تدخل التأثير السلبي في الاكتئاب والقلق والصدمات:
تشير الأبحاث حول اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) إلى أنَّ العديد من الأفراد الذين عانوا من الصدمة، غالباً ما يتفاعلون مع المحفزات الممتعة والأحداث الإيجابية بطريقة سلبية (مثل القلق والشعور بالذنب والعار)، وهذا ما يسمى تدخل التأثير السلبي (negative affect interference).
يمكن لهذه المشاعر السلبية المتطفلة أن تثني الأفراد المصابين بصدمات نفسية عن المشاركة في أنشطة ممتعة في المستقبل؛ إذ يقلل عدم المشاركة في أنشطة ممتعة من احتمالية الشعور بالبهجة والسعادة، ويزيد من احتمالية الإصابة بالاكتئاب.
قد تظهر لدى المرضى الذين يعانون من القلق والاكتئاب - بشكل خاص - ميول مماثلة. وفقاً لنظرية تخفيض قيمة المكافأة (reward devaluation theory)، يتجنب ويقلل المرضى القلقون والمكتئبون بشكل فعلي من الأمور الإيجابية والأنشطة المجزية، وذلك بسبب الربط بين الأنشطة الممتعة والمشاعر السلبية في السابق، مثل الشعور بالذنب والعار والإحباط وخيبة الأمل.
الاكتئاب والخوف من السعادة:
هنالك ظاهرة ذات صلة تسمى بالخوف من السعادة (fear of happiness).
- لا تُعد السعادة والفرح دائماً شعورَين ممتعين بالنسبة للبعض؛ بل يعتبرونهما في بعض الأحيان مخيفان. قد يكون لمثل هذه المخاوف من السعادة (وغيرها من المشاعر الإيجابية) عدد من الأسباب المحتملة، بما في ذلك:
- الاعتقاد بأن المرء لا يستحق أن يكون سعيداً.
- الخوف من الخسارة، أي فقدان المشاعر السعيدة أو أسباب الشعور بالسعادة، مثل المال أو الأصدقاء.
- يعتبرون غالباً شعور السعادة بأنَّه أقل حدة، وبالتالي أكثر كرهاً من مشاعر التعاسة المألوفة.
- الارتباط بين السعادة وأحداث مؤلمة حدثت في نفس الوقت أو بعد فترة وجيزة من الشعور بالسعادة.
علاوة على ذلك، فإنَّ بعض الأفراد المصابين بالاكتئاب "يمنعون أي شكل من أشكال المتعة بسبب المحظورات الراسخة التي غرستها عائلاتهم وثقافتهم في نفوسهم".
لإعطاء مثال، يخبرنا جيلبرت وآخرون (Gilbert et al) عن حالة مريضة كانت والدتها مصابة بالخوف من الأماكن العامة، والتي ذكرت أنَّها "غالباً ما تكون متحمسة للخروج إلى الشاطئ أو إلى مشاهدة فيلم، إلى أن تنهار والدتها في اللحظة الأخيرة في نوبة هلع، مما أثار خلافات مع والدها. نتيجة لذلك، تعلمت المريضة أنَّه "من الأفضل عدم التطلع إلى الأشياء".
تدخل التأثير السلبي والخوف من السعادة والاكتئاب "دراسة حالة":
لننتقل الآن إلى الدراسة التي أجراها جوردن والفريق المتعاون معه (Jordan and collaborators). تكونت العينة من أربعمئة وستَّة وسبعين شخصاً من سكان الولايات المتحدة (79 بالمائة منهم من ذوي البشرة البيضاء)، ثم جُمِعت البيانات في ثلاث نقاط (الوقت 2 و3 و4) خلال تسعة أشهر:
- الوقت 2: 375 شخصاً (266 منهم إناث، ومتوسط أعمارهم 40 عاماً، وتتراوح أعمارهم بين 18 إلى 76 عاماً).
- الوقت 3: 292 شخصاً (209 منهم إناث، ومتوسط أعمارهم 41 عاماً، وتتراوح أعمارهم بين 18 إلى 75 عاماً).
- الوقت 4: 220 شخصاً (153 منهم إناث، ومتوسط أعمارهم 43 عاماً، وتتراوح أعمارهم بين 20 إلى 77 عاماً).
أكمل المشاركون ثلاثة مقاييس، على النحو المبين أدناه:
- مقياس الخوف من السعادة (FHS): يقيس المخاوف المتعلقة بالسعادة الحالية أو المستقبلية.
