نحن تربَّينا على ثقافة الخوف والهروب، فابتعدنا عن إبداء أي رأي أو توجُّه مخالف لأبوينا، وانفصلنا عن ذواتنا وشخصيتنا وتقمَّصنا شخصية أحد أبوينا، أو أحد المحيطين بنا، وغُصنا في هذه المرحلة إلى أن نسينا أنفسنا؛ نعم، نحن لم نشعر بنشوة أن نكون مميزين ومتفردين، ولم نعتد العيش مع ثقافة البوح والصراحة، فأصبحنا نميل إلى إخراج صوت القطيع وإخفاء صوت شعورنا الداخلي الصادق، واحترفنا كبت المشاعر الحقيقية التي نشعر بها، وأعطينا أحقية الظهور لمشاعر الآخرين وأفكارهم.
تنازلنا عن أحلامنا وشغفنا بحجة الظروف الخارجية القاهرة، والنفوس السيئة المحيطة بنا، ولم نثق بقدرتنا على إحداث توازن حقيقي ما بين جانبنا الملائكي والشيطاني، فبَحثنا عن آليات وهمية مؤقتة لتخفيف حدة القلق والتوترعوضاً عن مواجهة اللاتوازن الذي نشعر به بطريقة عقلانية ومنطقية.
نحن نمضي حياتنا كلها في محاولة الهروب من الألم، والقلق، والتوتر، والازدراء، وتأنيب الضمير، إلى أن ندمن استخدام إبر التخدير النفسية، في سبيل الوصول إلى نوع من الراحة الوهمية.
عندما لا تملك القوة للاعتراف بكينونتك ومسؤوليتك، ولا تسعى إلى تطوير وعيك وثقافتك وبحثك الداخلي، وترفض مواجهة مخاوفك، وتُدمن العيش في الأوهام، ولا تستطيع تقبُّل المشاعر السلبية؛ فهذا يعني أنَّك محترف في استخدام الحيل الدفاعية النفسية ومن دون أن تعي ذلك، وهذا ما سنناقشه من خلال هذا المقال.
شاهد بالفيديو: 12 نصيحة للحفاظ على الصحة النفسية
منشأ الحيل الدفاعية النفسية:
- يتكوَّن كل إنسان من نفس وجسد وروح، ويكون مصمماً على استراتيجية النجاة؛ لذلك فهو يستثمر كل ما لديه من طاقة من أجل ضمان عدم تعرُّضه إلى التهديد والمخاطر، فيعمل على البعد عن المعاصي والآثام بسبب رغبته في المحافظة على روحه صافية ونقية، ويقترب من الأطعمة الصحية ومن التمارين الرياضية بسبب رغبته في المحافظة على جسده سليماً معافاً، وقد يعمل على استخدام الحيل الدفاعية النفسية من أجل ضمان صحته النفسية، وشفائه من القلق والتوتر.
- قسَّم فرويد النفس البشرية إلى ثلاث مستويات؛ المستوى الأول هو مستوى "الهوَ" وهو مخزن الغرائز والشهوات، والرغبات الحيوانية للإنسان، والمستوى الثاني وهو "الأنا العليا" وهي الضمير الحي الصاحي، ومخزن كل المبادئ والقيم والمثاليات، والمستوى الثالث وهو مستوى "الأنا" وهنا نقطة التوازن ما بين المستويين السابقين، أي المرحلة العقلانية والمنطقية والناضجة.
- يقع العديد من الناس في فخ صعوبة تحقيق التوازن بين الجانب الملائكي والجانب الشيطاني، الأمر الذي يوصلهم إلى إدمان حيل نفسية دفاعية من أجل تخفيف وطأة وحدَّة الصراعات ما بين الأنا العليا والهو.
- إذاً الحيل الدفاعية النفسية هي محاولة الإنسان -بطريقة لاشعورية وغير واعية منه- الهروب من الألم والقلق والتوتر الناتجان عن صراعاته الداخلية، وقد يصل به الحال إلى تشويه الواقع وتغييره في سبيل الوصول إلى حالة من الأمان المزيف، وكلما زادت نسبة استخدام الحيل النفسية الدفاعية؛ قلَّت نسبة النضج النفسي للمجتمعات.
ما هي الحيل الدفاعية النفسية؟
1. الكبت:
يعد الكبت من أكثر الحيل النفسية الدفاعية انتشاراً في المجتمعات، فقد يميل الإنسان إلى كبت أفكاره ومشاعره في حال عدم قدرته على التعامل معها بحُرية وفي حال تعارُضها مع القيم العليا التي يؤمن بها، فيضع تلك الأفكار والمشاعر في اللاشعور، ويُخفيها هناك، مثل مشاعر الجنس والعدوان.
