هل يجعل فيروس كورونا تجربة العمل من المنزل مرهقة؟

تنبَّأ الناس بأنَّ وظائفنا سوف تتحرَّر من المكتب أخيراً، وأنَّ المنزل سيكون مستقبل العمل؛ وذلك بعد مرور القليل من الوقت على اختراع الكمبيوتر الشخصي.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن الكاتب والمدوِّن ديريك ثومبسون "Derek Thompson"، والذي يحدِّثنا فيه عن تجربته الشخصية في العمل من المنزل.

اعتبرني مراسلك القادم من المستقبل، ودعني أخبرك -كشخصٍ يعمل من المنزل هذا الأسبوع- أنَّ الأمر ليس مثيراً للغاية، فمكتبي عبارةٌ عن منضدةِ مطبخ، والكافيتريا الخاصة بي عبارةٌ عن ثلاجة؛ وتجعل الحاجةُ المستمرة إلى تنظيفهما التسويفَ أمراً مرجحاً، حيث تدفعني العادات الروتينية إلى المماطلة أكثر.

لقد انضم إليَّ في بداية هذا العام مئات الآلاف -وربَّما الملايين- من الأشخاص، هرباً من فيروس كورونا. لا يمكننا جميعاً العمل من المنزل، فوفقاً لمكتب إحصاءات العمل، فإنَّ 29% فقط من الأمريكيين يمكنهم العمل عن بعد، بما في ذلك: واحدٌ من كلِّ عشرين عاملاً من عمَّال الخدمات، وأكثر من نصف العاملين في مجال الإعلام. لذا، وبينما لا تزال وحدات الخدمات تدير المطاعم، أصبح قطَّاع التكنولوجيا يعمل عن بعدٍ بالفعل، فقد طلبت كلٌّ من أمازون وآبل وجوجل وتويتر من بعض موظَّفيها البقاء بعيداً عن المكتب والعمل من منازلهم.

أدَّى تفشِّي فيروس كورونا إلى انطلاق تجربة العمل عن بُعدٍ على نطاقٍ واسع، ويمكن لما نتعلَّمه في الأشهر القليلة المقبلة أن يساعد في صياغة مستقبل عملٍ ربَّما كان مجيؤه أمراً حتمياً، سواءً في ظلِّ أزمةٍ صحيَّةٍ عامَّةٍ لا تندلع إلَّا مرةً واحدةً في كلِّ قرن، أم دونها.

وفقاً لما ذكره الاحتياطي الفيدرالي، فقد كان العمل عن بُعدٍ يتسارع في الولايات المتحدة، حتَّى قبل انتشار الوباء؛ حيث تضاعف إجمالي القوَّة العاملة التي تعمل من المنزل إلى ثلاثة أضعافٍ خلال السنوات الخمسة عشر الماضية. وكان اثنان من العوامل واضحين:

  • ارتفاع تكاليف المعيشة مع زيادة عدد العاملين في مجال المعرفة.
  • والتطور التكنولوجي، مثل: تطبيقات "سلاك" (Slack) و"مايكروسوفت تيمز" (Microsoft Teams)، التي تنقل المحادثات عبر الإنترنت.
إقرأ أيضاً: 7 تطبيقات لعقد مؤتمرات الفيديو والاجتماعات عبر الإنترنت عن بعد

لكنَّ النتائج المبكرة من المكاتب المنزلية في أمريكا مختلطةٌ إلى حدٍّ كبير، ولقد كتب (كيفين روز) في صحيفة نيويورك تايمز -من الحجر الصحي- أنَّ العمل عن بعدٍ يعيق الشرارات الإبداعية التي تتطاير عندما نتفاعل مع الأشخاص الفعليين، بدلاً من التعامل مع صورهم المصغَّرة على تطبيق سلاك.

في ورقةٍ بحثيةٍ جرى إصدارها عام 2016 بعنوان "هل العمل من المنزل أمرٌ مجدٍ؟"، عيَّن فريقٌ من الاقتصاديين في وكالة "سي تريب" (Ctrip) -أكبر وكالة سفرٍ صينية تضمُّ 16000 موظف- مجموعةً صغيرةً وعشوائيةً من موظفي مركز الاتصال للعمل من المنزل.

بدت التجربة في البداية مربحةً للعمَّال والمالكين، حيث عمل الموظَّفون أكثر، وقالوا أنَّهم سعداء بعملهم؛ كما وفَّرت الشركة في الوقت ذاته أكثر من ألف دولارٍ كانت تنفقها على تجهيز مساحةٍ مكتبيةٍ صغيرةٍ لكلِّ موظَّف. ولكن عندما طرحت "سي تريب" (Ctrip) هذه السياسة على الشركة بأكملها، حدثت الكثير من الفوضى، وطغت شكوى واحدةٌ على كلِّ شيءٍ آخر: وهي الوحدة.

