قوة غامضة تحوِّل مسار مزاج الإنسان لتدخله في عالم مظلم تاركةً وراءها أثراً عميقاً يطغى على كل تجربة حية يعيشها، فإن كنت قد شعرت يوماً بتلك الرياح المتقلبة تجتاح روحك، أو ربما كان شخص ما في محيطك الاجتماعي قد شعر بذلك، فقد تكون قد دخلت عالم اضطراب ثنائي القطب، الاضطراب الذي يوقع العقل الإنساني في مرمى تقلبات عاطفية شديدة.
ما هو اضطراب ثنائي القطب؟
يعكس اضطراب ثنائي القطب أو الاكتئاب الثنائي تماماً الأقطاب المتناقضة أو الدرجات القصوى لحالات المزاج، فيبدأ بالإثارة المفرطة في طرف وينتهي بالاكتئاب في الطرف الآخر، يتسم بتقلبات مزاجية شديدة تتراوح بين فترات الهوس، فيكون الفرد مفعماً بالنشاط والإثارة المفرطة والطاقة الزائدة وتكون لديه أفكار طموحة، ونشاط زائد، وقلة في الحاجة إلى النوم، وسرعة في التفكير، وفترات اكتئاب عميق، فيعاني من فقدان الاهتمام والسعادة والحزن الشديد، مع الانتباه إلى أنَّ المزاج الجيد أو السيئ لفترات قصيرة ليس اضطراباً ثنائي القطب، فهذا الاضطراب يرتبط فقط بالتغيرات الجذرية المستمرة، ويؤثر اضطراب ثنائي القطب في الطاقة العقلية والعاطفية للفرد بشكل ملحوظ.
أسباب اضطراب ثنائي القطب:
اضطراب ثنائي القطب، المعروف أيضاً باسم اضطراب الهوية ثنائية القطب، هو حالة نفسية تتميز بتقلبات مزاجية شديدة تتراوح بين فترات من الهوس (ارتفاع في المزاج) والاكتئاب (انخفاض في المزاج)، الأسباب الدقيقة لاضطراب ثنائي القطب ليست معروفة بشكل تام، ولكن تسهم بعض العوامل في تطور هذا الاضطراب، ومن بين هذه العوامل:
- أسباب وراثية: تكون لديك فرص أكبر لتطوير الاضطراب إذا كان لديك تاريخ عائلي لاضطرابات المزاج.
- التغيرات الكيميائية في الدماغ: تشير الأبحاث إلى أنَّ توازن الكيمياء الدماغية يؤدي دوراً في تطور اضطراب ثنائي القطب، وتسهم تغيرات في نظام الناقلات العصبية، مثل السيروتونين والنورأدرينالين والدوبامين، في ظهور الأعراض.
- الضغوطات النفسية والتوتر يؤديان دوراً في تفاقم الحالة أو في إشعال فترات الهوس أو الاكتئاب.
- تعرُّض الإنسان لتجارب حياتية مؤلمة.
- شرب الكحول وتعاطي المخدرات أو بعض أنواع العقاقير الطبية.
- النوم المفرط أو النقص الحاد في النوم، هو أحد أسباب الإصابة باضطراب ثنائي القطب.
- التغيرات الهرمونية: تشير بعض الأبحاث إلى أنَّ التغيرات في مستويات الهرمونات لها تأثير في اضطراب ثنائي القطب.
شاهد بالفيديو: 5 طرق لقهر الاكتئاب النفسي
أعراض اضطراب ثنائي القطب:
قد تظهر الأعراض المتعلِّقة بالاضطراب ثنائي القطب على شكل نوبات هوس واكتئاب، وتتنوَّع مدة استمرارها بين عدة أيام أو أسابيع، تختلف هذه النوبات من شخص لآخر وتُظهر تغيرات في المزاج والطاقة والنشاط العقلي، غالباً لا يلاحظ الشخص المصاب هذه التغيرات في سلوكه، ولكن يمكن للمقربين منه أن يلاحظوا تقلباته المزاجية، ويمكن التمييز بين أعراض كل من فترة الإصابة بالهوس والكآبة:
أولاً: أعراض الهوس
1. انخراط مفرط في النشاطات:
مثل بدء عدة مشاريع في وقت قصير، مشاركة في النشاطات الاجتماعية بشكل مكثف، أو ممارسة الرياضة بشكل مفرط.
2. السرعة في الكلام والتفكير:
قد يلاحظ المحيطون بالشخص المصاب أنَّه يتحدث بسرعة فائقة، وينتقل بسرعة بين الأفكار دون توقف، وقد يكون من الصعب متابعته.
3. الإسراف في إنفاق الأموال:
شراء أشياء بشكل مفرط وغير مدروس ودون تفكير في العواقب المالية.