يعتقد الإنسان أنَّه قد حصَّن نفسه باستبعاده لتلك الرغبات والمشاعر ورميها في اللاشعور، إلا أنَّ تراكم تلك المخزونات يُسبِّب له قلقاً داخلياً وحالة من التوتر واللاسلام، ومن جهة أخرى، تظهر تلك المكبوتات على السطح على هيئة زلات اللسان، أو على شكل العمى أو الشلل أو الخرس النفسي، وذلك في حال تعرَّض الإنسان إلى الصدمات النفسية.
2. التوحُّد:
يلجأ الإنسان في هذه الحيلة إلى تقمُّص شخصية الطرف الآخر بطريقة مطلقة، وهو مختلف عن نمط التقليد؛ حيث يلجأ الإنسان إلى تقليد الآخر عن وعي وإدراك، كأن يُعجَب بتصرف ما من الطرف الآخر فيقوم بمحاكاته، أما التوحد فهو تماهٍ مطلق في الآخر إلى درجة التخلي عن المبادئ والقيم الذاتية وتبنِّي قيم ومبادئ ومعتقدات الآخر.
تأتي تقنية التوحد من عقدة الخوف التي يملكها الإنسان، وتكثر عند الأشخاص الذين عانوا من طفولة معذَّبة وسط أسرة قاسية عاطفياً؛ حيث يميل ذاك الطفل بلاوعيه إلى التوحد مع جلَّاده كنوع من الحماية من الخطر وضمان الأمان والسلام.
3. التبرير:
يستخدم الكثير من الأشخاص حيلة التبرير، بحيث يعلِّقون أسباب كسلهم وقلة حيلتهم على ظروف البلد على سبيل المثال، فيقولون أنَّهم لا يقومون بفعل شيء؛ وذلك لأنَّ ظروف البلد تعيسة ولا يوجد فرص عمل ولا يوجد أي أمل، أو يخلق الطلاب تبريرات لتسويغ قلة تحضيرهم والتزامهم الدراسي، كأن يتهموا أساتذتهم بالقسوة، واللإنسانية، وأنَّهم يصنعون أسئلة لا وجود لها في المقررات الدراسية.
يقوم الأشخاص بهذه الحيلة باللاوعي، وبدون تعمُّد، وذلك لتخفيف إحساسهم الضمني باللإنجاز، والكسل والتراخي.
4. الإسقاط:
يلجأ الكثيرون إلى حيلة الإسقاط، لتخفيف كم الطاقة العدوانية التي يشعرون بها، فيُسقِطون كل ما في جعبتهم من سموم على الآخرين، فقد يكره شخص ما صديقه، ولكي يتحرر من مشاعر الكره التي تنهش قلبه، وتُعكِّر سلامه؛ يعمل على إسقاط هذه المشاعر على صديقه، ويقول: "فلان يكرهني، أنا متأكد من ذلك"، ومن ثم يتبنَّى هذا الإسقاط ويجعل منه طريقة لتبرير التصرفات السلبية التي سيقوم بها معه.
5. الإزاحة:
يعتمد الكثيرون على حيلة الإزاحة لتفريغ كم الطاقة السلبية التي يشعرون بها، فعوضاً عن مواجهة المشاعر المضطربة وعلاجها؛ يهرع أولئك إلى نقل مشاعرهم إلى الآخرين ومن دون وعي منهم.
على سبيل المثال: قد يتعرَّض الرجل إلى إهانة ما من قبل مديره في العمل، ولأنَّه غير قادر على رد الإهانة إلى مديره؛ يعمل على نقل تلك الإهانة بكل ما فيها من مشاعر سلبية إلى زوجته المسكينة، فيصب فيها كم الطاقة السلبية من دون أن تقوم بأي فعل يستدعي الغضب.
6. التسامي:
وهي عملية نقل الرغبات العدوانية إلى الواقع ولكن بطريقة يرضى عنها المجتمع، كأن يكون لدى شخص ما رغبة شديدة في استخدام الأدوات الحادة وفي رؤية الدم؛ فيَدرس الطب البشري لكي يستطيع أن يُترجِم هذه الرغبة إلى أسلوب راقٍ وإنساني، وقد يكون لدى شخص ما رغبات عدوانية شرسة، فيلجأ إلى تعلُّم رياضة "الكاراتيه" لكي يترجم تلك الرغبة إلى شكل مادي راقي.
