كيف تستفيد من إمكانات دماغك الأيمن الإبداعية؟

ربَّما سمعت شخصاً يقول أنَّ "عقله يميني تماماً"، أو أنَّ "عقله يساري تماماً"؛ فقد انتشرت خرافة على مدى أكثر من قرن تقول: "يمتلك الناس نصفي كرة مخية في أدمغتهم؛ فإذا كان النصف اليساري هو النصف المهيمن، فيكونون أكثر قدرة على التحليل؛ أمَّا إذا كان النصف اليميني هو المهيمن، فيكونون أكثر إبداعاً".



لكن قبل أن نفضح زيف هذه الفرضية ونعطي بعض النصائح حول كيفية الوصول إلى المراكز الإبداعية في الدماغ، دعونا نتعرَّف على نشأتها.

فرضية تخصص جانب الدماغ الأيسر والأيمن:

اكتشف العلماء في القرن التاسع عشر أنَّ المرضى المصابين في جانب واحد من أدمغتهم يفقدون مهارات معينة، وربطوا هذه المهارات المختلفة بأحد جوانب الدماغ أو بالآخر، وبدأت من هنا الخرافة التي استمرت في الانتشار حتى يومنا هذا.

تولى "روجر.و. سبيري" (Roger. W. Sperry) في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إجراء 16 عملية لاستئصال الجسم الثفني الذي يربط بين نصفي الكرة المخية في محاولة منه لعلاج مرضى داء الصرع المُعمَّم؛ ونتيجة لتلك العمليات الجراحية، كتب سبيري حول الاختلافات بين نصفي الكرة المخية، وانتشر عمله في عام 1973 بسبب مقال حول فرضيته عن تخصص جوانب الدماغ في مجلة "نيويورك تايمز" (New york Times)؛ حيث افترض أنَّ الناس إمَّا أن يكونوا يميني الدماغ (أي منطقيين) أو يساري الدماغ (أي مبدعين)، وفاز عن بحثه هذا بجائزة نوبل، ونُشِرت له العديد من المؤلفات الأخرى عن خرافة نصف الدماغ الأيمن والأيسر.

كشف خرافة نصف الدماغ الأيمن والأيسر:

إن أمكننا قول شيء حول هذا الأمر، فسنقول أنَّ في فرضية تخصص جانبي الدماغ مبالغة جسيمة؛ إذ من الصحيح أنَّ الناس يمتلكون نصفي كرة مخية، ومن الصحيح أيضاً وجود اختلافات في تكوين هذين النصفين؛ إلَّا أنَّهما في الواقع أكثر ترابطاً بكثير ممَّا كانا يبدوان عليه في عمل سبيري الأول.

لقد أجرى العلماء في عام 2013 دراسة فحصوا من خلالها أكثر من 1000 دماغ بشري، وتحققوا من فرضية تخصص جانبي الدماغ، وأكدوا على أنَّ بعض وظائف الدماغ تحدث في الغالب في أحد نصفي الكرة المخية أو في الآخر؛ لكنَّهم قالوا أنَّ الدماغ في الواقع أكثر ترابطاً وتعقيداً ممَّا يبدو عليه في فرضية تخصص جانبي الدماغ الأيمن والأيسر.

إقرأ أيضاً: 22 حقيقة مذهلة عن دماغ الإنسان

مفهوم جديد لجانب الدماغ الأيمن والأيسر:

كيف نتجاوز خرافة الدماغ الأيمن والأيسر؟

دعونا أولاً نطَّلع على ما تقوله العلوم المعرفية الحديثة عن مناطق الدماغ، وعن أنماط التفكير الإبداعية والمنطقية؛ حيث أظهر تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI) أنَّ الأشخاص البارعين في الارتجال طوروا عند تدريبهم تغيرات مثيرة في نشاطهم العقلي، سواء كان ارتجالاً موسيقياً على البيانو أم في موسيقى الراب أم في الكوميديا؛ وقد لُوحِظ انخفاض في نشاط منطقة تُسمَّى قشرة الفص الجبهي الأمامية الظهرية الجانبية، كما لُوحِظ ازدياد في نشاط مراكز اللغة الإبداعية مثل منطقة قشرة الفص الجبهي الأمامي الأنسية.

ترتبط القشرة الظهرية الجانبية بالأفكار الواعية، وهي ذاك الصوت الداخلي الذي يخبرك ألَّا تقول شيئاً ما أو ينتقدك حين تفعل ذلك؛ أمَّا قشرة الفص الجبهي الإنسية، فتُعدُّ إحدى مناطق الدماغ المرتبطة بالإبداع؛ لذا، بدلاً من التفكير في الدماغ الأيمن والدماغ الأيسر، ربَّما يكون التفكير في مناطق دماغية محددة أكثر صحة من التفكير في جانبي الدماغ، وربَّما يكون من المفيد أكثر التفكير في نوع الأنشطة والاستراتيجيات التي تسمح لنا بتثبيط عمل منطقة قشرة الفص الجبهي الأمامية الجانبية الظهرية وتنشيط منطقة قشرة الفص الجبهي الأنسية لدينا.

