نعمة الشدائد: سر الحياة السعيدة

المِحن والشدائد والأزمات؛ ما الذي يجول في ذهنك عند سماع هذه الكلمات؟ هل تستحضر مشاعر الخوف والقلق، وتبدأ بالتعرق، أو تتملكك الرغبة في الهرب؟ إن كنت هكذا، فأنت لست الوحيد، فمعظمنا لديه ردة الفعل الأولية نفسها، ولكن ماذا لو نظرنا إلى مصاعبنا بطريقة جديدة بدلاً من الخوف منها ومحاولة تجنبها؟ وماذا لو نرى شدائدنا بوصفها نعمة؟



واحدة من فوائد العيش طويلاً على هذه الأرض هي معرفة أنَّنا نتعلم أهم دروسنا في الحياة عندما نتعرض للمشكلات، وليس عندما نستمتع بالعيش الرغيد، فهذه اللحظات تجعلنا نتوقف وننظر إلى ذواتنا ونحاول تحسين أنفسنا ونركز على الأشياء الهامة في الحياة.

أعلم هذا، فقد تساءلت بنفسي لماذا عليَّ التعلم بالطريقة الصعبة؟ ذلك لأنَّ الطريقة الصعبة هي الأساس المتين الذي تُبنى عليه التغيرات المحورية في شخصياتنا.

على الرغم من أهمية تأثير مراقبتنا لذواتنا، فإنَّ كيفية نظرنا للمصاعب هو أيضاً أمر هام؛ فلا يؤثر تصورنا في صحتنا العقلية فحسب؛ وإنَّما في صحتنا الجسدية أيضاً. في الواقع يعتقد بعض الناس أنَّ سعادتنا مرتبطة بنظرتنا للمِحن.

أساس السعادة:

كتبت إيما سابالا (Emma Sappala)، من جامعة ستانفورد (Stanford University) "أنَّ تحمُّل الشدائد بدلاً من تقبلها جزئياً فقط، هو سر عيش حياة سعيدة وفرصة للتطور واكتساب الحكمة".

فكرة أنَّ المعاناة تقود إلى أمور جيدة هي فكرة متأصلة في الثقافة والحكمة الصينية العريقة. فقد آمنوا أنَّ الصعاب تأتي، وأنَّ للمعاناة هدفاً واحداً وهو مساعدتنا على فهم وتحسين أنفسنا؛ وبذلك ننال الفضيلة والخير. إنَّ تقبل هذا المفهوم هو أمر أساسي لتحقيق النمو الشخصي.

وتتابع سابالا بالقول: "يمكننا اختيار السماح للتجارب السيئة التي نتعرض لها بأن تحبطنا أو أن نتحملها؛ وبهذا نستطيع تجاوزها". إنَّ تقبلنا للحياة ومنظورنا للمعاناة، بالإضافة إلى كيفية تعاملنا معها هو الأهم بالمطلق.

تضيف سابالا: "من خلال فهم أنَّ حياتنا مبنية على التناقضات، نبدأ بالشعور بالامتنان ونصل إلى مستوىً أعلى من الفهم والحكمة. حينما ننظر إلى المصاعب بهذه الطريقة نحصل على راحة البال وصفاء الذهن بدلاً من تفاديها؛ فهذا أحد أعظم الدروس التي تناقلَتها الإنسانية من جيلٍ لآخر عبر آلاف السنين.

شاهد بالفديو: كيف تنعم بالسعادة في حياتك؟

النظر إلى الأمر كما يفعل الرواقيون:

لم تكن الحضارة الصينية القديمة الثقافة التقليدية الوحيدة التي اعتقدت بحتمية المعاناة؛ فقد فهم الفلاسفة الرواقيون في اليونان القديمة وروما ذلك أيضاً، كما اكتشف إسحاق ويتشولي (Isaac Wechuli) من موقع أنباوند ويزدوم (Unbounded wisdom) أهمية تحمُّل المصاعب للحفاظ على السلام الداخلي الذي هو مرادف للسعادة غالباً.

من خلال التجربة، توصل إلى تقدير الحكمة الرواقية عندما اكتشف أنَّه لا يمكن لأحد مهما حاول بقوة أن يهرب من المعاناة والمشكلات؛ إذ قال: "الشدائد هي جزء من مسيرة الحياة؛ إذ يمنحنا تقبلها السلام الداخلي؛ لأنَّنا سنتوقف عن القلق عندما نتوقع المصاعب ولن نكتئب أو نتوتر عند حدوثها".

إن راقبنا حياة الفلاسفة الرواقيين، فسوف نرى العديد من القصص التي تُظهر مقاومة كبيرة في وجه مصاعب شديدة، حين فهموا أنَّ محاولة الهروب من شدائد الحياة هي أمر فاشل، بدلاً من ذلك بحثوا في أعماقهم عن القوة الكافية للصمود في وجه الصعاب.

