وذلك لأنَّها تعمل على نسف ثقافة العيش المشترك، ومؤخراً ظهرت منها أشكال جديدة أدَّت إلى الانقسامات الواضحة حتى في الثقافة الواحدة؛ الأمر الذي يدفع بنا إلى بذل المزيد من الجهد في التعمُّق بمفهوم هذه المشكلة وأبعادها المختلفة وتحديد أسبابها لنستطيع يداً بيد الوقوف في وجهها وعلاجها.
مفهوم التطرف الفكري:
التطرف عامةً هو مصطلح يشير إلى كل ما هو بعيد عن الاعتدال، زيادةً أو نقصاناً، إفراطاً أو تفريطاً، ويختلف هذا المفهوم بين مجتمع وآخر فهو مفهوم نسبي؛ وذلك بسبب اختلاف القيم والعادات والثقافة السائدة بشكل عام؛ لذا قد نجد تعدداً واضحاً في مفاهيم التطرف إلى درجة أصبح من الصَّعب تحديد أبعادها وأطرها بشكل واضح أو حتى إطلاق تعميمات بخصوصها؛ إذ إنَّ ما يراه مجتمع ما سلوكاً متطرفاً قد يكون هو السلوك المقبول والسائد في مجتمع آخر، وكذلك الأمر فإنَّ مفهوم التطرف يختلف باختلاف الزمان فالأمر غير المقبول فيما مضى أصبح اليوم ثقافة سائدة.
لقد استُخدِم مفهوم التطرف الفكري للإشارة إلى الخروج عن القاعدة الفكرية والقيم والمعايير السائدة في مجتمع ما وزمان محدد وتبنِّي أفكار ومواقف معيَّنة مُخالفة له ويُدافع عنها بشراسة، وقد يصل إلى درجة العنف وممارسة الأعمال الإرهابية سواء بشكل فردي أو جماعي؛ وذلك بهدف تطبيع المجتمع بهذه الأفكار وتطبيقها بالقوة.
الإنسان المتطرف لديه رؤية أحادية الجانب ويرى أنَّه من الواجب إلغاء ومحاربة أيَّة رؤية مختلفة عنه أو تتعارض معه، فهو غير مستعد للتنازل عن أفكاره التي يحملها أو حتى مناقشة الآخرين بحقيقة تلك الأفكار ومصداقيتها.
لقد حاول المفكرون تعريف مفهوم التطرف الفكري، ومن هذه التعريفات:
- د. محمد النصر الحسن: "تجاوز حدود الاعتدال والوسطية في الفكر الإنساني الذي قد يترتب عليه سلوكات ضارة بالفرد والمجتمع في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يعيشها صاحب هذا الفكر المتطرف".
- د. راشد المبارك: "الشطط في فهم مذهب أو معتقد أو فلسفة أو فكر، والغلوُّ في التُّعصب لذلك الفهم، وتحويله إلى حاكم لسلوك الفرد أو الجماعة التي تتصف به، والاندفاع إلى محاولة فرض هذا الفهم والتوجُّه على الآخر بكل الوسائل ومنها العنف والإكراه".
إذاً يمكن القول إنَّ التطرف الفكري هو الذهاب إلى الحد الأقصى في الفكرة والتمسك بها، وهذه الفكرة قد تكون دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فنية أو أدبية، وينطلق التطرف من تنزيه الذات الإنسانية ونظرة عدائية تجاه الآخر.
شاهد بالفديو: 7 عادات سيئة تنفر الآخرين منك
ما هي أسباب التطرف الفكري؟
1. أسباب دينية:
يرى بعض الأشخاص أنَّ كل شخص مخالف لدينه هو شخص غير مقبول، ويجتهد كل منهم ويقدم التفسيرات في القضايا الدينية ومحاسبة الآخرين وفرض رأيهم وفقاً لتك التفسيرات الخاصة بهم وتكفيرهم في غالب الأحيان.
