هل أنت من مدمني التفكير الزائد؟

نحن نمضي حياتنا مُعظِّمين تجارب الماضي وآلامه في دواخلنا، فنمنحه أحقية السيطرة على حياتنا وقراراتنا ومصيرنا، وذلك على الرغم من انتهائه فعلياً؛ ونميل إلى الحكم السلبي على ذواتنا، فننعت أنفسنا بالفشل والكسل لمجرَّد اتباعنا أسلوباً غير مدروس وغير واعٍ مع تجارب الماضي، ونتبنَّى فكرة أنَّ الحاضر ما هو إلَّا امتداد للماضي، متجاهلين ما نملكه من قوى حقيقيَّة، ومواهب، وقدرات خارقة على التغيير. ونتعامل مع المستقبل بالكثير من مشاعر الخوف والإرباك، بحيث ننسى عيش لحظتنا ونبني السيناريوهات المحتملة لمستقبلنا، والتي غالباً ما تكون سلبية وتُضعِف من عزيمتنا وقوَّتِنا النفسية.



هل تشعر بالتوتر والقلق على مدار اليوم؟ وهل تشعر بالخوف الدائم من المستقبل، وتركز على العراقيل التي من الممكن أن تعترض طريقك؟ وهل ترغب في إحكام السيطرة على كل حياتك، إلَّا أنَّ الواقع يفرض عليك الكثير من المستجدات التي لا تستطيع التنبؤ بها؟ وهل أنت من المؤمنين بعبارة "كل شيء يحدث لخير، وإن كان ظاهره سلبياً"، أم أنَّك لا تستطيع أن ترى إلَّا الجانب السلبي من القضية؟ وهل تخاف من اتخاذ القرارات المصيرية في حياتك وتحلم في الحياة المثالية والكمالية، فتجد أنَّك أسيرٌ لسيل الأفكار التي تغزوك دائماً، ولا تستطيع إدارتها والتحكم بها؟ وهل يؤثِّر التفكير على إمكانية نومك بعمق، فتفقد متعة النوم وجماله؟ وهل تشعر بالإنهاك الجسدي والنفسي طوال الوقت، بالرغم من عدم قيامك بمهام متعبة؟ وهل تضيع منك الفرص واللحظات الجميلة والدافئة وتجد نفسك عالقاً طوال الوقت في دوامة الأفكار السلبية ومشاعر اللوم وجلد الذات والخوف من الآتي؟

إن كانت إجابتك "نعم" في معظم الأسئلة الفائتة؛ فأنتَ إذاً من مدمني التفكير الزائد، وهذا المقال مُقدَّم إليك، فلعلَّه يساعدك على علاج هذه المشكلة القاسية.

ما هو داء التفكير الزائد؟

يُعدُّ التفكير الزائد من أكثر الظواهر المنتشرة حالياً في المجتمعات؛ وذلك نتيجة تزايد الضغوطات الحياتية على الإنسان، وضعف الوسائل التي يملكها للتعامل والتكيف مع تلك الضغوطات.

نحن نقول عن إنسان أنَّه ذو تفكير زائد عندما يسبب له تفكيره إعاقة حقيقيَّة في حياته، فلا يستطيع النوم بعمق، ولا ينجز المهام الموكلة إليه بالشكل الصحيح، ويشعر بالإنهاك الجسدي والنفسي طوال الوقت، حيث تسيطر عليه مشاعر القلق والخوف.

إنَّه الاسترسال في التحليل والتمحيص لدرجة مبالغ فيها، وصولاً إلى مرحلة الضياع والتشتت والاستسلام، أي؛ التفكير الشديد الذي لا يُوصِل إلى نتائج أو حلول.

