ما علامات تأثير الماضي علينا؟ وكيف نتصالح مع الماضي السلبي؟

لطالما نصادف أولئك الغارقون في دنيا الماضي، الرَّافضون الخروج منه، والمتشبِّثون بتجاربه المؤلمة، والمحتجُّون بعنف على محاولاتك الصَّادقة الرَّامية إلى مساعدتهم في رؤية الأمور من منظورها الحقيقي، والرَّافضون تماماً رغبتك الصَّادقة في إحداث التغيير الضروري لهم.



نعم إنَّهم مستمتعون في تبنِّي دور الضَّحية بطريقة مطلقة، فلا يريدون أن يقتنعوا أنَّ هنالك أبواب جديدة في الحياة لم يطرقوها بعد، ولا يرغبون في تصديق أنَّ الحياة كريمة جداً ومفاجئة جداً وقادرة على قلب الأمور رأساً على عقب، ولا يرغبون في استخلاص الدروس من الماضي الأليم الذي عاشوه، ولا يعقدون النِّية على تفكيك الألم عن الحدث الماضي، ومواجهة الحدث كما هو بصفاء بدون حكاية، وإفساح المجال لذلك الجانب الإبداعي الرَّباني الَّذي فينا لكي يظهر على الوجود، ويطهِّر كل الرواسب السَّلبيَّة.

يستسلم أغلب البشر إلى أحداث ماضية سلبيَّة كانوا قد اختبروها خلال سنوات حياتهم، ويحتفظون بردة فعلهم ومشاعرهم المؤلمة في لحظة حدوث الحدث في الماضي، ويحملونها معهم إلى الحاضر، ويسقطونها على كامل خططهم المستقبليَّة، ممَّا يجعلهم أسرى الماضي بامتياز، وغير قادرين على المضي قدماً في حاضرهم ومستقبلهم.

عندما لا تملك القدرة على توظيف ماضيك بما يخدم حاضرك، وتتعلَّق في قصَّة الماضي، عازماً على إيجاد الحياة من منظورها وحدها، متخيِّلاً نهاية تراجيديَّة مبنيَّة على تجارب قديمة مؤلمة، وعندما لا تعي وقوعك في مصيدة التفسير الخاطئ للأمور، وتعطي التجربة السَّابقة أحقيَّة السيطرة على جانبك الإبداعي الخلَّاق؛ عندها ستفقد متعة الحياة ورونقها، وستشعر أنَّك ريشة في مهب الرِّيح، حيث لا أهداف تُشبِع روحك، ولا أحلام تُجمِّل واقعك.

هل أنت أسير الماضي؟ إذاً ابقَ معنا خلال هذا المقال، لنسافر سويَّاً بحيث نصل إلى الحريَّة الَّتي تستحق.

هل الماضي حقيقة؟

  • يعتقد أغلب البشر أنَّ الماضي حقيقة، فلطالما نسمع جملة "وكأنَّني الآن أعيش الموقف، وكأنَّه لم يمضِ عليه عشر سنوات". يحترف أغلب البشر العيش في الماضي، ويجدون متعتهم في البكاء على الأطلال، وفي جلد ذواتهم من أجل فرصة عمل لم يستثمروها، أو من أجل علاقة لم يكملوها، أو من أجل مبلغ من المال خسروه، ويبقون هكذا إلى أن يفقدوا شغف الحياة ومتعتها.
  • لا يعي أغلب البشر أنَّ الماضي قد انتهى تماماً، وأنَّهم عندما يسترجعون الماضي فإنَّهم لا يسترجعون إلَّا أفكارهم حوله، إذاً الماضي ما هو إلَّا وهم، ولا نملك في الحقيقة إلَّا لحظتنا.
  • الماضي إذاً مجموعة أفكار مشحونة بعواطف نحملها معنا على مدار سنين حياتنا، فيحمل أغلب البشر الكثير من التجارب السَّامة الماضية والمشاعر الحزينة على مدار سنين حياتهم، ويقومون بربطها مع حاضرهم، متصوِّرين أنَّ الحاضر ما هو إلَّا امتداد الماضي، ضاربين بعرض الحائط كل قوتهم الذَّاتية، ومهاراتهم القويَّة، وقدرتهم على التطور والنمو والاستفادة من التجارب السَّابقة.
  • يتغيَّر تأثير الماضي عليك بتغيُّر وعيك للحدث الماضي وإدارة المشاعر السَّلبيَّة المرتبطة به، إذاً الماضي مفهوم ذهني وليس أكثر من ذلك.