2. أسباب اجتماعية:
مثل شعور الفرد بالظلم في مجتمعه، والتَّسرب من التعليم بشكل عام والذي يقود إلى الفراغ، وكذلك البطالة والفقر أو الحالة المعاكسة أي الثراء الفاحش وحالات الفراغ التي تحدث بسببها والتي تدفع الفرد إلى القيام بتجارب جديدة بقصد التغيير وملء الوقت.
3. أسباب سياسية:
الحرمان من الحقوق والحريات السياسية والمدنية، والاحتلال من قِبل دولة أخرى، أو الاعتقاد السائد لدى بعض المجتمعات بتهميشها وعدم دعمها واحتقارها من قِبل مجتمع آخر، وكذلك عدم احترام الاتِّفاقيات الدولية والنكث بالمواثيق الدولية مثل حقوق الإنسان، وعدم استجابة الحكومات إلى المطالب الشعبية ولا سيما مطالب الإصلاح والمساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد الشعب وتحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي لهم، وتهميش جماعات معينة من الشعب وحرمانهم من ممارسة حرياتهم ونيل حقوقهم أو ممارسة الحكومات لسياسات الإقصاء والقمع بحق الأقليات وغيرها.
4. أسباب اقتصادية:
تؤدي العوامل الاقتصادية دوراً كبيراً في التطرف الفكري؛ إذ إنَّ الاقتصاديين غالباً ما يردون التطرف إلى تدني المستوى المعيشة للفرد والحالة الاقتصادية في المجتمع التي تميل إلى الفقر غالباً تقود إلى القلق والتطرف الفكري.
5. التعليم:
يُعَدُّ التعليم حالياً من أهم دعائم بناء المجتمعات وخاصة إذا كان يتبع الأساليب العلمية والأدوات الإبداعية في التفكير التي تقوم على التحليل والنقد، وإشراك الطالب في العملية التعليمية، وتبادل الآراء والأفكار مع غيره، وجعله يتأقلم على فكرة وجود آراء أخرى تعارض رأيه، ومن ثم تعليمه سلوك الانفتاح على الآخرين، لكن قد تغيب هذه الأساليب عن بعض المجتمعات وهذا يعني إنتاج أجيال تخضع إلى إملاءات الآخرين.
6. أسباب نفسية:
تتعدد الأسباب النفسية ويمكن أن نذكر على سبيل الذكر لا الحصر الإحباط، فالفرد المُصاب بالإحباط هو الأكثر قدرة على الانخراط في الجماعات المتطرفة وتبنِّي معتقداتها؛ بل يكون الأكثر إخلاصاً من غيره؛ وذلك بسبب خوفه من إلقاء اللوم عليه فيما إذا فشل المشروع، فالأفراد المحبطون يتبعون معتقدات غيرهم ليس بسبب إيمانهم بتلك المعتقدات؛ بل لأنَّ ذلك يجعلهم بعيدين عن أنفسهم وما يحيط بها من مشكلات، كما توجد أسباب نفسية أخرى مثل سيطرة الذات الدنيا "النفس الأمَّارة بالسوء" على الفرد؛ إذ يتصرف الفرد وفق إرادة الآخرين الذين يرى فيهم رمزاً للقوة والسلطة.
7. الإعلام:
أدى مؤخراً الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة دوراً كبيراً في ظهور وتغذية التطرف والتحريض عليه؛ إذ ظهرت القنوات التلفزيونية التي تروِّج إلى الأفكار والجماعات المتطرفة والإرهابية منها، كما تغنَّت بها وشجعت على القيام بالأعمال الإرهابية ضد الحكومات بوصف ذلك العمل إرضاء لله، وكذلك أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي مثل (Facebook) و(YouTube) و(Whatsapp) الفرصة للجماعات المتطرفة والإرهابية لبث محتوياتها وغزو العقول وتأمين الدعم لها.
8. أسباب خاصة بالفرد نفسه:
مثل ضعف الضبط الانفعالي، والافتقار إلى مهارات التفكير الناقد، وعدم الفهم الصحيح للذات، وضعف ارتباط الفرد بأسرته ومجتمعه، وغياب التنشئة الأُسرية الصحيحة، وعدم وجود مصادر موثوقة للمعلومات الدينية، والقصور في أساليب التربية والتعليم وغيرها.