ركز الفلاسفة الرواقيون على عيش حياة تملؤها الفضيلة وتتماشى مع الطبيعة، فقد أيقنوا أنَّ ميزة الشخصية التي نتحلى بها دوماً ولا يمكن لأي شيء أن يجردنا منها هي الأهم، بينما الأشياء الأخرى مثل النقود والشهرة هي أمور تتلاشى ولا يمكننا السيطرة عليها، فيجب الابتعاد عنها.

يظن الطبيب النفسي دونالد روبرتسون (Donald Robertson) أنَّ للفلسفة الرواقية تأثير كبير في مجال عمله؛ إذ قرر تسليط الضوء عليها في كتابه المعنون "كيف تفكر مثل إمبراطور روماني" (How to Think Like a Roman Emperor)، فهو يبحث في تطبيق حكمة الفلسفة الرواقية وأفكار الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس (Marcus Aurelius) على المشكلات اليومية للحياة المعاصرة.

ويشير روبرتسون إلى أنَّ تأطيرنا للأمور يؤدي دوراً كبيراً بقوله: "إن كان شخص ما قلقاً خلال اجتماع، فسيقول: "كانت كلماته كالرصاص"، بينما كان بإمكانه القول: "لقد عبَّر عن معارضته لي". إنَّه أمر يظهر بوضوح خلال جلسات العلاج النفسي، فإذا قمت بوصف الموضوع نفسه بطريقة منطقية وموضوعية أكبر وأعطيته قيمةً أقل، فسيبدو أقل إزعاجاً، فالرواقيون كانوا على دراية تامة بهذه المشكلة".

هل لاحظت التأثير المختلف للجملتين فيك؟ نتعلم من الرواقيين أنَّ المؤثر الأساسي في مسيرة حياتنا ليس الحدث؛ وإنَّما ردة فعلنا تجاهه.

بالنسبة إلى الرواقي، ليست هناك أيَّة قيمة للأشياء خارج إطار خيارنا العقلاني وما تعني لنا شخصياً، فطريقة التفكير هذه تجرد الأحداث الخارجية من قوة تأثيرها فينا وتضع هذه القوة بين أيدينا، أو بالأحرى في عقولنا.

إقرأ أيضاً: 8 طرق تساعدك على إدخال السعادة في حياتك

رابط عالمي:

قد تشعر ببعض الراحة إذا علمتَ أنَّ هذه الشدائد تؤثر فينا جميعاً، فعلى ما يبدو أنَّها المعادل العام على هذه الأرض دون أن تستثني أحداً. فالأشخاص الذين حققوا نجاحاً باهراً دائماً ما يكون لديهم تجارب مع المصاعب والإخفاق؛ ذلك لأنَّ الأشياء ذات القيمة الكبيرة لا تأتي بسهولة.

على سبيل المثال: اختبر العالم توماس إديسون (Thomas Edison) عشرة آلاف محاولة فاشلة قبل أن يحقق النجاح، وعندما سأله أحد الصحفيين عن تجاربه الفاشلة أجاب "إنَّني لم أفشل 10,000 مرة ولا حتى مرة واحدة؛ بل قمت بإثبات أنَّ هذه الـ 10,000 هي طرائق فاشلة، فمن خلال إقصاء التجارب الفاشلة نستطيع إيجاد طريقة ناجعة".

إنَّ العديد من الأشخاص كانوا ليستسلموا قبل الوصول إلى 10,000 تجربة؛ إذ عَدَّ تجاربه درساً ثميناً وليس فشلاً؛ لذا استمر في المحاولة.

كذلك بالنسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل (Winston Churchill) فقد عانى ما يكفي من المصاعب؛ إذ إنَّه خسر خمس حملات انتخابية خلال مسيرته السياسية، وكان يعاني من لثغة لغوية جعلت إلقاء الخطابات أو حتى الكلام صعباً في بعض الأحيان، وعلى الرغم من هذا أصبح تشرشل من أنجح السياسيين وأعظم الخطباء الذين عرفهم العالم.

تأتي المصاعب والشدائد بأشكال عدة، فهي تخدمنا بهدفين يكونان اختباراً ودرساً حياتياً لنا. واليوم نتعايش مع جائحة كورونا التي أعقبها نتائج مدمرة، ولكن هناك العديد من الدروس لتعلُّمها.

أشارت أدريانا بانكستون (Adriana Bankston)، المحللة التشريعية الأساسية في مكتب العلاقات الحكومية الفيدرالية إلى هذا الموضوع في مقالة نُشِرَت على موقع "إنسايد هاير إيد" (Inside Higher Ed)؛ إذ كتبت "يرى الأشخاص المتفائلون كل أزمة فرصةً لتطوير أنفسهم وربما يدعمون الآخرين، فهم لاحظوا النتائج طويلة الأمد لاختيارهم هذا".

اكتشاف مكامن القوة بداخلنا:

تكشف المِحن عن مكامن عدة بداخلنا لم نكن نعلم بوجودها سواء كانت جيدة أم سيئة، فمن خلال تحفيز المصاعب لنا لاكتشاف هذه الجوانب، تساعدنا على تحسين وتطوير هذه الأمور كي تتماشى مع قيمنا العليا عبر تقوية ما ندعوه بالتطور الذاتي.

