لماذا حان وقت التخلص من المكاتب المفتوحة؟

ترفع المكاتب المختلة وظيفياً من معدلات التوتر، وتدفع الموظفين إلى طلب المزيد من الإجازات المرضية، وتُسبب القلق والاكتئاب؛ كما قد يواجه العاملون فيها صعوبة في التعاون أو بناء علاقات مثمرة؛ وعلى الرغم من أنَّنا نلوم التكنولوجيا على هذه المشكلات، وذلك بسبب الإشعارات التي لا تتوقف والاتصال المستمر على مدار الساعة بالإنترنت، إلا أنَّ هناك سبباً آخر كامن وراء كل ذلك، وهو تبنِّي نظام المكاتب المفتوحة.



كانت المكاتب في منطقة "وادي السيليكون" (Silicon Valley) من أوائل الذين أيَّدوا فكرة أماكن العمل المفتوحة؛ حيث يجلس الموظفون جنباً إلى جنب على مكاتب مشتركة؛ فهدموا الجدران وألغوا المكاتب المغلقة على أنَّها تمثل النظام الطبقي المؤسساتي، وبدا حينها أنَّ المكاتب المفتوحة تعبِّر عن موقف معاصر وثوري، كما تقدم صورة نقيضة لصفوف المقصورات الجامدة التي انتقدتها سلسلة الرسوم المصورة "ديلبرت" (Dilbert) وأفلام مثل "مساحة المكتب" (Office Space).

بحلول عام 2014 كانت تستخدم 70% من مكاتب "وادي السيليكون" (Silicon Valley) المكاتب المفتوحة، وأصبحت الوضع السائد الطبيعي الجديد، خصوصاً في مجالات التكنولوجيا ولدى الشركات الناشئة؛ ويمكن القول إنَّ المبنى الحديث لشركة "فيسبوك" (Facebook)، المعروف باسم "إم بي كي 21" (MPK 21)، يمثِّل ذروة آخر صيحات المكاتب المفتوحة اليوم.

في حين كان الهدف من المكاتب المفتوحة التشجيع على الابتكار والإبداع والتعاون، لكنَّ المزيد من الأبحاث كلَّ يوم تشير إلى أنَّ لها في الواقع الأثر المعاكس.

تحديات التصميم المفتوح للمكاتب:

قاسى العديد من الموظفين مصاعب العمل في أماكن العمل التي تخلو من الحواجز، وعانوا الكثير من عوامل التشتيت التي شملت تحدُّث زملائهم بصوت عالٍ وتناول أطعمة تنبعث منها روائح قوية وغيرها من الأمور؛ وقد يجادل بعضهم أنَّ تلك المشتتات البسيطة ليس لها أهمية مقارنةً بالفوائد التي تقدِّمها المكاتب المفتوحة كالتعاون والتواصل؛ وقد كان هذا الهدف من مبنى "إم بي كي 21" (MPK 21) الذي صممه المعماري "فرانك غيري" (Frank Gehry) لشركة "فيسبوك" (Facebook)؛ حيث يقول: "إنَّه يخلق بيئة يستطيع الناس داخلها التعاون والابتكار سوياً".

يقول "لوري غولر" (Lori Goler) رئيس قسم الموارد البشرية في شركة "فيسبوك" (Facebook): "هناك عفوية كبيرة في الطريقة التي يلتقي بها الناس ببعضهم في هذه المساحة التعاونية المَرِحة".

حلَّل باحثون من "كلية هارفارد للأعمال" (Harvard Business School) في عام 2018 أثر الانتقال إلى مساحة عمل مفتوحة في التعاون بين الموظفين، وكانت تلك الدراسة الأولى من نوعها التي تقيس موضوعياً آثار مكاتب العمل المفتوحة باستخدام أدوات إلكترونية وميكروفونات لتسجيل تفاعلات الموظفين، وتتبع استخدام البريد الإلكتروني.

وجدت الدراسة أنَّ مكاتب العمل المفتوحة قلَّلت من التفاعلات وجهاً لوجه بنسبة 70% تقريباً؛ وبشكل معاكس، ازداد عدد الرسائل عبر البريد الإلكتروني بنسبة 50%؛ فيبدو أنَّ العمارة المفتوحة سبَّبت في رد فعل انطوائي؛ إذ تاق الموظفون إلى تخفيف الاحتكاك الاجتماعي الذي يشاركون فيه، وفضَّلوا تبادل الرسائل والبريد الإلكتروني.