كيف يمكن علاج ومكافحة التطرف الفكري؟
- العمل على وضع استراتيجية واضحة داخل المجتمع لمكافحة التطرف والإرهاب وإصدار القوانين الكفيلة بذلك.
- الارتقاء بطريقة تفكير الفرد عبر تدريبه وتعليمه وتنويع خبراته وتشجيعه على تحليل تلك الخبرات.
- تعليم الفرد أساليب البحث الصحيح لكي يستطيع الحصول على المعلومات الصحيحة وعدم تبنِّي أيَّة فكرة يجدها، وحثه على البحث عن أصل المسائل ولا سيما الدينية منها.
- مناقشة القضايا المحورية في المجتمع عبر الحوار من خلال عقد الاجتماعات واللقاءات بين جميع الأطراف الموجودة في المجتمع.
- استخدام وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في نشر الوعي الثقافي والفكر الديني السليم.
- العمل على إصلاح الأفراد الذين وقعوا ضحية للتطرف، والعمل على إعادة دمجهم في المجتمع.
- تحليل الأسباب في نشأة الجماعات المتطرفة للوقوف عليها ومعالجتها، وإصدار النشرات الدورية التي توضح سلبيات التطرف وتدعو إلى مكافحته حفاظاً على استقرار المجتمع وسلامته.
- الاهتمام بالمناهج التعليمية وتدريب عقول الأفراد على مهارات التفكير التحليلي وعلى تقبُّل الآراء المختلفة ومكافحة التطرف بكافة أشكاله.
- العمل على تخفيض مسببات التطرف والعنف من خلال إصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع.
- الاهتمام بالشباب وقضاياه ورعاية طموحاته ومحاولة توظيف إمكاناتهم بالشكل الصحيح في بناء المجتمع، وتقوية مناعتهم الفكرية وقدراتهم العقلية للتمييز بين ما هو صواب وما هو خطأ، ومن ثم تجنُّب الوصول إلى التطرف.
- تطوير البنية التحتية للمؤسسات الحكومية المعنية بالتصدي إلى التطرف ومكافحته.
- يجب علينا تفكيك خطابات التطرف التكفيرية؛ وذلك من خلال نشر الوعي الثقافي والدعوة إلى التحلي بالإيمان والصبر والحكمة.
- الاهتمام بالقيم الإنسانية والإعلاء من شأنها ولا سيما كرامة الإنسان وحريته ورفع الظلم عنه والعمل على تحقيق سعادته ورفاهيته التي تجعل منه إنساناً نافعاً لمجتمعه.
- تعزيز التعاون بين المؤسسات الحكومية والأهلية لمواجهة خطر التطرف والعنف والإرهاب.
الخلاصة:
يرتبط التطرف بالتعصب الأعمى لفكرة ما، ويمثل حالة من الانغلاق الفكري بيد أنَّ هذا التطرف ليس وليد اللحظة بل له جذوره الممتدة في التاريخ؛ إذ له أسبابه وتداعياته، ومعرفة السبب مهمة جداً لإيجاد العلاج، فالتشخيص الصحيح هو بداية العلاج الناجح.
المصادر:
- راشد المبارك، التطرف خبز عالمي، دمشق، دار القلم، الطبعة الأولى، 2006.
- جميل أبو العباس زكير الريان، المتطرفون (التطرف الفكري نشأته وأسبابه وآثاره وطرق علاجه)، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين، ألمانيا.
- رمضان عبد الحميد محمد الطنطاوي، أسباب ظاهرة التطرف لدى طلاب الجامعة وأساليب الحد منها من وجهة نظرهم، جامعة دمياط، مصر.
- حمزة المعايطة، الإرهاب والتطرف الفكري (المفهوم، الدافع، سبل المواجهة)، قطر.
أضف تعليقاً