ما الذي يجعلنا نتمتع بالمرونة؟

قبل 11 عاماً، شُخِّصَت حالة صديقتي سالي (Sally) وتبيَّن أنَّها مصابة بمرض التصلب الجانبي الضموري (Amyotrophic lateral sclerosis)، والمعروف أيضاً باسم مرض لو جيرج (Lou Gehrig) نسبةً إلى لاعب البيسبول هنري لويس جيرج (Henry Louis Gehrig)، وهو مرض يؤدي إلى تدهور الخلايا العصبية الحركية يجعلك تدريجياً غير قادر على الحركة والأكل والتحدث وفي النهاية غير قادر على التنفس.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن رئيس قسم الأفراد وأبحاث الأداء في معهد الأبحاث إي دي بي (ADP)، ماركوس بكنغهام (Marcus Buckingham)، والذي يروي لنا تجربة صديقته مع المرونة.

لقد كانت تبلغ الأربعين من عمرها، ومتزوجة ولديها طفلان وتعيش بسعادة عارمة، والكثير من الأمور الجيدة تحدث في حياتها قبل أن يُلمَّ بها هذا المصاب، والذي وصفه زوجها بحادث سيارة بطيء رافقه حطام وانكسار وألم، ولا يمكن لأي شخص أن يفعل شيئاً حيال ذلك، إلا المراقبة وهو يقف مكتوف اليدين، أخبرتني سالي (Sally) في ذلك الوقت: "أعتقد أنَّني سأختفي عن الوجود، فما أنا فاعلة عندما يكف الناس عن رؤيتي؟".

اليوم، وعلى الرغم من كل المصاعب، لا تزال على قيد الحياة، صحيح أنَّها لا تستطيع الحركة أو الكلام أو الأكل أو التنفس وحدها، لكنَّها لا زالت بيننا على قيد الحياة، وبمساعدة آلة تترجم حركة عينها إلى كلام، أصبحت مفعمة ومحبةً وحكيمةً كما كانت مسبقاً، وتستطيع سالي أن تنقل ما تعنيه بصورة أفضل بالحياة، في لمحة واحدة أكثر ممَّا يستطيع معظمنا أن ينقله في حديث مدته 20 دقيقةً.

سألتها ذات مرة: "كيف يمكنك أن تفعلي ذلك؟ كيف تحافظين على قوَّتك من أجل زوجك وأطفالك؟" أجابت: "توجد أمور كثيرة لا أستطيع القيام بها يا ماركوس (Marcus)، ولكن لمَ أُزعج نفسي بالتفكير في تلك الأمور إن كان في مقدوري أن أقضي معظم وقتي في التركيز على تلك الأمور البسيطة التي يمكنني القيام بها؛ حيث لا يزال في إمكاني أن أحب زوجي وأطفالي، فأنا ما زلت هنا بجانبهم".

هي حاضرة دائماً، وفي هذه الأيام يمتلك معظم الأشخاص مثل سالي (Sally) الكثير ليعلِّمونا إياه بشأن القدرة على المرونة، ولأكثر من عقد من الزمن كانت تلزم مكانها نفسه، وتبتعد عن الأشخاص الذين قد يصابون بعدوى المرض، وكانت غير قادرة على الخروج والتحرك، ومع ذلك احتفظت بحيويتها وروحها ونشاطها؛ هل يمكننا جميعاً الاستفادة من مشاعر القوة والصبر تلك؟

أنا أتمنى أن نتمكَّن جميعاً من مواجهة تحديات الحياة الصعبة ونستعيد توازننا أكثر ممَّا كنَّا عليه في أي وقت مضى، فما الذي تمكَّنت سالي من تحقيقه؟ هل كان مجرد جزء من تركيبتها الوراثية هو الذي منعها من الانهيار، أم كان أمراً قامت به بكامل وعيها؟ ماذا تعني المرونة، وكيف يمكن لكل منَّا أن يطوِّرها في حياته؟

للبدء بالإجابة عن هذه الأسئلة، أجرى فريقي في معهد أبحاث أي دي بي (ADP Research) دراستين ميدانيتين؛ حيث ركزت الدراسة الأولى على تحديد مصادر القدرة على المرونة، وتحديد أفضل الأسئلة لقياسها، ثم تنفيذ التوجيهات المحددة لزيادة القدرة على التكيُّف لديك ولدى الأشخاص الذين تقودهم وتهتم لأمرهم.

