قد تكون تربية الأطفال ومراقبتهم من قبل الأهل جيّدةً من الناحية النظرية، لكن حينما تتحوّل لتصبح أشبهَ بوسواسٍ قهريٍّ يُرافِقُ الأهالي، فإنَّها تنقلب إلى مُنغّصٍ لحياةِ الأطفال عموماً؛ والأبناء الأكبر سناً خصوصاً، وتعودُ بنتائج عكسية ومضار نفسية وبدنية عليهم.
من أجل أن نتعمَّق في هذا الأمر بالتَّفصيل؛ دعونا نتعرَّفُ على تجربةٍ شخصيَّة ترويها لنا مدرّبة الحياة ميندي كارلسون (Mindy Carlson)، الحاصلة على درجة الماجستير في علم تطوير المُنظمات (MSOD)، ونعلم في السطور القادمة ما يترتب على هذا الأمر من سلبيات.
تحوُّلٌ غير مقصود:
أليسَ من المدهش كيف نتحوّل إلى ذلك النوع من الآباء والأمهات الذي أقسمنا بأنَّنا لن نكون عليه أبداً؟ فقد كُنْتُ واثقةً قبل أن أُنجبَ أطفاليَ بأنِّي لن أصبحَ أُمَّاً تلاحقهم أينما ذهبوا. فأنا أولاً وأخيراً، قد ترعرعتُ في مزرعةٍ رفقةَ أخي وأولادِ عمومتي، ولم أكن أعودُ إلى المنزل إلا لتناول العشاء. بيد أنَّني قد تخطيت في مرحلةٍ ما من حياتي هذه الشعرة الدَّقيقة التي تفصلُ بينَ كونيَ أُمَّاً محبّةً عطوفةً وداعمةً، لأتحوّل إلى هذه الأمِّ "المُحَوِّمَة" التي قد أصبحتُ عليها.
إذ لم أجد نفسي إلا وقد حصلت على وظيفةٍ في المدرسة التمهيدية التي التحق بها طفلي؛ فقط من أجل أن أتمكَّن من أن أُبقيَ عيني عليه. حيث بدأ مُدَرّسُ ابني يتجنبني حين كُنت أمرُّ لآخذه معي، لأنَّني أثرثرُ وأُلِحُّ في طلبِ تقريرٍ مُفصِّلٍ عن مهاراته وسلوكياته ومدى تقدّمه، إضافةً إلى مطالبة مُعلّم ابني بتقديم مقترحاتٍ حول ما يُمكنُ فعله لمساعدته على تحقيق إمكاناته الكاملة.
ثمَّ تسلَّلَ هذا السُّلوكُ إلى بقية جوانب حياتي اليوميّة، فعند مرحلةٍ معيّنة، أصبحَت لديّ إجراءاتُ أمانٍ تدوم لمدة 20 دقيقة؛ فقط كي أسمح له باللعب في الفناء. تبدأ هذه الإجراءات بإلباسه قبعة ووضع واقٍ شمسيٍّ على وجهه، وقفلِ البوابة المُسَيَّجة؛ وتنتهي بوضع ثلاثة مخاريطَ عاكسةٍ في الطَّريق المؤدي إلى البوابة (خشيةَ أن يتمكن من فتحها). وفوق ذلك؛ كنتُ أبقى بقربه وهو يلعب!
هل يبدو ما كُنت أقومُ به مألوفاً لديكم؟ حسناً؛ إليكِ -وإليكَ- 9 علامات أخرى تدلُّ على أنَّكِ من نوعية أمّهات -وآباء- الهليكوبتر:
- حينما لا تسمحين لابنك باللعب في أيِّ فناء، إلا إذا كانت أرضيته مغطاة بطبقة حمايةٍ مطاطيّةٍ.
- عندما تُهاتِفين والدةَ -أو والدَ- صديق ابنك في المدرسة وتوبِّخيهنا بسبب شجارٍ كلاميٍّ نشبَ بين الاثنين.
- إذا كنتِ تقومين بكتابة فروضه المدرسية؛ لأنَّكِ تعتقدين بأنَّه "متعبٌ للغاية".
- إذا كُنتِ تُجبرينَ ابنكِ على وضع عجلاتٍ جانبية (عجلات التدريب) على دراجته، رُغم بُلوغه العاشرةَ من عُمره.
- إذا آلمكِ ظهركَ من فرطِ انحنائكِ وأنت تلاحقين طفلك ذو التسعة أشهر وهو يحبو من مكانٍ إلى آخر.
- عندما تصابين بالهلع من مُجرد التَّفكير في ذهابِ ابنكِ في رحلةٍ مدرسيَّة.
- إن كنت لا تسمحينَ لأبنائك بمساعدتك في المطبخ (فالسكاكين حادة والصُّحونُ قد تنكسرُ وتؤذيهم).