كما يشرح المؤلف المشارك في الدراسة الأستاذ المساعد "إيثان بيرنستين" (Ethan Bernstein): "إن كنت محاطاً بالناس طوال الوقت، فستحاول بكل جهدك أن تتجنب تشتت انتباهك (عبر ارتداء سماعات مثلاً)؛ ولأنَّك على مرأى من الجميع في كل الأوقات، ستتعرض لمزيد من الضغط لتبدو مشغولاً جداً"، كما وجدت الدراسة أنَّ الذين انتقلوا إلى العمل في المكاتب المفتوحة أصبحوا أقلَّ إنتاجية؛ والأسوأ من ذلك، تراجعت نوعية عملهم أيضاً.

أظهرت دراسات أخرى طيفاً واسعاً من المشكلات المرتبطة بهذه المساحات المريحة والحرة؛ حيث وجد المعالِج النفسي المؤسساتي "ماثيو ديفيس" (Matthew Davis) بعد مراجعة أكثر من 100 دراسة عن بيئات المكاتب أنَّ لها تأثيراً سلبياً في مدى الانتباه والتفكير المبدع والإنتاجية والرضا عن العمل؛ كما يعاني الموظفون الذين يعملون في مكاتب مفتوحة من درجات أعلى من القلق وانخفاض التركيز وتراجع الحماس مقارنة بزملائهم في المكاتب التقليدية.

وفقاً للباحثين من "جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا" (Queensland University of Technology)، يعاني 90% من الموظفين الذين يعملون في مكاتب مفتوحة من مستويات أعلى من القلق وارتفاع ضغط الدم، ويدخلون في خلافات أكثر، ويزيد احتمال تقديم استقالتهم؛ كما وجدت دراسة دنماركية شملت 2,400 موظفاً أنَّ الذين يعملون في مكاتب مفتوحة بالكامل يطلبون إجازات مرضية بنسبة 62% أكثر من الذين يعملون في مكاتب فردية.

إقرأ أيضاً: 7 طرق مثبتة علمياً لزيادة اليقظة والانتباه والتركيز

بديل صالح للتطبيق:

ليس من المحتمل العودة إلى المكاتب الركنية ذات الإطلالة على طراز المكاتب في مسلسل الدراما الأمريكي "ماد مين" (Mad Men)، لكن يمكننا العثور على حلٍّ وسط؛ ففي شركة "جوتفورم" (JotForm)، يعمل الموظفون في فِرق صغيرة متعددة الوظائف تتكون من خمسة أو ستة أفراد، ويتضمن كلُّ فريق مصمماً رئيساً يعمل مباشرة مع مصممي واجهة المستخدم وتجربة المستخدم ومطوري البرمجيات ومواقع الويب وعلماء البيانات ووظائف أخرى هامة؛ ويحظى كلُّ فريق بغرفة خاصة يمكن إغلاقها، فيها متسع ليتحركوا بحرية؛ كما تحوي سبورة ومكاتب كبيرة وأدوات مختلفة؛ حيث تساعد المكاتب الخاصة هذه الفريق على التركيز والعمل بإنتاجية والتعاون بعيداً عن الضوضاء.

قد تعتقد أنَّ تشتت الانتباه بسبب الضوضاء أمرٌ ثانوي، لكن وجدت دراسة أجرتها "جامعة سيدني" (University of Sydney) أنَّ الضوضاء هي أكثر نقطة يشتكي منها العاملون في المكاتب المفتوحة؛ كما يقول "جونغسوو كيم" (Jungsoo Kim)، المؤلف المشارك في الدراسة: "وجدنا أنَّ الموظفين في المكاتب المفتوحة أقل رضا عن بيئة عملهم من الذين يعملون في مكاتب مغلقة؛ حيث تلغي عوامل مثل الضوضاء وانعدام الخصوصية في المكاتب المفتوحة الفوائد مثل إقامة علاقات مثمرة مع زملاء العمل".