4. الزيادة المفرطة في الثقة بالنفس والإحساس بالأهمية الشخصية:
يعتقد الفرد أنَّه قادر على إنجاز أي شيء دون مواجهة أي تحديات، ويمكن أن يتجاوز الحدود الطبيعية بسبب هذا الإحساس المفرط بالأهمية الشخصية.
5. زيادة الرغبة الجنسية:
تترافق أعراض الهوس مع زيادة الرغبة الجنسية.
6. اتخاذ قرارات تتعارض مع طبيعتك:
قد يتخذ الفرد قرارات متهورة أو مغامرات تتعارض مع نمط حياته الطبيعي، مثل القيادة بسرعة فائقة أو اتخاذ قرارات مالية غير مدروسة.
7. فقدان الاهتمام أو اللذة في معظم النشاطات:
قد يفقد الشخص المصاب اهتمامه بالنشاطات التي كان يستمتع بها مثل الهوايات أو اللقاءات الاجتماعية، وربما لا يشعر بأي متعة في أثناء ممارستها.
8. انخفاض مستمر في الطاقة:
يمكن أن يعاني الفرد من شعور بالتعب والإرهاق دون سبب واضح، فيصبح القيام بالنشاطات اليومية أمراً صعباً.
9. تغييرات في الوزن والشهية:
قد يعاني الشخص من زيادة أو فقدان في الوزن بشكل غير متوقع، وربما يلاحظ تغيرات في شهيته مثل فقدان الشهية أو زيادة في تناول الطعام.
10. الحزن واليأس وانعدام الأمل:
يمكن أن يعبر الفرد عن مشاعر عميقة من الحزن واليأس، وقد يشعر بأنَّه لا يرى مستقبلاً إيجابياً، وهذا يؤدي إلى انخفاض في الروح المعنوية.
11. الشعور المستمر بالذنب:
قد يشعر الشخص المصاب بالذنب حتى بسبب الأمور البسيطة، وقد يكون هذا الشعور مفرطاً وغير متناسب مع الأفعال الفعلية.
12. اضطرابات النوم:
يمكن أن يعاني الشخص من صعوبات في النوم، مثل الأرق أو النوم المتقطع، وربما يستيقظ في الصباح وهو يشعر بالتعب.
13. انخفاض تقدير الذات:
يفقد الشخص الإحساس بالقيمة الذاتية ويشعر بأنَّه لا يستحق النجاح أو السعادة.
14. التفكير بالانتحار:
يمكن أن يُظهِر الفرد أفكاراً عن الانتحار والرغبة في الابتعاد عن الحياة.
15. القلق والتوتر:
يعاني الشخص من حالة مستمرة من القلق والتوتر، وربما يشعر بالارتباك وعدم الراحة.
16. الشعور بالألم دون وجود أسباب جسدية مبررة:
قد يعاني الفرد من آلام جسدية غير مفهومة أو غير مبررة من الناحية الطبية، وقد يتكرر هذا الشعور باستمرار.
ثانياً: أعراض الكآبة
الشعور بأفكار غير منطقية: يعاني الشخص من تفكير سلبي وغير واقعي، مثل الشكوك الزائدة أو الانفصال عن الواقع.
لماذا يسمى اضطراب ثنائي القطب باضطراب الهوسي الاكتئابي؟
يُطلَق على اضطراب ثنائي القطب اسم "اضطراب الهوسي الاكتئابي"؛ نظراً لتميزه باتجاهين رئيسَين هما الهوس والاكتئاب، وأحياناً يجمع بينهما، يظهر اتجاه الهوس بمظاهر من الاستثارة وزيادة في مستويات النشاط، فيكون الفرد مفعماً بالطاقة والحماسة، مصحوباً بثقة مفرطة بالنفس واحتراماً بالغاً للذات.
في المقابل، يتسم اتجاه الاكتئاب بالكآبة وانخفاض ملحوظ في مستويات النشاط، مصحوباً بالعجز ووجهة نظر سلبية تجاه الذات، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يمكن أن يتداخل الهوس والاكتئاب، فيمكن للفرد أحياناً أن يعيش فترات من الهوس تليها فترات من الاكتئاب أو نقيض ذلك، هذا التبديل بين الحالتين يضفي على اضطراب ثنائي القطب طابعاً فريداً يتطلب فهماً عميقاً لتأثيراته المعقدة في المزاج والحياة اليومية.
هل يصيب اضطراب ثنائي القطب الرجال أم النساء؟
يصيب اضطراب ثنائي القطب الرجال والنساء على حدٍّ سواء، فيؤثر في جميع الفئات العمرية والجنسيات، وقد يظهر في أي مرحلة من مراحل الحياة، ومع ذلك، فإنَّ معظم الحالات تظهر لأول مرة في سن المراهقة أو في بداية فترة البلوغ أي قبل سن 20، وقلَّماً يظهر بعد سن 45.
