كيف يمكننا أن نتخيَّل شاباً من المفترض أن يكون الآن في مدرَّج جامعته يتلقَّى محاضراته ويدوِّن الملاحظات، أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى أداة للقتل والتخريب وإراقة الدماء، وهو الذي ينبغي عليه مع أقرانه أن يكونوا القاعدة الأساسية التي ينطلق منها المجتمع للتقدُّم والازدهار والبناء.
في هذا المقال لن نقوم بالتطرُّق إلى هذه الظاهرة الخطيرة من الناحية الأخلاقية أو القانونية أو الشرعية أو الدينية؛ بل سنحاول فهمها سيكولوجياً على أنَّها لغز علمي ونفسي نحاول فك شيفراته؛ لذا تابعوا معنا:
1. خلفيات الطاعة العمياء:
يبدو أنَّ تفسير مثل هذا التحول، يكمن في فهم سيكولوجيا الخضوع والطاعة، وكيف من الممكن أن يتحول إلى خضوع أعمى، لا يرى خبراء علم النفس أنَّ الطاعة سلوك شرير أو خيِّرٌ؛ بل يعدُّونه آلية نفسية تكيفية مع الظروف الخارجية المحيطة بهم، تساعد على ظهورها بيئة داخلية مُهيَّئة في جهاز الإنسان النفسي.
ربما تعود أصولها إلى ندوب من مرحلة الطفولة المبكرة والتي تُعَدُّ أكثر مرحلة حساسة من الناحية النفسية، أو من الممكن أن تُهيَّأ لها بيئة أسرية غير متوازنة من خلافات بين الأبوين وعدم استقرار وشجارات متواصلة، أو تعرُّض الطفل للتعنيف الجسدي أو اللفظي أو المعنوي، وكذلك إحساس الإنسان بالغبن أو الظلم تجاه أبويه أو إخوته أو أساتذته، أو تجاه مسار حياته عموماً، كل هذه الأمور وغيرها تشكِّل عوامل محبوسة داخل وجدان الإنسان، تأتي العوامل الخارجية لتحررها وتخرجها إلى حيز الواقع.
حسب آراء علماء النفس، فإنَّ السمة المميزة للشخصية الإجرامية هي الفشل في الالتزام بالنظم والقوانين من أجل إرضاء الرغبات الشخصية الأنانية، لكن من جهة أخرى فإنَّ سلوك الطاعة المفرِطة أو المطلقة قد ينتج عنه الكثير من الكوارث الأخلاقية؛ حيث إنَّ نسبة كبيرة من الدمار والعنف والقتل والذبح، قد تتحمل مسؤوليته فكرة الطاعة العمياء.
2. الطاعة ضرورية ومطلوبة ولكن:
إنَّ طاعة الطفل الصغير لأبيه وأمه أمرٌ ممتازٌ دون أدنى شك؛ حيث تُصرَف الكثير من الأموال والجهود لبناء المؤسسات التعليمية من روضات ومدارس ومعاهد وجامعات، كلها من أجل تعليم وتدريب الأطفال على الطاعة والالتزام بالقوانين والإرشادات، وهذه أمور ضرورية وأساسية جداً لإخراج أفراد منتجين وفاعلين في المجتمع، قادرين على التكيُّف والتأقلم مع نظام وقوانين المؤسسات المختلفة التي سيعملون من خلالها على تقديم أشياء جديدة تساهم في إعمار الأرض.
وبطبيعة الحال، فإنَّ الحياة الإنسانية لا يمكن أن تستمر بشكلها الحالي، إلَّا بوجود أفراد قادرين على الالتزام بالقوانين والأنظمة المختلفة وطاعتها، التي تساعد الإنسان على الاندماج في مجتمعه عبر التماهي مع العادات والتقاليد الاجتماعية المختلفة.
