ولكن من الممكن أن ينجح هذا من جديد فقط، عندما تتم معالجة الانطباعات المكتسبة على نحوٍ "متكيف مع الفرص"، وليس دوماً البحث عن الأسباب "لعدم النجاح".
بيتر دروكر، يقول في مقال له في صحيفة، هارفارد بيزنس ريفيو: "المدير الجيد يوجِّه نظره دوماً وبقوة إلى الفرص أكثر منه إلى المخاطر، ولا يمضي أكثر للاهتمام بالمشكلات، وبالتالي يُبعد الأضرار وحدها فقط عن الشركة، والمحصلة الجيدة يمكن أن تبرز عندما تستغل القوى الإدارية دوماً الفرص باستمرار". المنهجية الفكرية المتكيفة مع الفرص، والتداول هما شرطان للمضي في طرائق جديدة. والمضي في الطرائق الجديدة هو الشرط لجمع الخبرات، والحدس بحاجة إلى الخبرة.
لا يمكِن للحدس أن يُترك في مسار حر، ولا يوجد أي مسؤول إداري حكيم يصيب في القرارات بناءً على الحدس، وتلك القرارات التي تُعدُّ عميقة وحادة، ومن الممكن أن تدمر الشركة، والمدير المسؤول الحكيم يبحث بالأحرى، عن تنظيم الحدس عن طريق المعرفة والحقائق.
المصدر: برينيكور
أضف تعليقاً