لكن تتزايد الإصابة بشكل أكبر لدى بعض الفئات الاجتماعية والاقتصادية، على سبيل المثال، يُشير البحث إلى أنَّ معدلات الاضطراب ثنائي القطب تزداد بشكل خاص لدى الأفراد العاطلين عن العمل، وكذلك بين الأشخاص الذين يعيشون وحدهم.
علاج اضطراب ثنائي القطب:
إدارة وعلاج اضطراب ثنائي القطب هي أمر معقد يتطلب نهجاً متعدد الوسائط لتلبية احتياجات الأفراد المتأثرين بهذا الاضطراب النفسي، ويتنوع تأثير هذا الاضطراب بين التقلبات المزاجية الحادة، ويتطلب التدخل الفعَّال استراتيجيات شاملة، ومن طرائق علاج اضطراب ثنائي القطب:
1. العلاج الدوائي:
العلاج الدوائي أحد النهج الأساسية لعلاج اضطراب ثنائي القطب، ويهدف إلى استعادة التوازن في المزاج والتحكم في التقلبات الشديدة بين فترات الهوس والاكتئاب، تعتمد الخطة الدوائية على الاحتياجات الفردية للمريض واستجابته للعلاج، ويُشرف الطبيب المختص في الرعاية النفسية على تعديل الجرعات واختيار الأدوية.
يجب على المريض الالتزام بتعليمات الطبيب والتقييم الدوري للتأكد من فاعلية العلاج وتحسين جودة الحياة، وتشمل الأدوية التي تستخدَم لعلاج اضطراب ثنائي القطب عدة فئات:
- مثبطات المزاج:
يمكن أن تساعد على تحسين المزاج والتقليل من التقلبات الشديدة، من أمثلة هذه الأدوية ليثيوم ديباكوت.
- مضادات الاكتئاب:
تستخدَم لتقليل أعراض الاكتئاب في حالات انخراطها مع الهوس، من أمثلة هذه الأدوية: سيروتونين.
- مضادات الذهان:
في بعض الحالات، تُستخدَم مضادات الذهان للمساعدة على التحكم في الأعراض المترافقة مع فترات الهوس.
2. العلاج النفسي:
- العلاج السلوكي-العقلاني (CBT):
يستخدم للمساعدة على تغيير الأنماط الفكرية والسلوكية التي قد تسهم في تفاقم أعراض الاضطراب، ويساعد على تحسين إدارة الأعراض وفهم التفاعلات بين الأفكار والمشاعر والسلوك.
- العلاج السلوكي (IPSRT):
يستهدف تحسين الأنماط السلوكية من خلال تحقيق الأهداف الآتية:
- تحسين النشاط الحيوي وتنظيم الجداول اليومية لدى المريض.
- تعزيز راحة المريض وتحسين نمط النوم.
- تطوير مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي لدى المريض.
- يساعد المريض على تحديد أهدافه الشخصية وتعزيز الالتزام بها، وهذا يسهم في تعزيز الإيجابية والتقليل من التقلبات المزاجية لديه.
3. الدعم الاجتماعي:
إنَّ الدعم الاجتماعي من الأصدقاء والعائلة والمجتمع هام للمساعدة على التعامل مع الاضطراب وتقديم الدعم العاطفي.
4. تعديل نمط الحياة:
يجب الحفاظ على نمط حياة صحي، ومن ذلك النوم الجيد وممارسة الرياضة، فذلك يؤدي دوراً في تحسين الحالة النفسية.
5. مراقبة وتعلُّم التحكم الذاتي:
إنَّ تعلُّم مراقبة التقلبات المزاجية واكتساب مهارات للتحكم الذاتي له تأثير إيجابي في إدارة الاضطراب.
في الختام:
إنَّ اضطراب ثنائي القطب بوصفه حالة نفسية يتطلب فهماً جيداً ورعاية متكاملة، وإنَّ التقلبات المزاجية الشديدة والتأثيرات العديدة التي يمكن أن يحدثها هذا الاضطراب، تجعل من الضروري توفير الرعاية والدعم اللازمَين للأفراد المتأثرين به.
لا يكون تحقيق التشخيص الدقيق والعلاج الفعَّال إلا بجهود مشتركة بين الأفراد المتأثرين، وفريق الرعاية الصحية الذي يشمل الأطباء والأخصائيين النفسيين، وسواء كان العلاج يتمثل في العلاج الدوائي أم العلاج النفسي، أم التكامل بين الاثنين، فإنَّ الهدف الأساسي هو تحقيق استقرار المزاج وتحسين جودة الحياة.
أضف تعليقاً