يتسم سلوك الطاعة والخضوع بالعقلانية في أغلب الحالات، فهو الذي يبرمجنا على الامتثال لنصائح أو إرشادات الطبيب ونواهيه، وهو بذلك يساهم في الحفاظ على صحتنا واستمرارية حياتنا، وكذلك يدفعنا إلى الالتزام بإشارات المرور من أجل تفادي الاصطدام، والامتثال لأوامر القوات الأمنية عند طلبها إخلاء مبنى معيَّناً لاشتباهها بوجود عبوة ناسفة، ومن جهة أخرى، يجب أن ننوِّه أنَّه في بعض الحالات من الممكن أن يترسَّخ الخضوع في ذهن الإنسان ويتوسع إلى حد لا يترك مكاناً للعقلانية.
3. الطاعة من صفات البلوغ والرشد:
بالنسبة إلى الإنسان البالغ الراشد، فإنَّ لديه قابلية ناضجة لتقبُّل الأوامر التي تأمر بها السلطة؛ وذلك لأنَّه يعلم أنَّ النظام أفضل بكثير من الفوضى، وغالباً ما تتحول الطاعة للسلطة أو الدولة أو النظام العام إلى فكرة أو إشارة ذهنية.
على سبيل المثال: الفرد عندما يقف أمام إشارة المرور الحمراء، دون وجود الشرطي؛ فذلك لأنَّ إشارة المرور أصبحت تمثِّل الشرطي وتنوب عنه، والذي بدوره يمثِّل السلطة الحاكمة لتطبيق قوانين السير.
ولا تقتصر الطاعة على الإنسان فقط؛ بل تتجاوزه لتشمل بقية الكائنات الحية مثل جماعات الفيلة والنحل والنمل التي تتسم بالتنظيم؛ حيث تتوزع المهام فيما بينها بشكل يشابه أو يقارب المجتمعات البشرية، ولكن تتميز الطاعة عند البشر، بامتثالهم للإشارات مثل الرُّتب والألقاب والشعارات والهويات، والأوراق الرسمية، بصفتها تطبيقاً عملياً للسلطة يستخدم رواسب الطاعة التي ترسخت في عقل الفرد؛ وبذلك إنَّ هذا التفاعل بين السلطة والفرد يعود بالفائدة والنفع على الطرفين، في أغلب الحالات.
4. أهم تجليات الطاعة العمياء:
إنَّ الاعتراف والقبول الذي وصل إليه الشعب الألماني، بخصوص معسكرات ومعتقلات الموت التي أقامتها النازية، وأبادت فيها الملايين من النساء والأطفال والشيوخ، قد أثار فكرة دراسة الطاعة العمياء، وكيف أنَّ الإنسان يستطيع القيام بأفظع الجرائم وأقبحها دون أن يرفَّ له جفن؛ وذلك بسبب اقتناعه أنَّ ليس له ذنب في القتل فهو مجرد عبد وخادم ومنفِّذ للأوامر السلطوية العليا، والتي ستقتله حتماً إذا فكَّر في مخالفة الأوامر.
لقد كان موقف الألمان تجاه هذه الإبادات الشنيعة أنَّهم كانوا مجرد منفذين للأوامر، حالهم في ذلك حال "هانا شميت" في رواية "القارئ" التي نفت مسؤوليتها عن وفاة السجينات داخل الكنيسة التي نشب بها الحريق، مؤكِّدة أنَّ ما فعلَته كان تنفيذاً للأوامر والقوانين الناظمة لعملها، ولو هربت السجينات لكانت هي مَن ستتلقى عقوبة الإعدام. من هنا نستطيع أن نستنتج أنَّ الإنسان مدرَّب فطرياً على الطاعة وتنفيذ الأوامر، والامتثال للسلطة العليا، قبل أي شيء آخر.
5. الطاعة والتعرُّض المحض:
يقول خبراء علم النفس إنَّه من الممكن أن تكون سيكولوجيا الطاعة وليدةَ البيئة المحيطة السائدة، فإذا كان الأب والأم والأصدقاء مطيعين، فإنَّنا باللاوعي أو باللاشعور سنصبح مطيعين للأوامر؛ وبذلك يلمِّح العلماء إلى فرضية التعرُّض المحض؛ أي إنَّنا نختار الطاعة لمجرد أن نكون عرضة لها. فالعيش في أيَّة بيئة أو وسط أو مجتمع أو ثقافة، سيجعلك بالضرورة تأخذ صفاته وعاداته وطباعه، فالإنسان كائن مقلِّد، ويرتاح نفسياً من خلال التماهي.