شاهد بالفيديو: 7 نصائح للتخلص من التفكير في إخفاقات الماضي

علامات تأثير الماضي علينا:

1. السُّلوكات الإدمانيَّة:

يلجأ الكثير من البشر إلى سلوكات إدمانيَّة، مثل إدمان تصفُّح وسائل التواصل الاجتماعي، أو التعلُّق المرضي بشخص ما، أو بالكحول، أو بالتدخين، وما هي إلَّا محاولات فاشلة للهروب من ماضٍ حزين سيطر عليهم سيطرة تامة، فبدلاً من مواجهة المشكلة ومحاولة حلِّها؛ يهرع أغلب النَّاس إلى تخدير الألم والتكيُّف السَّلبي مع الحاضر.

2. النَّدم المستمر:

يحترف الكثير من الأشخاص كلمة "لو"، فيقولون على سبيل المثال: "لو أنَّني قمت بفعل كذا، لكنت قد حصلت على تلك الوظيفة"، ويغرقون في حلقات مفرغة من الألم والحسرة الَّتي لا تنتهي، فيعيش هؤلاء الأشخاص الحياة في أصعب صورها وأكثرها ألماً.

3. النَّظرة السَّوداويَّة:

يحمل الكثير من الأشخاص نظرة سوداويَّة عن الحاضر والمستقبل، ومنبع هذه النظرة هو الماضي، فلطالما تجدهم يقولون: "ليس لدينا أمل في الحاضر، فماضينا كان قاسياً، فكيف إذاً سيكون الحاضر والمستقبل؟". لقد أعطوا الماضي أحقيَّة العبث في أحلامهم وأهدافهم وفي توجيه دفَّة حياتهم نحو السَّلبيَّة والاستسلام.

4. غياب القيمة:

يفقد مَن يكون أسيراً لماضيه قيمه العليا ورسالته لا محالة، فلن يكون لديه ما يدافع عنه، أو ينتفض على ماضيه من أجله، فهو قد ارتضى لنفسه الحياة السَّطحيَّة وامتلاك البوصلة الخارجيَّة عوضاً عن الدَّاخليَّة، فكل مَن يتعلَّق بالماضي هو إنسان ضعيف الثِّقة بذاته، ولا يُعطِي قدراته حقَّها، وينتظر قيمته من الآخرين، فيكون هشَّاً وغير متوازن.

وبدلاً من ربط قيمه مع الله فإنَّه يربطها مع النَّاس، فيفرح إن مدحه النَّاس ويحزن ويكتئب في حال ذمُّوه، أمَّا في حال وضوح القيم لديه والرسالة والربط بينهم وبين الله، فإنَّه لن يترك مجالاً للماضي بأن يتحكَّم به ويسيطر على مخطَّطاته.

5. غياب الثِّقة بالله:

يقضي الكثير من النَّاس أيَّامهم في حالة خوف شديدة من المستقبل، وحسرة شديدة على الماضي، في حين أنَّهم لو سلَّموا الأمور لله تعالى ووثقوا أنَّ كل أمر في الحياة يصب في صالحهم وإن كان سلبيَّاً في الظاهر؛ لأُثلِجت صدورهم ونَعموا براحة بال ما بعدها راحة.

إقرأ أيضاً: 6 خطوات مهمة تساعدك على المُضي قُدماً في الحياة

كيف أتصالح مع الماضي السَّلبي؟

1. الماضي هو فكرة:

عندما تتذكَّر حدثاً ما في الماضي؛ فأنت لا تتذكَّر الحدث ذاته لأنَّ الحدث قد انتهى، بل تتذكَّر أفكارك ومشاعرك حول الحدث؛ إذاً فالماضي عبارة عن تفسيراتنا حول الأحداث والمواقف الَّتي اختبرناها، فعلى سبيل المثال: من المحتمل أنَّ فكرتك عن ذاتك بأنَّك "لست ذكياً" تنبع من تجربة سلبيَّة قديمة قد اختبرتها، مثل الفشل في التحدُّث أمام النَّاس، فأنتَ قد فسَّرت تهكُّم النَّاس عليك في تلك اللَّحظة على أنَّك إنسان غبي ولا تفهم، ومن ثمَّ حملت معك ذلك التفسير مع ما يرافقه من مشاعر سلبيَّة قاتلة حتَّى عمر العشرين مثلاً، وأقفلتَ بذلك الاعتقاد القاصر كل أبواب النُّمو والتَّطور في حياتك.