شاهد بالفيديو: 7 طرق تمنع بها نفسك من الإفراط في التفكير

أسباب التفكير الزائد:

1. الهوس بالسيطرة:

يَعدُّ الشخص ذي التفكير الزائد نفسه المتحكم الأساسي في كل أمور حياته، متناسياً أنَّه ذرة صغيرة في هذا الكون، وأنَّ الله عز وجل وحده المُتحكِّم والمُسيطِر على كل شيء؛ فيميل الشخص ذي التفكير الزائد إلى التحليل العميق المبالغ به، وإلى دراسة البدائل المتاحة أمامه دراسة مستفيضة وكبيرة حتى يصل إلى مرحلة الضياع وعدم القدرة على اتخاذ القرارات.

لا يدرك هذا الشخص أنَّ الحياة مليئة بالمفاجآت والمتغيرات التي لا يستطيع التنبؤ بها، وأنَّ كل ما عليه هو السعي ضمن المتاح لديه، ومن ثمَّ التسليم لله.

2. المقارنات:

لا يرسم الشخص ذي التفكير الزائد قصته الخاصة؛ بل يبقى في حالة من المقارنات المؤذية بينه وبين الآخرين، فيميل إلى استنساخ تجارب الآخرين دون دراسة منظومة القيم المختلفة بينه وبينهم، الأمر الذي يجعله دائم القلق والتوتر؛ لأنَّه يبتعد عن حقيقته وقيمه ومبادئه.

إقرأ أيضاً: 4 استراتيجيات تساعدك على التوقف عن مقارنة نفسك بالآخرين

3. الكمال:

يسعى الشخص ذي التفكير الزائد إلى صنع حياة مثالية، ولأنَّ الحياة لا يمكن أن تكون كاملة؛ يعيش في حالة من التردد والحسابات التي لا تنتهي للوصول إلى المعادلة التي يتبناها والتي لا أساس لها من الصحة.

ويقع الشخص ذي التفكير الزائد في وهم الاختيار الأمثل، الأمر الذي يجعله دائم البحث عن الخيار الأكثر كمالية من بين الخيارات المتاحة، مما يُفقِده الكثير من الفرص في أثناء رحلة بحثه القاسية تلك.

4. عدم التصالح مع الماضي:

لا يملك الشخص ذي التفكير الزائد مهارة التعلم من الماضي؛ فيميل إلى جلد ذاته ولومها عن أي قرار سابق لم يكن صائباً، ويستمر في اجترار المواقف والتجارب الماضية المؤذية، الأمر الذي يجعله كئيباً، ضعيف الثقة بنفسه، وغير متفائل في المستقبل.

5. الخوف:

يميل الشخص ذي التفكير الزائد إلى الخوف من المستقبل، على الرغم من وضوح الأهداف لديه في بعض الأحيان، حيث يخاف من عدم قدرته على تنفيذ ما يُخطِّط له. وبدلاً من مواجهة مخاوفه، والتحري عمَّا يستطيع فعله في حال تحقُّقها، وحساب تكلفة عدم قيامه بالأمر، وبقائه في حالة من التردد والخوف؛ يميل إلى المحافظة على التفكير المبالغ فيه، إلى أن يستسلم لمخاوفه.

وقد يميل هذا الشخص إلى ممارسة سلوكات إدمانية كالتدخين، والكحول، وإدمان الإنترنت، هرباً من تفكيره الشديد ومخاوفه الكبيرة.

6. الأسئلة:

يميل الشخص ذي التفكير الزائد إلى استخدام أداة الاستفهام الخاطئة التي تجعله في حالة من الطاقة السلبية المستمرة. ويسأل نفسه على سبيل المثال "لماذا يحدث لي هذا؟"، ويستمر في السؤال إلى أن يقع ضحية الأفكار السلبية الكارثية.

إقرأ أيضاً: 5 أنواع من الحديث مع النفس يُحبِّها العقل أكثر من غيرها

ما هو علاج التفكير الزائد؟

يُفقِدنا التفكير الزائد متعة الحياة ورونقها، ويجعلنا كئيبين مهمومين، ويُبعدنا عن القرارات الصائبة في حياتنا، ويضعنا في حالة من القلق والتوتر الدائمين، ويصيبنا بالكثير من الأمراض النفسية والعضوية.