والدراسة الثانية، هي دراسة عالمية للقدرة على المرونة في جميع أنحاء العالم، ولقد طرحنا على 25000 بالغٍ يعملون في 25 دولةً، 10 أسئلة أساسية عن القدرة على المرونة، وأسَّسنا في كل بلد، أولاً عينةً طبقيةً تعكس التكوين الديموغرافي للقوى العاملة في ذلك البلد، ثم طرحنا هذه الأسئلة العشرة في شهر تموز من عام 2020 لتحديد النسبة المئوية للعاملين في كل بلد ممَّن يتمتَّعون بدرجة عالية من المرونة.

كانت فكرة فرضيتي أنَّ البلدان التي استجابت استجابةً أكثر فاعلية لجائحة كورونا (Covid-19) - قياساً بعدد الوفيات والحالات - ستظهر فيها قوى عاملة أكثر المرونة، وقد توقَّعت أن تُظهر دول مثل تايوان (Taiwan) وسنغافورة (Singapore) وكوريا الجنوبية (South Korea) مستويات عاليةً جداً من المرونة، في حين أنَّ دولاً أخرى مثل البرازيل (Brazil) والهند (India) والولايات المتحدة (U.S) سيكون لديها مستويات أقل نسبياً.

على سبيل المثال، يبلغ تعداد السكان في الولايات المتحدة 4% من سكان العالم؛ ومع ذلك بلغت نسبة الإصابات فيها بفيروس كورونا (Covid-19) ما يزيد على 20% من مجمل الإصابات حول العالم، وبالتأكيد كان لهذا العدد الضخم من الحالات تأثير سلبي في مستويات المرونة.

لقد كنت مخطئاً، فلم تنجح فرضيتي، وبدلاً من ذلك، ظهر نمط مختلف تماماً، وهو نمط يكشف عن طريقة اكتساب المرونة في حياتك الخاصة، ويبيِّن سبب اختيار معظم كبار القادة المسار الخاطئ في محاولاتهم لزيادة القدرة على المرونة لدى الأشخاص الذين يقودونهم.

النتائج التي توصَّلنا إليها:

في البداية، دعنا نستغني عن بعض العوامل التي قد تتساءل عنها.

لا ترتبط مستويات المرونة بالجنس، فالرجال والنساء في جميع أنحاء العالم لديهم المستويات نفسها تقريباً، ولا يبدو أنَّ العمر عامل هام.

وكما هو موضَّح في الصورة أدناه النسبة المئوية للأشخاص الذين صُنِّفوا على أنَّهم "يتمتعون بمرونة عالية" حسب الجنس، كانت مستويات القدرة على التكيُّف في ظل أزمة جائحة كورونا (Covid-19)، متساويةً تقريباً بين النساء والرجال.

men and women

تبين أنَّ الرجال والنساء يتمتعون بمستويات متماثلة من المرونة في ظل جائحة كورونا
15.1% من الرجال صُنِّفوا بأنَّهم يتمتعون بمرونة عالية. 10.9% من النساء صُنِّفن بأنَّهن يتمتعن بمرونة عالية

وتوضِّح الصورة التالية أيضاً النسبة المئوية للأشخاص الذين صُنِّفوا على أنَّهم "يتمتعون بمرونة عالية" حسب العمر، وقد تبين أنَّ العمر لا يبدو عاملاً هاماً عندما يتعلق الأمر بالقدرة على المرونة في مواجهة أزمة جائحة كورونا (Covid-19).

Age dose not Apper

 

يبدو أنَّ العمر عامل هام في تحديد مستوى المرونة في ظل جائحة كورونا
10.5% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و19 عاماً يتمتعون بمرونة عالية 15.1% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و39 عاماً يتمتعون بمرونة عالية
10.9% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 40 و54 عاماً يتمتعونبمرونة عالية 10.4% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 55 و74 عاماً يتمتعونبمرونة عالية
1% من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 75 عاماً يتمتعون بمرونة عالية

كما لا توجد روابط قوية بين المرونة والعِرق أو الجنسية، وبدلاً من ذلك، وجدنا أنَّه يوجد دافعان أساسيان للمرونة تنتج عنهما توجيهات مثيرة للاهتمام وغير متوقعة:

إقرأ أيضاً: 3 أخطاء مرتبطة بالمرونة ترتكبها الشركات

1. المرونة هي حالة ذهنية تفاعلية تنشأ عن التعرض للمعاناة:

في دراستنا، سألنا الأشخاص فيما إذا أصيبوا بفيروس كورونا (Covid-19)، هم أو أحد أفراد أسَرِهم، أو أحد أعضاء فِرَقِهم في العمل، أو شخص ضمن دائرة معارفهم الأوسع، فهؤلاء الأشخاص الذين أجابوا بـ "نعم" عن كل سؤال من هذه الأسئلة كانوا أكثر احتمالاً بمقدار 3.9 مرة لأن يكونوا أكثر مرونة.