إنَّ التهديد الأكبر للعمل عن بُعدٍ بالنسبة إلى العديد من الشركات هو كسر الروابط الاجتماعية اللازمة للعمل الجماعي المنتِج، إلى جانب فقدان الرفقة والإبداع. لقد أجرت جوجل مشروعاً بحثيَّاً قبل عدَّة سنواتٍ حول أكثر مجموعاتها إنتاجية، ووجدت أنَّ أهمَّ صفة هي "السلامة النفسية"، والثقة بأنَّ قادة الفرَق لن يُحرِجوا أو يعاقبوا الأفراد بسبب حديثهم.

لكن، قد يكون التواصل عبر الإنترنت حقل ألغامٍ للسلامة النفسية، وفقاً لـِ (بيل دوان) -مهندسٌ سابقٌ في جوجل، ويعمل الآن عن بُعدٍ كمستشارٍ وباحثٍ مؤسسي- حيث قال: "كلَّما قرأنا عبارةً تبدو غامضةً أو ساخرةً بالنسبة إلينا على سلاك مثلاً، مثل: "أيُّها اللعين!"؛ فإنَّنا سنفتقر إلى الحكمة في تأويلها. ولكن، إذا قال شخصٌ ما الشيء نفسه وجهاً لوجه، فقد تضحك معه؛ أمَّا على هذه البرامج، فيمكن أن يُرفَض مزاح المكتب والنكات السيئة والحديث الجماعيُّ غير المألوف، باعتباره مجرَّد هراء". يُطلِق (دوان) على هذه الأشياء اسم "الموجة الحاملة للسلامة النفسية".

إنَّ كلَّ ما لا يبدو وكأنَّه عملٌ في المكتب، هو ما يجعل العمل الأكثر إبداعاً وإنتاجيةً أمراً ممكناً.

قد لا يصلُح العمل عن بعدٍ لكثيرٍ من الناس في المستقبل، لكنَّ الوضع الحالي يُفشِل الملايين من الناس بالفعل.

غالباً ما يلجأ الموظَّفون إلى السكن في الضواحي البعيدة نظراً إلى عدم توفُّر أماكن سكنيةٍ بأسعارٍ معقولةٍ في مناطق وسط المدينة، حيث تتركَّز غالبية أماكن العمل. تعدُّ الرحلة من أماكن السكن إلى العمل عذاباً نفسيَّاً وبيئيَّاً يزيد من الاكتئاب واستهلاك الوقود، وقد سجَّل معدَّل التنقل في الولايات المتحدة مؤخَّراً رقماً قياسياً بلغ 27 دقيقةً في اتجاهٍ واحد، وهذا ما يقرب ساعةً واحدةً في اليوم تقضيها في آلةٍ تُصدِر الأدخنة، وبعيداً عن الأصدقاء والعائلة.

قد يكون السماح للناس بالعمل عن بعد، سواءً في المقهى أم في مساحة العمل المشتركة أم على الأريكة؛ مفيداً لتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية والسعادة والمحيط.

إقرأ أيضاً: 9 أماكن عمل قليلة التكلفة لتنطلق في ريادة الأعمال

كما يعني التركُّز الجغرافي للوظائف أيضاً أنَّ الصناعات القوية تتجمَّع في حفنةٍ من المدن الغنية، حيث يذهب 80% من استثمارات رأس المال الاستثماري الأمريكي إلى ثلاث ولاياتٍ فقط: كاليفورنيا ونيويورك وماساتشوستس؛ وحوالي 70% من جميع الوظائف المنشورة على الإنترنت كانت تقع: إمَّا في طريق أسالا بين واشنطن وبوسطن، أو المنطقة الغربية بين سياتل وفينيكس.

قال (هيتين شاه)، رجل أعمالٍ ومستشار شركات العمل عن بعدٍ مثل شركة "أوتوماتيك" (Automattic): "مع نقص المساكن على السواحل، لديك الكثير من الموهوبين الذين يعيشون خارج المناطق الحضرية؛ ونتيجةً لذلك، يتعيَّن على الشركات وضع خصائص العمل عن بُعدٍ في ثقافتها للوصول إلى تلك المواهب".

يتمثَّل جانبٌ سلبيٌّ آخر للعمل المكتبي في تركُّز العمل في المدن الحضارية عالية الدخل، والذي يمكن أن يجذب الناس من المجموعة الاجتماعية والاقتصادية نفسها، الذين يتشاركون الأفكار نفسها.