- إذا أهديتِ كاميرا ويب للحضانة التي يذهب إليها طفلك، فقط لتتمكني من مشاهدة ما يحدثُ معه وأنتِ في المكتب.
- عندما تجيبين بدلاً من ابنك عن الأسئلةِ التي يوجهها إليه مُدرِّسه في حضورك.
لقد قمتُ شخصيّاً بـ 5 من هذه الأمور، أمّا البقية فقد عرفتها من زُملائي.
نداءُ صحوة:
اعتدت أن أكون دائماً واحدةً من الأمهات اللواتي يُلاحقن أطفالهنَّ من مكانٍ لآخر حينما كانوا يلعبون في الحديقة. إذ كنت أخشى أن يسقطوا ويؤذوا أنفسهم. وأبقيت على هذه العادة عندما انتقلت أنا وزوجي إلى سويسرا. لكن حدثَ أن تكلّمت معي جارتي على انفرادٍ قائلةً بأنَّ بقيّة جيراننا يَسخرونَ من هذا الأمر، قائلين بأنَّ طفلاً عمره 10 أعوامٍ يجب أن يكون قادراً على اللعب في الحديقة بمفرده. فقد كان الأهالي في سويسرا لا يتدخّلونَ في شؤون أطفالهم.
بيد أنَّني لم أُصغِ إليها، وذهبت برفقته رغمَ ذلك. فلاحظت وجود فارقٍ في القوة والاتزان والثقة في النفس عند الأولاد السويسريين؛ والتي يفتقدها ابني ذو العشرة أعوام. حيث كانَ يعاني من عدم القدرة على حلّ الخلافات، ويفتقد إلى المرونة والعزم والتصميم. كان يبكي منزعجاً من كونه أقلّ قدرةً جسدياً من أقرانه. ولأوّل مرّةٍ، انتابتني الشكوك في أنَّ الإفراط في حمايته يضرُّ أكثر مما ينفع.
ماذا يعني أن نُفرِطَ في حماية أطفالنا؟
إنَّ الأبوّة والأمومة أمرانِ مُدمِّرانِ للأعصاب. ولا أحد يعلم ما يمرُّ به الأهالي، خاصةً مع الطفل الأول. الإفراط في حمايةِ الأطفالِ هو أسلوبُ تربيةٍ صارمٍ يهدف إلى توفير الحماية الجسدية والعقلية للطفل، إلى درجةٍ تُرهقُه -وترهق الأهل- أحياناً.
فكم نجدُ من آباءٍ وأمهاتٍ يتسلّقون الألعاب الموجودة في الحديقة رفقة أطفالهم، أو يساعدون طفلهم في استعادة دُميته من طفلٍ آخر انتزعها منه، أو يُحاولون اقناعَ زميله بأن يتشارك اللعب معه.
أغلب الظَّنِّ أنَّ مُعظم الأهالي قد قاموا بواحدةٍ من هذه الأمور على أقلِّ تقدير.
ما هي سلبيات ظاهرة آباء الهليكوبتر؟
في عام 2008، نشر "إدوارد ديسي" و"ريتشارد ريان" نظرية أسموها بـِ "نظرية التحديد الذاتي -Self-Determination Theory"، حيث توصّلا إلى أنَّ جميع البشر يحتاجون إلى 3 احتياجات أساسيّة لكي ينشأوا نشأةً صحيَّة:
- الاستقلالية.
- الثقة في النفس.
- الشعور بالارتباط.
وكلما اقتربنا من تلبية هذه الاحتياجات الثلاث، زاد رضانا عن حياتنا.
في عام 2013، استخدم كلاً من "هولي شيفرين" و"ميريام ليس" هذه النظرية لقياس تأثير ظاهرة آباء الهليكوبتر على طلاب الجامعات، فوجدا أنَّ الإفراط في رعاية الأبناء خلال طفولتهم، قد قوضت هذه الاحتياجات الثلاثة بدرجاتٍ مختلفة. إضافةً إلى ازدياد مستوى الاكتئاب والقلق، وانخفاض الرضا عن الحياة. حيث قالوا بأنَّه: "عندما يحلّ الآباء المشكلات التي يواجهها أطفالهم، فإنَّ الأطفال قد لا يُطوّرون الثقة والكفاءة اللازمتين لحلِّ مشكلاتهم الخاصة".
كما يمكن أن يزيد هذا الأمر من التوتر في العلاقة بين الأهل والأبناء، خصوصاً في سنوات المراهقة التي يرغب المراهقون فيها بالتمتع بالاستقلالية والخصوصية. وحتى الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم السنتين، يحتاجون إلى لحظاتٍ من الاستقلالية.
وجدت دراسةٌ أخرى أجراها مؤلّفون مشاركون في التنمية المُجتمعيَّة عامَ 2015، أنَّ الأطفال الصغار الذين يتمّ إعطائهم مساحةً للاستكشاف والتفاعل مع محيطهم، يتمتعونَ بعلاقةٍ أفضل مع أهاليهم.