أمَّا عن علاجه؛ فسنذكر النصائح الآتية:

1. عليكَ بالأفعال:

لكي تقلل داء التفكير الزائد لديك؛ عليك أن تضع نفسك في الفعل، فلا تسمح لنفسك بالتحليل المبالغ فيه واستنزاف طاقتك وجهدك بلا جدوى؛ بل اسعَ إلى تحويل أفكارك إلى أفعال وإنجازات.

2. اكتب أفكارك على ورق:

تعدُّ الكتابة أكبر أداة مساعدة للتخلص من التفكير الزائد؛ لذلك اعمل على كتابة أفكارك على الورق، بحيث تتجسد أمامك وكأنَّها شخص تحاوره ويحاورك. تساعدك عملية كتابة الأفكار على تنظيمها وتحليلها بشكل منطقي سليم، الأمر الذي يقلص من حدَّة تحكُّمها فيك وبحياتك، بحيث تصل إلى خطة أكثر وضوحاً وإلى مشاعر أكثر سلاماً وأماناً.

3. ابنِ مواعيدَ للتفكير:

على كل شخص أن يعرف أنَّ التفكير الزائد ليس عادة طبيعية، فقد خُلِق الإنسان لكي يسعد ويتطور، ويفكر بطريقة تفيده وتجعله أرقى وأنضج، لا أن يفكر بطريقة سلبية مؤذية، تُرهِقه وتُؤرِّقه؛ لذلك على الإنسان تحديد مواعيد محددة للتفكير، وعدم السماح لنفسه بالتفكير على مدار اليوم.

يتميَّز المبدعون بتفعيل خاصية "اللَّاشيء" في حياتهم، بحيث لا يفكرون بأيِّ شيء، ويبتعدون عن أيَّة ضغوطات، ويمارسون أنشطة يُحبُّونها كاليوغا، والتأمُّل؛ لكي تساعدهم على الاسترخاء والهدوء. وفي حال انتابت الإنسان فكرة مُلحَّة معيَّنة؛ فيستطيع تسجليها لديه وكتابتها، ومن ثمَّ تأجيل التفكير فيها إلى الوقت المخصص للتفكير.

4. اعتد القراءة قبل النوم:

تساعد القراءة على الهدوء، فلكي تنام بعمق؛ تستطيع أن تلتزم بعادة القراءة قبل النوم، بحيث تبعد عنك سيل الأفكار المعتادة التي تهاجمك قبل النوم.

إقرأ أيضاً: عادات رائعة يقوم بها الناجحون قبل النوم افعلها ولاحظ الفرق

5. سلِّم أمورك للّٰه تعالى:

لكي تصل إلى السلام الداخلي، وتبعد عنك القلق والتوتر؛ عليك أن تتعلم مهارة التسليم لله، فلن تستطيع تحمل كل أعباء الحياة لوحدك، لذا عليك أن تقوم بفعل كل ما تستطيع فعله، ومن ثمَّ تسلِّم النتائج إلى الله مع الثقة التامة بأنَّ اللّٰه حق، وأنَّ الكمال وهم، والمثالية سراب، وأنَّه لا وجود للاختيار الأمثل في الحياة؛ بل يوجد الاختيار الذي يحمل في طياته السلبي والإيجابي، حيث يسعدنا الجانب الإيجابي، ويعلِّمنا الجانب السلبي أن نكون أنضج وأوعى، وأفضل.

6. تدرَّب على القرارات السريعة:

تدرَّب على اتخاذ القرارات وبسرعة، تستطيع البدء بالقرارات الثانوية في الحياة كقرار شراء الملابس والطعام، من شأن ذلك أن يجعلك أقوى من ناحية المرونة في اتخاذ القرارات دون الحاجة إلى التفكير المبالغ فيه.

7. واجه مخاوفك:

لا تهرب من مخاوفك وتُدمِن السلوكات الإدمانية لكي تقلل من حجم الضغط النفسي لديك، وبذات الوقت لا تكن عبداً لها بحيث تسمح لها بامتصاص طاقتك وجهدك في دوامة من التفكير التي لا تنتهي.

