لم يمنحنا التخلي عن الإفراط في التفكير السعادة المرجوة؟

التعرُّف إلى شيء ما يمنحنا إحساساً بالسيطرة؛ إذ عندما نتمكن من فهم شيء ما، فإنَّنا نعتقد أنَّه يمكننا التحكم به. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحياة، إذا تمكَّنَّا من السيطرة عليها، فإنَّنا نشعر بأنَّنا أقل عرضة إلى تقلبات الحياة المستمرة ويمكننا بعد ذلك أن نكون سعداء.



في العالم المعاصر نحن نستعمل عقولنا لإدراك الأشياء وفهمها وننظِّم أفكارنا في إطار عقلاني وتعاقب منطقي؛ بمعنى أنَّ هناك سبباً يؤدي إلى نتيجة.

تنطوي المعرفة على ترتيب أفكارنا لفهم ما يحدث وكيف يحدث، وما يجب علينا القيام به، وبغض النظر عما نريده وعن المشكلة التي نواجهها، نعتقد أنَّنا نحصل على إجابات لكل شيء بمقدار ما نبذله من جهد فكري.

نحن نعتقد بأنَّ التفكير يمكن أن يساعدنا على حل المشكلات أو تحقيق الأهداف؛ بل أكثر من ذلك، فنحن نعتقد أنَّه يمكننا من خلال التفكير الحصول على الحياة الهادئة وأنَّ المزيد من التفكير في الحياة سيقودنا في النهاية إلى السلام الداخلي.

إحدى المشكلات المتأصلة في إيماننا القطعي بالتفكير هو أنَّه يقوم على فرضية أنَّ أفكارنا صحيحة. نحن نخلط بين تجربتنا الذاتية والواقع الموضوعي؛ ولذلك نعتقد أنَّ كل اعتقاد شكلناه من خلال منظومة أفكارنا هو حقيقة مطلقة.

مثلاً إذا اختلفتَ مع صديق، فإنَّك تُفكِّر في تكوين قناعة حول ما حدث وكيفية حل هذه المشكلة، والمشكلة هي أنَّك تبني قناعتك على تجربتك الشخصية وذكريات الماضي السيئة والطريقة التي استجبت بها لأحداث سابقة والتاريخ ومعتقداتك الراسخة.

أنت تعتقد في هذه الحالة أنَّ أفكارك حول ما فعله صديقك تُعبِّر عن حقيقة ما حدث، معتمداً بذلك على افتراضات حول دوافعه وشخصيته، وكي تشعر بتحسن كوَّنت تصوراً عن سبب قيام صديقك بهذا الأمر أو امتناعه عن القيام بأمر آخر، واعتقدتَ بأنَّ هذه حقيقة لا جدال فيها. لكنَّ المشكلة هي أنَّ الدوافع التي تعتقد أنَّها وراء تصرفات هذا الشخص قد لا تمت بصلة لما يعتقده هو في الواقع، تماماً كما لو أنَّه يعتقد بأنَّه يعرف دوافعك؛ ولكنَّ دوافعك تكون مختلفة عما يعتقده.

ولنأخذ المثال التالي، يقدِّم أحدهم نصائح لصديقه عن وجبات غذائية خفيفة منخفضة السكر ومليئة بالعناصر الغذائية بدافع التعبير عن المودة؛ ولكنَّ صديقه يعتقد أنَّ هذا الشخص يفعل ذلك مُلمحاً إلى وزنه الزائد. وفي الوقت نفسه يرى الشخص الأول أنَّ الثاني هو أفضل صديق له؛ ولذلك هو يهتم بصحة صديقه ويخشى عليه من أمراض القلب والأوعية الدموية، ويشعر الشخص الأول بالاستياء لأنَّ صديقه لا يهتم بهذه النصائح، وفي المقابل يستاء الشخص الآخر معتقداً أنَّ صديقه ينظر إليه نظرة دونية.

كل من الشخصين في مثالنا السابق له واقع مختلف. بالنسبة إلى الشخص الأول، فإنَّ الطعام الصحي هو شيء تعلَّمه منذ صغره وهو يبذل الجهد ويخصص الوقت لصنع الطعام الصحي؛ وقد يكون السبب أنَّ والد هذا الشخص قد توفي بنوبة قلبية وهو لذلك يخشى أن يفقد شخصاً آخر يحبه.