أجمعت كلتا الدراستين على الآتي: "كن قريباً من طفلك، لكن دعه هو من يأتي ليطلب مساعدتك".
إذاً كيف يمكننا معرفة ما يجري مع أطفالنا والحفاظ على سلامتهم إذا لم نكن نَحُومُ حولهم؟ هنا يأتي دور الإصغاء الفعال الذي يبني جسور التواصل التي تسمح للأفكار والمخاوف والثقة، بالتدفق بحرية بينك وبين طفلك.
كيف يُمكن التخلص من هذا؟
إنَّ الإقلاع عن هذه العادة ليسَ بالأمر الهيِّن، مثلها مثل معظم العادات السيئة. لكن ومع هذا، يوجد بعض الخطوات التي تساعد على القيام بذلك:
1. إجراءُ تقييمٍ مناسب:
أوّل شيءٍ يمكن القيام به هو النّظر إلى ما كنا نفعله بدلاً منهم، ومعرفة إن كانوا قادرين على فعلِه بأنفسهم. من المفيد وضعُ قائمة بهذه الأشياء.
2. اتباعُ نهجٍ واقعيٍّ ومرحليّ للتوقف عن ذلك:
يجبُ وبمجرد إنشاء هذه القائمة، معرفةُ الأشياء التي سوف نطمئنُّ إلى أن يقوم بها أبناؤنا بأنفسهم. ومن ثم التدرّج في جعلهم يقومون بها بأنفسهم.
3. تَقَبُّل أنَّ أداءهم لن يكون مثالياً دوماً:
لن يقوم الطفل بحلِّ واجباته بالشكل الأمثل، ولن يحصل على درجاتٍ كاملةٍ دوماً. لذا قدم إليه التغذية الراجعة عندما يُطلب منك ذلك، لكن دع الأمر له ليقرّر كيف سيتدبرُ أموره.
4. تَركُهم يخوضون التحديات بأنفُسهم:
إذا ما نَشَبَ خلافٌ بين الطفل وصديقه، فهذا الأمر متروكٌ له للعمل على حلِّه. لكن ومع ذلك، لا مانعَ من أن نُصغيَ إلى شكواه ونُرشده إلى أفضل الحلول، مع تركِ مسؤولية التنفيذ على عاتقه.
5. جَعلُهم يقومون بالمُخاطرة:
من شأن القيام بالمخاطرة والنجاح فيها، أن يبني الثقة ويعززها في نفس الطفل. حيث توفر الثقة عاملاً حاسماً يتيح له تحقيق المزيد من النجاحات المذهلة. يمكن مثلاً السماح له بالذهاب إلى المدرسة والعودة منها بمفرده. ذلك كفيلٌ بزرع روح الاستقلالية عند أيِّ طفل، وتوطيد أواصرِ الثقة المُتبادلة بينه وبين أهله.
6. عدم الدفاع عن أخطائهم:
يجب إفهام الطفل أنَّ لأفعاله وقراراته عواقب مُحتملةً لا يُمكن التساهل معها. فمثلاً؛ إن عاد من المدرسة باكياً لأنَّه حصلَ على درجةٍ متدنيةٍ في إحدى الاختبارات؛ فلا يجب توجيه اللوم للمُعلّم، وإن كان طفلنا قد بذل كامل جهده للاستعداد لذلك الاختبار. من الأفضل في هذه الحالة تشجيعه على الحديث عما قام به بشكلٍ جيد، وعمَّا يمكنه فعله بصورةٍ أفضل في المرة القادمة.
7. كتابة اليوميات:
تساعد كتابة اليوميات في فرز الأفكار والمشاعر التي تراودنا خلال اليوم، والحكم عليها بصورةٍ صحيحة، ومن ضمنها طريقة تصرّفنا مع أبنائنا.
في الختام:
نحن نرغب غريزياً بصفتنا آباء وأمهات، في حماية أطفالنا والحفاظ على سلامتهم. لكن من الممكن أن يؤدّي بنا هذا في بعض الأحيان إلى أن نتحوّل إلى "آباءِ هليكوبتر" دون أن نشعر. والحقيقة التي لا نستطيع الهرب منها هي أنَّنا مهما رغبنا وحاولنا، فلن نقدرَ على حمايتهم دوماً.
الحلُّ هو أن نعيَ متى تزيد هذه الغرائز عن حدها وتخرج عن نطاق السَّيطرة، وننسحب ونترك أطفالنا يَتَوَلَّوْنَ شؤونهم بأنفسهم. كلّ ما علينا القيام به هو تعليمهم كيف يَحمُونَ أنفسهم بأفضل شكلٍ ممكن.
أضف تعليقاً