7. التكوين العكسي:
يعتمد الإنسان خلال هذه الحيلة الدفاعية على مبدأ العكسية، ليتخلص من حجم الضغظ والتوتر الملقى عليه، كأن يتحول مجرم خطير إلى مصلحٍ اجتماعي، وهذا التحول من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، الهدف منه الوصول إلى حالة من التوازن والسلام، والهروب من الصراعات الداخلية التي تحدث على مستوى اللاشعور.
8. العزل:
يفصل الإنسان في هذه الحيلة عواطفه عن الموقف الحاصل له، كأن يفصل رجلٌ ما بين العملية الجنسية والعواطف المرتبطة به، فيعيش عواطفه مع زوجته، ويخونها جسدياً مع أخرى، فالصحة النفسية المتوازنة هي أن تعيش شهوة الحب مع حنانه مع الزوجة فقط، إلا أنَّ مَن يمتلك هذه الحيلة لا يستطيع الدمج بين هاتين الخصلتين.
9. الإنكار:
وهي عدم القدرة على التسليم بالأمر الحاصل، فيميل الإنسان هنا إلى تجاهل حدوث الأمر تماماً، كأن تنكر امرأة ما وفاة زوجها، وتتعامل وكأنَّه موجود تماماً في الواقع، وهنا على الطبيب النفسي مساعدة المريض على تجاوز مرحلة الإنكار التي هي مرحلة من ضمن مراحل اضطراب ما بعد الصدمة.
وهنا لا يجوز لأهالي المريض أن يتَّبعوا معه أسلوب المواجهة والمصارحة، كأن يقولوا له: "أنت مصاب بمرحلة إنكار وعليك الخروج منها في أسرع وقت"؛ بل يجب أن يميل الطبيب النفسي إلى تقليل حدة التوتر الذي يقف وراء حالة الإنكار ليساعد المريض على الانتقال إلى المرحلة التي تليها من اضطراب ما بعد الصدمة وهي مرحلة الاحتجاج، والتذمر، ومن ثم مرحلة الكآبة، وأخيراً مرحلة التصالح والتقبل.
من جهة أخرى، يعد الحب من أكثر الأمثلة على استخدام حيلة الإنكار؛ حيث ينكر العاشق في أغلب الأحيان عيوب محبوبه، فيميل إلى تجاهلها تماماً على الرغم من وجودها الصارخ، كأن يكون الحبيب بخيلاً جداً، إلا أنَّ الحبيبة تنكر ذلك تماماً، وتُدافع عنه أمام مَن يحاول مساعدتها في اكتشاف سلبياته فتقول لهم: "إنَّه حريص وليس بخيلاً".
10. الخيال:
يحترف بعض الأشخاص حيلة الخيال، بحيث يعيشون في الخيال بطريقة مبالغ فيها وينسون الواقع، ويميل أولئك إلى عيش هدفهم الذي لم يستطيعوا تحقيقه على أرض الواقع في خيالهم، ويعد استثمار الخيال في تحقيق الأهداف خطوة إيجابية تجعل الشخص أكثر حماساً لبلوغ هدفه، لكنَّها تتحول إلى خطوة كارثية في حال إدمان الشخص عليها بحيث ينفصل عن الواقع ويحيا في الخيال فقط، وينسى السعي والمهام الموكلة إليه لبلوغ هدفه.
11. التعويض:
يميل الإنسان في هذه الحيلة إلى بذل قصارى جهده لإثبات نجاحه في مسار ما في حياته، وذلك بعد فشله في مسار آخر، وتعد مع حيلة التسامي من الحيل الدفاعية الإيجابية على عكس باقي الحيل المذكورة.
الخلاصة:
اعمل على رفع سويَّةَ نضجك، فكلما أغنيتَ ثقافتك النفسية وتعمقت في ذاتك وكنوزك، وسمحتَ لمشاعرك في التجلي والظهور أياً كان نوعها، وواجهتَ مخاوفك بدلاً من الهروب منها، واجتهدتَ في إدارة مشاعرك وأفكارك بالشكل الصحيح وبطريقة شعورية واعية؛ استطعت التحكم في حياتك بحيث لا تقع ضحية الحيل النفسية اللاشعورية، وبحيث تعيش الواقع بكل أبعاده بعيداً عن الأوهام وإبر التخدير النفسية.
التعليقات
إسلام محمد
قبل 1 سنةالسلام عليكم هل يمكنني مشاركة هذا المقال مع ذكر المصدر في دورة تدريبيه اريد عملها لعائلتي ؟
أضف تعليقاً