توضِّح الصورة أدناه أنَّه كلما كنت على علاقة قوية بشخص مصاب بفيروس كورونا (Covid-19)، زادت مرونتك.

proximity to covied

 

يعزز وجود علاقة وثيقة بينك وبين أشخاص مصابين بفيروس كورونا مرونتك.
ازداد احتمال تمتُّع الأشخاص الذين تربطهم علاقات وثيقة بأناس أُصيبوا بفيروس كورونا، بالمرونة.
10.9% من الأشخاص الذين لا تربطهم أي علاقات وثيقة بأناس مصابين بفيروس كورونا يتمتعون بمرونة عالية. 10.9% من الأشخاص الذين تربطهم علاقات وثيقة بشخص مصاب بفيروس كورونا يتمتعون بمرونة عالية.
15% من الأشخاص الذين تربطهم علاقات وثيقة بشخصَين مصابَين بفيروس كورونا يتمتعون بمرونة عالية. 20% من الأشخاص الذين تربطهم علاقات وثيقة بثلاثة أشخاص مصابين بفيروس كورونا يتمتعون بمرونة عالية.
25% من الأشخاص الذين تربطهم علاقات وثيقة بأربعة أشخاص مصابين بفيروس كورونا يتمتعون بمرونة عالية. 35.9% من الأشخاص الذين تربطهم علاقات وثيقة بخمسة أشخاص مصابين بفيروس كورونا يتمتعون بمرونة عالية.

لا يهم مدى استطاعة بلدك أو عدمها في الاستجابة للجائحة؛ حيث تَبيَّن أنَّ الأمر الذي زاد من مرونتك هو تعرُّضك أنت لهذا المرض أو الأشخاص في محيطك، وكلَّما كنت معرضاً للإصابة أكثر، زادت مستويات مرونتك.

يؤكد هذا على أنَّنا نكتشف مدى مرونتنا فقط عندما نضطر إلى مواجهة معاناة لا يمكننا تجنُّبها، فعندما نواجه هذا الواقع، ونرى أنفسنا وكيف نستجيب لما يحدث من حولنا، نكتشف أساس المرونة؛ والحقيقة دائماً ما تكون أقل خوفاً ممَّا تتخيل، وحقيقة المرض تساعدك على معرفة فيما إذا كنت قادراً على مواجهته والتكيُّف معه، وهو ما يعزِّز قدرتك.

2. كلَّما كان الخطر ملموساً، أصبحنا أكثر مرونة:

في الاستبيان الذي أجريناه، سألنا الأشخاص فيما إذا كانوا قد عانوا من تغييرات في ظروف عملهم في ظل فيروس كورونا (Covid-19)، مثل حَجْر أنفسهم، والتغيرات في ساعات العمل، وإعطاء إجازات للعمال، والاعتماد أكثر على التكنولوجيا، وغير ذلك؛ حيث قدَّمنا ​​للأشخاص قائمة بـ 11 تغييراً ممكناً.

أفاد 96% من الأشخاص حول العالم أنَّهم واجهوا على الأقل واحداً من هذه التغييرات، وهذا ليس أمراً مفاجئاً، لكنَّ الأمر المثير للدهشة هو أنَّ بعض الأشخاص قد اختبروا أكثر من 5 من هذه التغييرات، ولم يقتنعوا بأنَّ هذه التغييرات ستكون دائمة فحسب؛ وإنَّما كانوا أكثر مرونة بـ 13 مرةً؛ بمعنىً آخر، إذا كنت مضطراً إلى استيعاب تغييرات هامة في عملك، ستتضاعف مستويات قدرتك على التكيُّف، وفي الواقع، كلَّما كان عليك استيعاب المزيد من التغييرات، كنت أكثر مرونة.

