من أهم الدروس المستفادة من مدرسة الصوم: تحقيق معنى التقوى

لا ينبغي لعاقل أن يمر عليه شهر رمضان دون أن يستفيد منه ويتعلّم ويتقدّم نحو الخير والصلاح، فهذا الشهر ليس كغيره من شهور السنة يمر مروراً دون أن ندري أو نعقل أو نفهم، ويصعب في هذه العجالة أن نلم بجميع ما في هذا الشهر الكريم من دروس وعبر وعظات، وإنّما سأركّز على أهم تلك الدروس في هذه المدرسة العريقة، وبخاصة منها التي لها الأثر الأكبر في حياة الفرد والجماعة.



إنّ أمّتنا اليوم بأمس الحاجة إلى وصلها بأصل نشأتها، بتلك المدرسة التي ربَّى عليها رسول الله صحابته وأمّته، وسار على هذه الأسس سلف هذه الأمة من بعده.

إنّ هذه الدروس والميادين التربوية التي سأذكرها حَرِيَّةٌ بأن نتدبّرها ونتأمّلها، ونعمل بما فيها، لننقل أمّتنا من واقعها المرير إلى الواقع التي هي جديرة به، خير أمة أخرجت للناس. 

ومن تلك الأسس والدروس والعبر: (تحقيق معنى التقوى)

لأنّ التقوى هي المقصد الأسمى والبغية العظمى من وراء فرضية الصوم، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنه: ما هي التقوى؟ قال أبيّ: يا أمير المؤمنين، أمَا سلكت طريقاً ذات شوك؟ قال: بلى. قال: فماذا صنعت؟ قال: شمرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى.

إقرأ أيضاً: التقوى في شهر رمضان المبارك

فإذا كان أمير المؤمنين، الفاروق، المشهود له بالجنة رضي الله عنه، يسأل عن معنى التقوى ويحرص على تحقيقها، فما بالنا تقاعسنا وتناسينا أو انشغلنا بصغار المسائل ولم نحقّق بعد كبارها وأهمها وأعظمها!

إذاً فالأمر يتطلّب منّا أن نتداركه ونقف أمام أنفسنا وقفات لنرى أين نحن من هذا الدرس العظيم.. تقوى الله عز وجل، بفعل ما يحب ويرضى وتجنّب سخطه.

وقد سُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن معنى التقوى، فقال: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

وصدق القائل:

خـلِّ الذنـوب صغيرها *** وكبيرهـا هذا التقى

واصنع كماش فوق أرض  *** الشوك يحذر ما يرى

لا تحـقـرن صغيـرة *** إن الجبال من الحصى

ولو وقفنا عند مَعْلَمٍ واحد من المَعَالِم التي فسّر بها علي بن أبي طالب معنى التقوى، ألّا وهو القناعة بالقليل، ونسأل أنفسنا: هل نحن نقنع بالكثير فضلاً عن القليل؟ ومتى نقنع بالقليل ونحقّق بعض معالم التقوى الهدف الأسمى من أهداف الصيام؟

إقرأ أيضاً: كيف تقوّي إيمانك بالله سبحانه وتعالى

ثبت أنّ بعض البيوت تنفق في شهر رمضان على الأطعمة والأشربة ما تنفقه في أربعة أشهر، فتحوّل شهر الصيام والإمساك إلى شهر التبذير والإسراف والجري وراء شهوات النفس وملذاتها، وأصبحنا أمة مستهلكة متخمة، ثم بعد ذلك نرى بعض الناس يسعون لإزالة التخمة و السمنة عن أجسادهم وأطفال المسلمين ونسائهم وشيوخهم يموتون جوعاً، وما حال الصومال منّا ببعيد!

فهل نحن صمنا الصيام الشرعي الذي أراده الله ليتحقق وعد الله تبارك وتعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. فليس المقصود من الصيام الإمساك عن الطعام والشراب والجماع فقط.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ".

إذاً التقوى تتمثّل في القيام بين يدي الله متذللاً خاشعاً متبتلاً إيماناً واحتساباً، وكذلك الصيام إيماناً واحتساباً يؤدّي إلى بلوغ منازل المتقين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ"، وقال أيضاً: "رُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامِهِ السَّهرُ وصائمٍ حظُّه من صيامهِ الجوعُ والعطشُ".

إذاً الصيام الشرعي غير مقتصر على تجنّب الطعامِ والشرابِ والجماع، بل لابدّ من إمساك الجوارح عن اقتراف الآثام والذنوب والمعاصي، ولابدّ من الإيمان والاحتساب، اللذين هما من أهم علامات التقوى.

قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: "كلُّ عَملِ ابنِ آدمَ لَهُ إلَّا الصِّيامَ هوَ لي وأَنا أجزي بِهِ، الصِّيامُ جُنَّةٌ، فإذا كانَ يومُ صومِ أحدِكُم فلا يرفُثْ، ولا يصخَبْ، فإن شاتمَهُ أحدٌ أو قاتلَهُ، فليقل: إنِّي امرؤٌ صائمٌ"

إقرأ أيضاً: 7 نصائح لتقوِّي صلتك بالله سبحانه وتعالى

وهناك جملة من الأسئلة تفرض نفسها:

  • هل الذي ينام النهار ويفوّت بعض الصلوات يحقّق معنى التقوى؟
  • هل الذي يسهر الليل على ما حرّم الله، يبحث عن التقوى؟
  • الذي جعل رمضان موسماً للتبذير والإسراف، هل يريد أن يصل إلى التقوى؟
  • هل الذي لا يعرف عن رمضان إلّا الإمساك الحسي عن الأكل والشرب من أول النهار إلى آخره مع إفطاره على غيره قد عرف معنى التقوى؟
  • هل الذي حسنت حاله وعبادته في رمضان، ثم عاد في شوال إلى ما كان عليه في شعبان قد حقّق معنى التقوى؟

إنّ التقوى ليست مجرد دعوى، أو أمنية مجردة عن الواقع، وإنّما هي حقيقة لابدّ أن تظهر آثارها على الجوارح، بعد رسوخها في القلب، كما كان إمام المتقين الذي قال: "التقوى ها هنا وأشار إلى القلبِ"، وكما قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].

نسأل الله أن يرزقنا من الخشية ما يحول بيننا وبين معاصيه، ومن العمل ما يبلغنا به جنته، والحمد لله رب العالمين.




مقالات مرتبطة