أمثلة: "المشاعر الجيدة لا تدوم" و"إذا شعرت بالرضا، فأنت تتخلى عن حذرك" و"أَخشى أنَّه إذا شعرت بحالة جيدة، فقد يحدث شيء سيء".
- مقياس انعدام المتعة والتدخل (HDIS): يقيِّم ما إذا كان انعدام التلذذ (anhedonia) (عدم القدرة على الشعور بالسعادة) مصحوباً بمشاعر سلبية.
أمثلة: "هل تقول إنَّه لا يمكنك الشعور بمشاعر الاهتمام والحماس والإثارة، حتى عندما تحاول، وحتى عندما تحدث أشياء جيدة في حياتك؟" و"عندما تحدث أحداث إيجابية في حياتك: هل تشعر بالخدر، وكأنَّك لا تستطيع الشُّعور بالعواطف والمشاعر؟"
- جرد سريع لأعراض الاكتئاب وتقرير ذاتي يقيم الاكتئاب: تتعلق العناصر بالنوم والشهية وزيادة الوزن أو فقدانه والمزاجية ومشاكل في التركيز وفقدان الاهتمام والتغيرات الحركية والنقد الذاتي والتعب.
النتائج التي توصلت إليها الدراسة:
أظهرت النتائج أنَّ تدخل التأثير السلبي والخوف من السعادة مرتبطين، على الرغم من أنهما ليسا متشابهين. بالإضافة إلى ذلك، تم ربطهم بشكل مستقل بالاكتئاب والعواطف الإيجابية وعدم القدرة على تجربة التأثير الإيجابي. على وجه التحديد، يتنبأ تدخل التأثير السلبي الشديد والخوف من السعادة بزيادة أعراض الاكتئاب.
أظهرت البيانات كذلك أنَّ تدخل التأثير السلبي والخوف من السعادة يميزان مسارين للاكتئاب:
- تدخل التأثير السلبي: في بعض الأحيان يكون الناس غير قادرين على الشعور بالمشاعر الجيدة بعد الأحداث الإيجابية، بسبب المشاعر السلبية القوية.
- الخوف من السعادة: في بعض الأحيان يتجنب الناس المشاعر الجيدة، لأنَّهم ينظرون إلى الإيجابية على أنها خطيرة.
تختلف هذه المسارات عن المفاهيم السابقة للاكتئاب، والتي أشارت إلى أنَّ الاكتئاب ناتج عن الحساسية إلى المشاعر السلبية أو الافتقار إلى المشاعر الإيجابية، سواء بسبب الاضطرابات البيولوجية أم الإدراك المتحيز أم اجترار الأفكار أم عوامل أخرى.
بدلاً من ذلك، تشير النتائج الحالية إلى أنَّ - على الأقل - بعض الأشخاص المكتئبين يقمعون أو يخففون ردود أفعالهم تجاه المشاعر الإيجابية، بسبب تدخل التأثير السلبي أو الخوف من السعادة.
قد يبدو تجنب الشعور بالسعادة (أو مصادر السعادة) في البداية وقائياً للمرضى المصابين بصدمات نفسية أو المكتئبين، ربما نظراً إلى الارتباطات السابقة بين السعادة والتجارب المحزنة أو المؤلمة. ومع ذلك، قد يؤدي تجنب السعادة إلى الشعور باليأس وتقليل الشعور بالسعادة والفرح في الحياة. وغالباً ما يساهم هذا في تطوير الاكتئاب أو استمراره أو تفاقمه.
الخلاصة:
إذا كان البحث المستقبلي يكرر النتائج الحالية - أنَّ تدخُّل التأثير السلبي والخوف من السعادة علامات على أعراض الاكتئاب - فإنَّ العلاجات الشائعة المقدمة إلى مرضى الاكتئاب بحاجة إلى تعديل.
على سبيل المثال، العلاج السلوكي المعرفي، الذي يركز على تحدي الأفكار والمعتقدات السلبية، لا يعالج بالضرورة تجربة مرضى الاكتئاب في الشعور بالضيق، وذلك استجابة إلى المحفزات الإيجابية أو التحيزات المتعلقة بتجنب الإيجابية. كما أنَّه لا يعلِّم مرضى الاكتئاب كيف يستمتعون بالتجارب الإيجابية.
لحسن الحظ، تحاول بعض التدخلات الجديدة، مثل علاج التأثير الإيجابي وعلاج الاكتئاب المعزز، معالجة بعض هذه المخاوف.
أضف تعليقاً