بالنسبة إلى الشخص الآخر، فإنَّ أولويته في الحياة هي النجاح في العمل؛ وهو لذلك يشعر بأنَّ لديه الكثير من الالتزامات، وهو يتمنى لو أنَّ لديه الوقت ليهتمَّ بنوعية غذائه؛ ولكنَّه لا يملك الوقت الكافي ليتعلَّم الطهي، وهو بالإضافة إلى ذلك، لا يعتقد أنَّ وزنه الزائد مشكلة حقيقية، فمعظم أفراد أسرته يعانون من بعض الزيادة في الوزن، ومع ذلك، فإنَّ صحتهم جيدة. ومن هذا المثال يتبيَّن لنا كيف نتبنى قناعات غالباً ما تكون مخالفة للواقع ولتصورات الأشخاص الآخرين، وكل شخص منا يعتقد أنَّه يعرف بما يفكر فيه الطرف الآخر، ولكن لا تتقاطع أفكارنا في الواقع مع ما يفكِّر فيه الآخرون.

الأمر الذي يجعل أفكارنا قليلة الفائدة عندما نحاول أن نحاكي من خلالها واقع الشخص الآخر؛ إذ إنَّ محاولة فهم الحياة بناءً على قناعاتنا الشخصية هي ضرب من العبث، وقد لا نبالغ إذا ما قلنا إنَّه أمر سخيف. بالطبع هذا لا يعني أنَّنا لا يجب أن نفهم تجاربنا؛ بل يعني أن ندرك أنَّ ما فهمناه من تجاربنا وواقعنا هو شيء خاص بنا ولا يمكن تعميمه؛ أي إنَّ ما نراه حقيقة يكون كذلك بالنسبة إلينا فقط؛ إذ يوجد في هذا العالم مليارات الناس وكل شخص لديه أفكاره التي تُشكِّل الحقيقة بالنسبة إليه.

إقرأ أيضاً: القناعة... مفتاحك السري إلى السعادة

وبينما ما يزال في إمكاننا تقديم وجهة نظرنا المبنية على تجارب واقعنا، إلَّا أنَّنا يجب أن نراعي أيضاً أنَّ وجهة النظر هذه ليست الحقيقة المطلقة؛ لذلك يجب ألَّا نستاء معتقدين أنَّنا نعرف الطريقة الصحيحة التي يجب أن تسير عليها الأمور، ولا يجب أن نقلق إذا لم تسر الأمور كما أردنا لها معتقدين أنَّ هناك خطأ ما أو أنَّنا تعرَّضنا للإجحاف.

إنَّنا نشعر بمقدار أكبر من الحرية عندما نؤمن بأنَّ تصورنا عن الحقيقة، والذي يضعنا في قلب الأحداث لا يُمثِّل بالضرورة الحقيقة بالنسبة إلى الأشخاص الآخرين. توجد مشكلة أخرى في الاعتقاد الذي نتبناه، والذي يفترض أنَّ في إمكاننا اكتشاف طريقنا نحو السعادة، فنحن نعتقد بأنَّ التفكير الزائد في موقف ما يُمكِّنُنا من التعامل معه بأفضل ما يمكن، ونعتقد أيضاً بأنَّ التفكير هو الوسيلة الأنسب للتعامل مع أي موقف؛ ولكنَّ هذا ليس صحيحاً؛ بل على العكس إذ غالباً ما يكون التفكير هو أسوأ وسيلة.

وفي غالب الأحيان، يتطلب تحسين شيء ما في الحياة أو التطور أمراً مختلفاً تماماً عن التفكير، مثلاً عندما نتعامل مع شخص صعب المراس، فإنَّ أفضل شيء يمكن فعله هو ألا نفعل شيئاً، وهذا يعني أنَّه بدلاً من محاولة فهم سلوك هذا الشخص أو الطريقة التي يجب أن نتعامل بها معه، فإنَّنا يجب أن نسمح له بأن يتصرف على طبيعته.

في كثير من الأحيان عندما نتوقف عن محاولة اكتشاف الأخطاء لدى الأشخاص والأشياء من حولنا والسعي إلى تصحيحها، نترك الأمور على ما هي عليه بدلاً من ذلك، فإنَّ تجربتنا تتغير بأكملها؛ لأنَّنا نصبح على دراية بأنَّ كل جهودنا لتكوين تصور عما يحدث يمكن أن تضللنا، ويمكن أن تقودنا إلى تبنِّي تصور ثابت عن الواقع يجعلنا نقع في خداع الذات.

نتيجة لذلك؛ وعندما نحاول حل مشكلة فإنَّنا قد نجد أنفسنا نفاقمها ونخلق لأنفسنا الكثير من المعاناة على صعيد التفكير والعاطفة؛ وهذا يمكن أن يجعلنا غاضبين ومستائين على الدوام.