قال (غابرييل واينبرغ)، مؤسِّس محرِّك البحث "دك دك جو" (DuckDuckGo): "الشيء الوحيد الذي لم نتحدَّث عنه بما فيه الكفاية هو أنَّ: التوزيع يعني أنَّك تتمتَّع بثقافةٍ أقلَّ تجانساً، إذ لا يمكن إجبار الأشخاص من خلال العمل عن بُعدٍ على تناول القهوة بعد العمل؛ كما لا يمكن لشيءٍ أن يحلَّ محلَّ العمل الاجتماعي الذي يقدِّمونه داخل مجتمعاتهم الخاصة. لذا، فإنَّك تحصل حقاً على تنوعٍ حقيقيٍّ في التفكير".

لقد قدَّمتُ صورتين للعمل عن بعدٍ في صورةٍ واحدة، فهو في الصورة الأولى تجربةٌ كئيبةٌ وتُشعِر بالوحدة، وغالباً ما تستنزف الإبداع، وتخلق مسافةً ضيقةً بين وقت العمل ووقت التوقُّف عنه. أمَّا في الصورة الثانية، فهو نعمةٌ للحياة الاجتماعية والأسرية، وللمساواة والتنوع، والكوكب ككل.

إنَّ الفوضى المتمثِّلة في صورة العمل عن بعدٍ علامةٌ على مراحله الأولى.

يقول (شاه): "لا يصلُح العمل عن بُعد لمعظم الشركات في الوقت الحالي؛ وذلك لأنَّنا أمضينا آخر مئةٍ وعشرين عاماً نتعلَّم كيف يمكن للناس أن يكونوا منتجين في المكاتب".

لم يكن ظهور التلغراف والسكك الحديدية في أواخر القرن التاسع عشر مجرَّد وسيلةٍ لمنحنا البيع بالتجزئة والإعلانات وتوزيع المنتج فحسب؛ بل ولمنحنا الرأسمالية الإدارية، والمديرين المتوسطين، وكبار المديرين، والتسلسلات الهرمية الحديثة في مقرات الشركات.

لقد تغيَّر اقتصاد القرن الحادي والعشرين بالفعل، وذلك من حيث البيع بالتجزئة والإعلان والتوزيع الشامل للمنتجات، وربَّما سيؤدِّي ذلك حتماً إلى تغيير العمل والإدارة.

ولكن أولاً: سيتعيَّن على الشركات أن تعلم أنَّ العمل عن بعدٍ أمرٌ مختلف، وسيتعيَّن على المديرين أن يتحسَّنوا في الحكم على الإنتاجية، وذلك من خلال تحديد أهدافٍ محددةٍ ومراقبتها، بدلاً من استخدام مراقب حضورٍ في المكتب؛ كما سيتعيَّن على العمال العمل بضميرٍ عندما يتعلَّق الأمر بتقسيم يومهم إلى: عمل، واتصالاتٍ مكتبية، ووقتٍ شخصي، وحياةٍ مدنيةٍ أو عائلية.

إقرأ أيضاً: 6 نصائح لقيادة الموظفين عن بعد

سيتوجَّب على الموظَّفين أيضاً تطوير عاداتٍ جديدة، مثل: الاحتفاظ بوثائق كثيرةٍ لكلِّ تفاعل عملٍ هادف، بحيث تكون الفِرَق دائماً على كامل الاطلاع بما يحدث في العمل؛ وسيحتاج الرؤساء إلى إجراء مزيدٍ من مؤتمرات الفيديو وندوات الأعمال؛ لأنَّ موظفيهم سيستمرون في الرغبة في التفاعل وجهاً لوجه.

يمتلئ "تويتر" في حالة الذعر الحالية بتنبؤاتٍ ورديةٍ بأنَّ الفيروس سيكون نقطة انقلابٍ في مستقبل توزيع الأعمال؛ لكنَّ الوباء ليس الوقت المناسب لتحديد أيِّ نوعٍ من ترتيبات العمل الذي قد يكون منتجاً على النحو الأمثل لكلِّ عامل.

إنَّها بالأحرى لحظةٌ للشركات لبناء نوعٍ من التكنولوجيا والثقافة التي يمكن أن تجعل العمل عن بُعدٍ أسهل بالنسبة إلى أولئك الذين يرغبون في الاستفادة منه في المستقبل، وذلك عندما يعود الاقتصاد إلى كامل قوته؛ إذ قد ينطوي عمل العاملين في مقرات الشركات على القليل من التنقُّل، للعمل من المنزل بشكلٍ أكثر بعض الشيء.

 

المصدر




مقالات مرتبطة