ويشير وتشولي بقوله "إبكتيتوس (Epictetus)، واحد من أشهر الفلاسفة الرواقيين كان قد كتب "من سيكون هرقل لو لم يكن هناك الأسد وهيدرا والأيل والمجرمون للتخلص منهم؟ وماذا كان ليفعل في غياب المصاعب؟ وماذا ستنفع هذين اليدين وهذه القوة الجسدية وهذه الروح النبيلة لولا الأزمات والأحداث التي تعامل معها؟".

طبعاً عندما نمرُّ في المصاعب خلال حياتنا نبحث في أعماقنا لنجد القوة ونصل إلى الحكمة. ففي الغالب، العديد من صفاتنا النبيلة ستبقى في سبات عميق ولن تحقق مستواها الأعلى إن لم نخض في التحديات؛ ذلك لأنَّ الأوقات العصيبة تعطينا فرصة لتحسين أنفسنا.

إنَّنا هنا لمواجهة مخاوفنا وأخذ فرصة للقيام بالتصرف المناسب على الرغم من كل شيء.

كتب صامويل باكستر (Samuel Baxter) في كتابه "أيام المِحن: دروس من الكساد الكبير" (Days of Adversity’: Lessons From the Great Depression) يُعرَف الأشخاص الذين عاصروا فترة الكساد الكبير بأخلاقيات عملهم ومثابرتهم وإبداعهم وشخصياتهم. ما هو سر فترة الثلاثينيات الذي أدى إلى تسمية هذه الجماعة بـ "الجيل العظيم" لاحقاً؟".

كما تضيف أليسون إنساين (Alison Ensign) إلى الحديث بقولها ربما بسبب المصاعب التي تحملوها، امتلك هذا الجيل قوة وإرادة لم توجد لدى الأجيال الأخرى. وتشير إلى أنَّهم يظهرون العديد من الصفات المبهرة كالحس العالي بالمسؤولية الشخصية والتواضع والأخلاق المهنية العالية والالتزام والنزاهة والتضحية من أجل الآخر، وهي جميعها صفات لشخصية ذات أخلاق عالية.

ربما المصاعب أمر مفيد لنا؛ فمن خلال مواجهة مخاوفنا وآلامنا بدلاً من السعي خلف الراحة والرخاء سنتعلم ونتطور. في الواقع، إنَّ العقبات التي تعترض سبيلنا هي الطريق لعدم السماح لأي شيء خارجي بالسيطرة علينا.

إقرأ أيضاً: 8 طرق لتتجاوز ضغوطات الحياة ومشاكلها بسلام

تقبُّل المصاعب:

عند مواجهة المصاعب، علينا التصرف كما تتصرف الطبيعة. حتى في أوقات المِحن عندما يبدو كل شيء ضائعاً ومدمراً، تتفتح البراعم من بقايا الغابة المحترقة. الحياة تستمر، فالطبيعة لا تتوقف عن المضي قدماً في وجه الكوارث، كما علينا أن نفعل تماماً؛ ذلك لأنَّ الطبيعة تعلمنا التحمل والثبات حتى عندما نفقد الأمل.

سنتعلم عند تقبل ما تعطينا الحياة في الواقع دون مقاومته الدرس الذي يحمله، فالمصاعب لا تحصل دون سبب؛ إذ تقدم لنا نعمة وفرصة لتحسين أنفسنا.

تقبل المصاعب

يقول جورج بايلي (George Bailey) في كتاب "إنَّها لحياة رائعة" (It’s a Wonderful Life)، قد نظن أنَّ مصاعبنا هي أكثر من أن نتحملها، وقد نشعر باليأس في بعض الأحيان، ولكن إذا تراجعنا خطوة للخلف سنجد أنَّ مشكلاتنا أسهل مما شعرنا.

كما فهم الفيلسوف الرواقي الروماني سينيكا (Seneca) "أنَّ الحجر الكريم لا يصقل من دون احتكاك، كذلك المرء لا يكتمل من دون مِحن".

مهما كنت تشعر بالسوء الآن فإنَّ هذا لن يدوم للأبد، وحينما ننظر إلى الوراء ستخسر هذه المصاعب مرارتها. تذكر هذا شيء هام، فدماغنا قادر على جعل الأمور تبدو أسوأ مما هي عليه؛ ذلك لأنَّنا تجاوزنا الأوقات العصيبة سابقاً ونستطيع فعل هذا مجدداً.

لدينا جميعنا حرية الاختيار؛ إذ يمكننا النظر إلى المصاعب على أنَّها إخفاق وقلة حظ، أو رؤيتها فرصاً تزيد من ثباتنا وتحمُّلنا وعطفنا وشجاعتنا ومقاومتنا وصبرنا ومسامحتنا وقدرتنا على التضحية.

في حين أنَّ المصاعب تقدم لنا الفرصة الأكبر لتطوير شخصيتنا، فهناك الكثير من الأشياء الجيدة لاكتسابها والعديد من الأمور السلبية لتركها، فأي طريق نقوم باختياره هو أمر عائد لنا كلياً.

المصدر




مقالات مرتبطة