6. رقابة الجماهير وفرض ناعم للطاعة:
إنَّ وجودنا في استديوهات التصوير على سبيل المثال، بينما تكون الكاميرات موجَّهة إلينا، يجعلنا حذرين بأن نتَّبع جميع القواعد؛ وذلك لأنَّنا نخاف أن نخالف حين نكون محط أنظار الآخرين، وهذا ما يدفعنا للقول إنَّه في بعض الحالات قد لا تكون الطاعة موضوعاً سيكولوجياً؛ بل خوفاً من رؤية الناس لنا نخالف العادة أو العُرف السائد.
وإنَّ وجودنا محطَّ أنظار مَن حولنا يجعلنا مرتبكين بصورة عامة، حول مظهرنا أو طريقة وقوفنا أو أسلوب كلامنا أو تسريحة الشعر وغيرها من الأمور التي لا نأبه بها حين نكون في الظلمة، فالضوء نور ولكنَّه قيود وسلاسل، ويجعل من أي خطأ بسيط، حدثاً كبيراً يسترعي اهتمام الجميع.
7. الانضمام للأمر الواقع تجلٍّ للطاعة:
ترتكز هذه الفرضية على أنَّ البشر ميَّالون إلى الخضوع للظروف الراهنة وللأمر الواقع، ويبدون نوعاً من الكسل فيما يتعلق بتغيير الظروف والقواعد، فهو يشبه الشخص الذي يبقى يرتاد المقهى نفسه ويتناول فيه الشراب نفسه، أو الشخص الذي لا يشتري ثيابه إلَّا من محل بيع محدد في كل مرة؛ وذلك لأنَّه يخاف من الندم وهو ما يسمِّيه علماء النفس، النفور من الخسارة، كي لا نخسر الأنظمة والقواعد التي أَسَّست لنا تلك البيئة المريحة والمضمونة.
8. الطاعة بالإكراه:
إنَّ الإنسان بطبعه ميَّالٌ لأن يتجنَّب مواقفَ التوبيخ، وأكثر ما يخافه أن يخسر مصدر سعادته أو رفاهيته أو متعته، فإن لم يطع رئيسه في العمل فقد يعرِّضه ذلك للتوبيخ أو فقدان الوظيفة التي توفر له احتياجاته واحتياجات أولاده، والعنصر النفسي هنا، هو الخوف من العقاب.
وعلى نحو مشابه يمكننا أن نشرح أيضاً قوة المكافأة في جعل الفرد يركض خلف الطاعة، وقد تكون هذه المكافأة مادية أو معنوية أو استراحة أو تكريماً أو مديحاً، ويؤكد خبراء علم النفس أنَّ فاعلية المكافأة أكبر بكثير من فاعلية العقاب في جعل الفرد ينساق وراء الطاعة.
في الختام
على الرغم من المشكلات التي يُحدِثها امتلاك بعض الأشخاص للسلطة أو القوة؛ إلَّا أنَّنا لا نستطيع أن ننكر عجزنا عن إقامة أي مجتمع إنساني دون وجود بنية سلطوية تحكم الناس، وتضبط فطرتهم وغريزتهم، حين لا تكون الأخلاق كافية؛ لذا لا بدَّ من القوانين التي تُطبَّق على الجميع.
وقد بيَّنَّا في هذا المقال وجود الكثير من المجرمين الذين قتلوا أو تسببوا في قتل الأبرياء؛ وذلك لأنَّهم غير قادرين على عصيان الأوامر، ولأنَّهم يُخلُون مسؤوليتهم تجاه هذه الأفعال، ويبرر لهم أسيادهم أو يبررون لأنفسهم أنَّهم مجرد أداة لا أكثر ولا أقل، وأنَّ الذنب كله يقع على عاتق صاحب القرار، وإنَّ تدجين الإنسان ليفكِّر بهذه الطريقة، هو فكرة خطيرة جداً وبالغة الأهمية يجب دراستها بشكل عملي ومنهجي دقيق، ومحاولة الوصول إلى استنتاجات قد تقودنا يوماً ما إلى حلول.
أضف تعليقاً