توضِّح الصورة أدناه، أنَّ اختبار العديد من التغييرات المتعلقة بالعمل بسبب فيروس (Covid-19) تزيد من المرونة، ومن هذه التغييرات، الحَجْر الصحي، والتغيير في ساعات العمل، وإعطاء إجازات للعمال، والاعتماد أكثر على التكنولوجيا.

شاهد بالفديو: 12 مهارة جديدة لتحسين الذات بسرعة

وتُبيِّن النتائج أنَّ المستجيبين الذين واجهوا بعض تلك التغييرات كانوا أكثر مرونة.

experiencing Multiple work

يعزز مواجهة تغييرات في ظروف العمل بسبب جائحة كورونا المرونة.
تشمل هذه التغييرات الحَجْر الصحي وتغير ساعات العمل وتسريح العمال أو إعطائهم إجازات والاعتماد أكثر على التكنولوجيا، وغيرها.
0.5% من الأشخاص الذين لم يشهدوا أي تغييرات في عملهم بسبب جائحة كورونا يتمتعون بمرونة عالية. 10.4% من الأشخاص الذين شهدوا تغييراً واحداً في عملهم بسبب جائحة كورونا يتمتعون بمرونة عالية.
15% من الأشخاص الذين شهدوا تغييرَين في عملهم بسبب جائحة كورونا يتمتعون بمرونة عالية. 15.5% من الأشخاص الذين شهدوا ثلاثة تغييرات في عملهم بسبب جائحة كورونا يتمتعون بمرونة عالية.
15.9% من الأشخاص الذين شهدوا أربعة تغييرات في عملهم بسبب جائحة كورونا يتمتعون بمرونة عالية. 20.5% من الأشخاص الذين شهدوا أكثر من خمسة تغييرات في عملهم بسبب جائحة كورونا يتمتعون بمرونة عالية.

من خلال الجمع بين نتائج الدراسة الأولى والثانية، ستدرك أنَّنا نحن البشر لا نعمل جيداً عندما يتغاضى كبار قادتنا عن الواقع، فنحن لا نحتاج إليهم كي نشعر بتحسن؛ حيث يُعدُّ التقليل من شأن الحقائق القاسية أو المظلمة، أو التظاهر بعدم وجودها، أمراً مخيفاً ومضِرَّاً بالصحة النفسية؛ وذلك لأنَّنا نسمح للخيالات أن تسيطر على أذهاننا.

بدلاً من التقليل من شأن الواقع، كن صريحاً، ولا تتسرع في العودة إلى وضعك الطبيعي لتهدئة مشاعر الخوف والقلق، وبدلاً من ذلك، تحدَّث بالتفصيل عن الخطر المحدق، وأظهِر لنا عن قرب وبصورة شخصية ما التغييرات الواقعية التي سيتعين إجراؤها في حياتنا، وأخبِرنا الحقيقية حول طريقة تصميم هذه التغييرات لحمايتنا، وأظهِر عملياً ما الوضع الطبيعي الجديد وأسبابه، ثم طريقة العيش بسعادة وصحة في ظل هذا الوضع الطبيعي الجديد.

لا يمنحنا معظم القادة التقدير والاهتمام الكافيَين؛ حيث يقول عالم النفس فيكتور فرانكل (Viktor Frankl) في ثلاثينيات القرن الماضي: "إنَّ استجابتنا للمعاناة التي لا مفر منها هي أحد الوسائل الأساسية في حياتنا المرتبطة بالمغزى والهدف والكفاءة الذاتية".

يجب ألا تخفى المعاناة والصعوبات عنَّا أبداً، فبدلاً من ذلك، يجب إظهارها بصدق ووضوح وسنكتشف عندها أعظم نقاط قوَّتنا.

لقد كانت مخاوف سالي (Sally) أشد وطأة من أعراض التصلب الجانبي الضموري لديها، فقد كان الانتظار هو ما يرعبها، وبمجرد ظهور الأعراض، كان الأمر لا يزال سيئاً وصعباً جداً، ولكن حينها كان في إمكانها اتخاذ التدابير اللازمة على أقل تقدير، وفهْم المشاعر المرتبطة بذلك، وكيف يمكنها البدء باكتشاف الأعمال الواقعية لطريقة العيش بقوة وامتنان ومرونة.

يشير بحثنا إلى أنَّ هذا الأمر ينطبق عليك وعلى الجميع، فكل ما هو مجهول يخيفنا، وعندما نعرف حقيقة المخاطر المحيطة بنا، سنكشف عن مكامن قوتنا.

المصدر




مقالات مرتبطة