يكمن الحل في التصدي لها، لذا واجهها واكتبها على الورق واسأل نفسك: كيف السبيل إلى تقليلها؟ وكيف تصل إلى هدفك بأقل المخاوف الممكنة؟

ستجد بعد فترة من الزمن أنَّ كلَّ مخاوفك مبالغٌ فيها، ولم تحدث مطلقاً، وستدرك أنَّك قد هدرت الكثير من الوقت والجهد على مخاوف لا وجود لها في الواقع؛ فقم بفعل ما تخاف منه لكي تكسر برمجة الهروب التي لديك من المخاوف، واسأل نفسك عن السيناريوهات المحتملة لمواجهة المخاوف في حال تحققها، وقم بقياس تكلفة عدم إقدامك على فعل الأمر بالمقارنة مع فعله؛ وستجد حينها أهمية تجاوز المخاوف والقيام بالأمر وبقوة.

إقرأ أيضاً: 15 أمراً يساعدك في التغلب على الخوف

8. كن على علمٍ تامٍّ بالمشكلة:

الخطوة الأولى لعلاج التفكير الزائد هو الوعي بالمشكلة وإدراكها، لكي يخطو الإنسان خطوات جدية في طريق العلاج؛ حيث يبدأ الوعي من الانتباه إلى البعد عن الأصل الحقيقي للحياة، أي عن المتعة والسلام والراحة النفسية.

9. لا تتسرع واستمتع بما تصنع:

تتطور الحياة على شكل مراحل؛ فلا تتسرع في الوصول إلى النتيجة؛ بل استمتع في الطريق، واحتفل بِنضجك المتدرِّج في أثناء الرحلة. يرغب المدمن على التفكير الزائد في بلوغ النتيجة فقط، ولا يأبه بالرحلة، الأمر الذي يجعله دائم القلق والتوتر والتفكير.

10. اصنع من ماضيك حاضراً أفضل:

لا تندب حظك، وتجلد ذاتك على ما فات؛ بل استفد من الماضي وتجاربه؛ إذ وجِد الماضي لكي نصنع حاضراً أفضل.

11. اسأل نفسك دائماً:

اسأل الأسئلة الصحيحة والداعمة والمُحفِّزة لك، كأن تسأل ذاتك "كيف أصل إلى السعادة؟" بدلاً من سؤالها "لماذا أنا حزين؟"؛ حيث تمنح أداة الاستفهام "كيف" مجالاً واسعاً للعقل من أجل التفكير الإيجابي البنَّاء.

12. كن منفتحاً على الحياة:

الحياة مليئة بالخيارات والفرص، فلا تكن محدود الرؤية، بحيث تحصر تفكيرك بين بديلين فقط، فتستهلك كامل طاقتك وتفكيرك وأنت تفاضل فيما بينهما، ممَّا يجعلك متوتراً وقلقاً ودائم التفكير.

كن شمولياً ووسِّع مداركك واحتفِ بالتنوع، وقارن بين البدائل العديدة وفقاً لأولوياتك الحالية، وتأكد أنَّه لا وجود للبديل الأمثل في الحياة، بل يوجد البديل الأكثر ملاءمة لقيمك وتوجهاتك في الحياة.

الخلاصة:

اعلم أنَّ الأصل في الحياة هو السَّعادة، وراحة البال، والسَّلام الداخلي، لذلك؛ لا تُعقِّد الأمور جاعلاً من تفكيرك عبئاً إضافياً على حياتك، بل اجعله المحرك الأساسي لها والصبغة الإيجابية فيها؛ حيث تستطيع أن تُحوِّل حياتك إلى جنة إن اعتمدتَ منهجيَّة التفكير الواعية والساعية إلى إيجاد الحلول لا التركيز على المشكلات، والهادفة إلى استخلاص الدروس من الماضي لبناء حاضر أفضل ومستقبل أكثر إشراقاً.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8




مقالات مرتبطة