في بعض الأحيان، وعند التعامل مع شخص مُعقَّد يكون من الحكمة أن تتعاطف معه بدلاً من إطلاق الأحكام عليه، ابحث عن الراحة النفسية بتجنب محاولة السيطرة على الموقف أو محاولة اكتشاف سبب ما يفعله هذا الشخص، وسيكون مفيداً أن تدرك أنَّ سلوك هذا الشخص ربما يكون ناتجاً عن معاناته أو جهله.

وتذكَّر أنَّ الجميع - بمن فيهم هذا الشخص - يطمحون إلى الأشياء نفسها التي تطمح إليها، السعادة والأمان والسلام، وبغض النظر عمَّا إذا كانت الطريقة التي يسعون من خلالها إلى تحقيق ذلك تبدو حكيمة بالنسبة إليك أم لا.

إنَّ معاملتنا اللطيفة مع الآخرين مع مقاومة رغبتنا في الوصول إلى تفسيرات، غالباً ما تؤديان إلى تحسين الموقف أكثر بكثير مما يمكن لأي نشاط فكري تحقيقه في هذا السياق.

إنَّ تمنينا لهذا الشخص بأن يكون في أحسن حالاته - حتى لو لم نتمكن من فهم سلوكه - يمكن أن يجلب لنا الراحة، وسواءً كنا قادرين على إيجاد سبب للتعاطف مع هذا الشخص أم لا، إلَّا أنَّ تعاطفنا معه يكون بالدرجة الأولى تعاطفاً مع أنفسنا، فهو يخفف من عبء محاولة اكتشاف كل شيء، في الواقع، إنَّ الأشياء التي تجعلنا نشعر بتحسن هي قليلة مقارنةً بالأشياء التي يكون التخلي عنها أكثر فائدةً لنا.

تجعلنا المعرفة نشعر بمزيد من السيطرة والأمان، ولكن لن تكون هي الخيار الأفضل إذا كنا نبحث عن السلام الداخلي؛ لذلك حاول من الآن أن تستبدل رغبتك في فهم كل شيء إلى محاولة النظر إلى الأشخاص والأحداث على أنَّهم فرص.

حاول عدم السعي إلى فهم الأشياء؛ بل ركِّز فيما يجب أن تكون عليه في خضم الحدث، وحوِّل تركيزك من محاولة فهم السبب الذي يدفع الأشخاص إلى التصرف على هذا النحو وكيف يمكنك تغييرهم ليطابقوا فهمك للواقع، وركِّز بدلاً من ذلك في نفسك وما يجب أن تكون عليه في هذه الحياة.

شاهد بالفديو: 7 خطوات توصلك إلى السعادة

هذا التحول العميق يعني الانتقال من التركيز في شيء لا يمكنك التحكم به إلى شيء تمتلك فيه القوة والسيطرة ومن ثم ستشعر بمزيد من الحرية.

وما يجعل الأمر متناقضاً على نحو غريب هو أنَّه إذا كان تركيزك منصباً في محاولة تغيير العالم الخارجي عند مواجهة أي موقف صعب، فإنَّك لن تحقق الكثير من النجاح؛ وذلك على عكس محاولتك التركيز في سلوكك وعالمك الخاص؛ إذ ستحقق بهذا نجاحاً أكبر.

لا تحاول فهم المشكلات والوصول إلى تفسيرات عن سلوك الأشخاص؛ بل أَسقِط المشكلة والموقف على نفسك وتخيَّل كيف يجب أن تتفاعل وتتصرف لو كان ما يحدث في الخارج يحدث معك؛ وبذلك تضمن أنَّه حتى لو لم يتغير شيء في الخارج، فإنَّ عالمك الداخلي يتغير بناءً على التجربة الجديدة التي تعيشها. بهذه العقلية ستصبح كل التحديات فرصاً للتطور، ويمكنك من خلال ذلك اختيار الطريقة التي ستتفاعل بها مع أحداث الحياة.

إنَّ الاهتمام بحياتك الخاصة كجزء من الحياة عموماً لا يمكن إلَّا أن يؤتي ثماره، فهو يُحسِّن من نوعية تجربتك الشخصية حتى عندما لا يتغير شيء في الخارج.

في الختام، وعلى الرغم من أنَّ محاولة اكتشاف دوافع الأشخاص وفهم الأحداث قد تمنحنا المزيد من الشعور بالتحكم والأمان، إلَّا أنَّ ما نريده هو السلام؛ وهو ما لا نستطيع تحقيقه إلَّا بالتخلي عن محاولة إصلاح كل شيء.

المصدر




مقالات مرتبطة