إذاً تكمن المرحلة الأولى من علاج تعلُّقك بالماضي، في إدراك أنَّه ما هو إلَّا تفسيرك للحدث، وبأنَّه يتغيَّر بناءً على تطوُّر وعيك ونضجك، فقد ترى عندما تبلغ مرحلة من مراحل الوعي أنَّ تهكُّم النَّاس عليك في الماضي كان نعمة حقيقيَّة في حياتك، ذلك لأنَّ الرِّسالة والشَّغف يُولَدان من المعاناة، والمكان الذي كان مصدر ألمك في الماضي سيتحوَّل إلى مصدر إلهام وخلق في حاضرك.

2. الفصل ما بين الحدث والمشاعر:

نحن نحمل معنا الشحنات العاطفية السَّلبيَّة للأحداث الماضية على مدار سنين حياتنا، في حين يجب العمل على الفصل ما بين الحدث الماضي والمشاعر المرافقة له، وهنا يستطيع الشَّخص أن يستثمر أوقات استرخائه في سؤال نفسه: "هل منبع المشاعر السَّلبيَّة الَّتي شعرتُ بها مؤخَّراً هو تجربة ماضية أم أنَّها مشاعر طبيعيَّة؟" وهنا يستطيع أن يحدِّد مدى تأثير الماضي عليه، ومن ثمَّ يسعى إلى التعامل مع الأمر، ويستطيع تخفيف الشحنة العاطفية المترافقة مع أحداث الماضي.

3. الإيجو وأساليبه الخبيثة:

سيُهاجمك الإيجو (الذَّات الزَّائفة) في أثناء سعيك إلى الشِّفاء من آثار الماضي، فهو متمسك بوعي الضَّحية الَّذي تبنَّاه على مدار سنوات طويلة، وسيُقابل بالرَّفض والاستنكار أي فكرة تدعوه إلى تحمُّل مسؤوليَّة حياته وحاضره ومستقبله، فهذا الإيجو حبيس نظرة النَّاس والمجتمع، ويتشبث بالتجارب الماضية المؤلمة، ويلجأ إلى الكثير من الحيل الدِّفاعية في سبيل ثنيك عن قرارك بالشِّفاء، كأن يعرض أمامك المبرِّرات العديدة الَّتي تؤكِّد أنَّك "خجول ولا تنفع أن تكون متحدِّثاً عاماً" على سبيل المثال، ويُسقِط أمامك تجارب الآخرين وفشلهم، كأن يُصدِّر لك فكرة "ماذا ستفعل في هذه الحياة، انظر إلى النَّاس وحياتهم، هل ستأتي بنتيجة أحسن من ذلك، إنَّ الحاضر امتداد للماضي وبما أنَّ ماضيك كان سلبيَّاً فسيكون حاضرك كذلك".

ويعمل جاهداً على جعلك تهرب من التغيير، فتبتعد عن ذاتك الحقيقيَّة الَّتي تعلم أنَّك خُلِقت مكرَّماً وقويَّاً وقادراً، وأنَّك لست الماضي بل أنت الوعي القادر على تحويل الماضي إلى أكبر نعمة وفرصة، وأنَّك المسؤول مسؤولية تامَّة عمَّا يحدث لك، وأنَّك ملتزم التزاماً حقيقيَّاً بالتوازن بين العمل والحياة الشخصيَّة والرُّوحانيَّات والصحَّة والنَّفع المجتمعي.

إقرأ أيضاً: ما هو الإيجو؟ وما هو الفرق بينه وبين الأنا الحقيقية؟ وكيف نتخلص منه؟

4. التقبُّل ومن ثمَّ الحكمة:

يميل معظم النَّاس إلى إنكار الماضي وكبت أحداثه، الأمر الَّذي يظهر على شكل مشكلات عديدة في واقعهم، فبدلاً من الهروب منه عليهم مواجهته، ووضع حدٍّ له؛ وهنا على الإنسان أن يشعر بالشِّحنة العاطفية المترافقة مع الحدث الماضي والسَّماح لمشاعره بالظُّهور، ومن ثمَّ يحدِّد المنطقة الَّتي تتألَّم من جسده، ويتنفَّس من خلالها، فهذا الجزء بحاجة إلى تنفس عميق من أجل استعادة الإدراك بالاحتمالات اللَّامحدودة للإنسان، وبالفضاء الدَّاخلي الصَّافي الَّذي لا يتشوَّه بفعل الأحداث الماضية.