تسبب الضوضاء انخفاض الإنتاجية وارتفاع معدلات غياب الموظفين عن العمل، ولهذا فإنَّ قرار التقليل من مشتتات الانتباه بكافة أنواعها لا يعود إلى الموارد البشرية فقط؛ بل هو حركة اقتصادية ذكية، على سبيل المثال: تقدِّر "مجموعة أبحاث فيض المعلومات" (Information Overload Research Group) أنَّ مشتتات الانتباه الرقمية لوحدها تكلِّف الشركات الأمريكية ما يقارب 1 مليار دولار في العام.

لذا بدلاً من هدر وقتهم في محاربة مشتتات الانتباه، يستطيع الفريق متعدد الوظائف التعاون واستثمار طاقتهم إلى أقصاها، ويعزز هذا التقارب الإنتاجية؛ وذلك لأنَّ أفراد الفريق يعملون على مشروع واحد ويتشاركون الأهداف نفسها.

ما هو حجم الفريق المناسب؟

في عام 2014 نشر الباحثان "ألبرت كاو" (Albert Kao) و"إيان كوزين" (Ian Couzin) دراسة وجدت أنَّ المجموعات الصغيرة غالباً ما تتخذ قرارات أكثر دقة؛ حيث تجمع الفِرق الصغيرة محاسن الطرفين، فتستقي من الحكمة الجماعية دون الحاجة إلى التعامل مع الجلبة التي يسببها الحشد؛ وقد يتطلب العثور على الحجم المناسب للفريق بضع محاولات والتعلُّم من الأخطاء، لكن من الضروري أن تكتشف ما يناسب شركتك وموظفيك، ويجب أن تأخذ بالحسبان عملية صنع القرارات وأنواع المشاريع التي سيعملون عليها.

في كتاب "قرر وقدم: خمس خطوات لتعزيز الأداء في شركتك" (Decide and Deliver: Five Steps to Breakthrough Performance in Your Organization) يجادل المؤلفون "مارسيا و. بلينكو" (Marcia W. Blenko) و "بول روجرز" (Paul Rogers) و "مايكل س. ماكينز" (Michael C. Makins) أنَّ الرقم 7 هو أفضل عدد أفراد للفريق لاتخاذ قرارات فعالة؛ وحين يتعدى هذا الرقم يخفِّض كلُّ فرد إضافي من إنتاجية الفريق بنسبة 10%؛ لكن في النهاية يجب أن تعثر كلُّ شركة على ما يناسبها، وتتخذ هذا القرار بناءً على ظروفها الفريدة.

إقرأ أيضاً: 11 طريقة لتحسين التعاون بين أقسام الشركة

تصميم مكان العمل بأسلوبك:

للأسف لا يوجد نموذجٌ ثابت لتصميم المكتب المثالي؛ إذ يمكن لأيِّ أحد نظرياً تقليد مبنى شركة "فيسبوك" (Facebook) ليكتشف أنَّ موظفيه يحتاجون مكاتب مغلقة ومساحات عمل هادئة، أو ربما يعملون عملاً أفضل في بيئة جماعية لا تفصلها الجدران.

بينما يفضَّل المديرون غالباً المكاتب المفتوحة، وخصوصاً بسبب مزاياه الاقتصادية، لكن من الضروري فهم المساوئ المحتملة له؛ وحتى لو لم تكن المكاتب المغلقة خياراً متاحاً لجميع الشركات، لكن يمكنهم في الغالب تأمين أماكن عمل خاصة لجزء من الوقت مثل الغرف الهادئة أو المقصورات المنعزلة.

مثله مثل العديد من الأمور في عالم الأعمال، من الضروري انتقاء الخيار الأفضل لشركتك وفِرقك، وفي حين أنَّ المكاتب المفتوحة تبدو جميلة في الصور التي تُعرَض على المواقع الإلكترونية والجولات التعريفية، لكنَّ النتيجة أهم من الشكل السطحي؛ لذا قدِّم لموظفيك ما يحتاجونه لتضمن الصحة والإنتاجية والتركيز، وستجد أنَّ هذا الاستثمار ناجح بالتأكيد.

المصدر




مقالات مرتبطة