من هنا يظهر تيار الحكمة، ومن هنا يستطيع الإنسان الشِّفاء من آثار الماضي الحزين، ورؤية الأمور من منظور أعمق بكثير.

5. التفسير الإيجابي:

بعد التعافي من الإنكار والسَّماح لتيار الحكمة بالظُّهور، فإنَّك ستبدأ في رؤية الأمور من منظورها الحقيقي، فالوظيفة الَّتي خسرتها في الماضي كانت فرصتك الحقيقيَّة لكي تجتهد على نفسك أكثر ومن ثمَّ تحصل على وظيفة أكثر فائدة لك، والحبيب الَّذي انفصلتِ عنه كان درساً حقيقيَّاً لكي تتعلَّمي اختيار شريك الحياة المناسب، والخجل الشَّديد من الظُّهور أمام النَّاس هو دافعك الباطني للسَّعي وهو الأساس الحقيقي لرسالتك في الحياة ألا وهي "التأثير في النَّاس نحو الأفضل"، حيث تولد الرِّسالة والشَّغف من المعاناة، ويتحوَّل المكان الَّذي آلمك في الماضي إلى مكان إبداعك وتميُّزك.

6. عيش اللحظة:

ينسى الكثير من النَّاس عيش اللَّحظة ويبقون أسرى الماضي وتجاربه المؤلمة، في حين أنَّ التركيز على الحاضر هو أساس النَّجاح.

ولكي يصل الإنسان إلى مرحلة التركيز هذه، عليه أن يُفعِّل هرم قيمه، بحيث يلتزم في تحقيقها على أرض الواقع فلا يبقى له من الوقت لكي يفكِّر في الماضي، إلَّا في حال استخلاص الدروس المستفادة منه؛ ومن جهة أخرى يجب أن يربط هذه القيم مع الله تعالى، بحيث تصبح أقوى وأكثر متانة، وبحيث تعطيه السَّلام الدَّاخلي المنشود.

على سبيل المثال: إن كانت قيمة الغنى قيمة عليا لديك، فبدلاً من اللَّهث وراء المال بطريقة مبالغ فيها مع عدم مراعاة الوسائل المؤدية إليه، عليك أن تربط هذه القيمة مع الله، بحيث تسعى إلى تقديم خدمة حقيقيَّة للنَّاس بهدف جعل حياتهم أفضل، وبعد ذلك ستحقِّق النَّفع لهم، وستحصل على المال بذات الوقت.

يؤدِّي ربط قيمك بالنَّاس إلى الإصابة بالصِّراعات النَّفسيَّة، في حين لو ربطت سعادتك بمدى قربك من الله ومن قيمك العليا ومدى تماهيك مع حقيقتك -بغض النَّظر عن تقدير النَّاس لك أو عدمه- فإنَّك ستصل إلى حالة من السَّلام والرِّضا الدَّاخلي.

إقرأ أيضاً: 5 أسباب كي تعيش اللحظة الحالية وتتوقف عن المبالغة في التخطيط

7. الحضور القوي لله:

كلَّما آمنت بفكرة "أنَّ كل أمر في الحياة يحدث لصالحنا" وأنَّ الله "خير مطلق"؛ استطاع عقلك استنتاج الجانب الإيجابي من أي حدث تتعرَّض له حتَّى إن بدا سلبيَّاً في ظاهره.

الخلاصة:

الماضي لا وجود له، الوجود الحقيقي فقط لوعيك عن الماضي وطريقة تفسيرك له، لذلك اصنع تفسيرك الخاص ونمِّي مستويات وعيك لتصل إلى مسار الحكمة، هناك حيث ستكون قادراً على رؤية الأمور من منظورها الصَّحيح والعميق، بحيث تكون أقوى وأرقى وأكثر سلاماً.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5




مقالات مرتبطة