كيف تعزز نشاطك الإبداعي في "نصف دماغك الأيمن"؟

سواء كنَّا نتكلم عن نصف الدماغ الأيمن مقابل نصف الدماغ الأيسر، أم عن الإبداع مقابل المنطق، أم عن منطقة قشرة الفص الجبهي الأنسية مقابل منطقة قشرة الفص الجبهي الأمامية الظهرية الجانبية؛ فنحن نعرف ما يكفي للحديث عن استراتيجيات للاستفادة من إمكانات دماغك الإبداعية كاملة.

الآن، وبعد أن دحضنا خرافة نصف الدماغ الأيمن والأيسر، وتحدثنا عن رؤوس أقلام عن نظرية علم الأعصاب المعرفي الأكثر حداثة والمتعلقة بمناطق الدماغ ومراكز الإبداع؛ فلنلقِ نظرة على كيفية الاستفادة من إمكانيات دماغك الإبداعية.

1. الفنون المسرحية:

إحدى طرائق الاستفادة من مراكز عقلك الإبداعية هي المشاركة في الفنون التمثيلية، سواء كانت الارتجال أم التمثيل أم الرقص؛ حيث تسمح لك الفنون التمثيلية بتجربة بدنية ستساعدك على تخطي نطاق أفكارك المعتادة والمنطقية، وتُغيِّر انتباهك.

إنَّ الانتباه والإبداع لا ينفصلان، فعندما نرتجل أو نمثل أو نرقص، علينا التركيز على زملائنا في أثناء التمثيل والانتباه إليهم؛ ويعني هذا أنَّنا سنضطر إلى التقليل من التركيز على أفكارنا الواعية والمنطقية، ممَّا يوفر لنا قدرة إنجاز أكبر على صعيد التفكير والتعبير الإبداعيين؛ كما يزيد التركيز المُكثَّف على الزملاء الذين يرتجلون أقوالهم وأفعالهم وعلى المَهمَّة المطروحة من احتمالية تجربتنا لحالة التدفق.

يعرِّف الدكتور "ميهايل تشيكسينت مهايلي" (Csíkszentmihályi Mihály) -أستاذ في علم النفس والإدارة- التدفق على أنَّه الحالة النفسية الأمثل التي تنتج عندما تتناسب مهاراتنا مع صعوبة المَهمَّة المطروحة، حيث يتغير إدراكنا للوقت عندما نختبر هذه الحالة ونصبح أكثر حضوراً ونعيش اللحظة في أثناء القيام بالنشاط المختار.

حالة التدفق هي حالة إبداعية، فهي عكس تجاوز الأرقام القياسية وإرغام أنفسنا على العمل لحل مشكلة من خلال التركيز على المناطق الواعية من دماغنا؛ لذلك، انهض أو ارتجل أو مثِّل أو ارقص من أجل الوصول إلى حالتك الإبداعية.

إقرأ أيضاً: التدفق الشعوري..الطريق إلى قمة الأداء

2. الفنون البصرية:

كتبت معلمة الفن "بيتي إدواردز" (Betty Edwards) كتاباً يُدعَى "الرسم بالاعتماد على الجانب الأيمن من الدماغ" (drawing on the right side of the brain)، حيث تقول فيه أنَّ تحوُّل انتباهنا يقودونا إلى مزيد من التفكير الإبداعي.

يقدِّم كتاب إدواردز حِيلاً تساعد طلاب الفنون على تغيير الطريقة التي يرون العالم بها، فمثلاً: يُشجِّع أحد التمرينات الطلاب على صنع انقلاب حرفي فيما يرسمونه، ويرغم هذا الفنانين الناشئين حرفياً على رؤية الموضوع بطريقة جديدة، ويسمح لهم بالتركيز أكثر على مكونات ونماذج الموضوع الفردية؛ ممَّا يمنحهم فرصة رسمه بطريقة أفضل.

إنَّ تغيير الطريقة التي نرى بها الأشياء هو طريقة أخرى تُمكِّننا من الوصول إلى مراكز الإبداع في أدمغتنا؛ لذا ابدأ برؤية الأشياء من منظور جديد أكثر إبداعاً.

3. إطلاق العنان لنفسك:

إذا كان هناك أمر واحد يثبِّط الإبداع ويقيِّده، فسيكون الإكراه؛ وربَّما شعرنا جميعاً بهذا الشعور الفظيع عند محاولة إرغام أنفسنا على أن نكون مبدعين؛ ذلك لأنَّنا حين نحاول ذلك، فإنَّنا نرغم مناطق الدماغ المنطقية على القيام بالوظيفة الإبداعية، ويشبه هذا أن تطلب من البستاني الذي يعمل في حديقتك أن يجري عملية جراحية لاستئصال زائدتك الدودية.

لذلك، توقف عن إرغام نفسك على القيام بهذا، وخذ استراحة، واذهب في نزهة طويلة أو خذ حماماً مريحاً، واترك لدماغك حرية التفكير؛ فمهما كان ما تفعله، توقف عن إرغام نفسك على القيام به، وخذ استراحة؛ ذلك لأنَّ هذا الوقت المستقطع يسمح لك بتركيز انتباهك على المراكز الإبداعية، ويجعلك تصغي إلى ما تمليه عليك.

4. ممارسة تأمل اليقظة الذهنية:

الحيلة الأخيرة للوصول إلى ما يُسمَّى "دماغك الأيمن" هي ممارسة تأمل اليقظة الذهنية، ويوجد الكثير من الطرائق المختلفة التي يمكنك اتباعها لتصل إلى حالة اليقظة الذهنية الكاملة.

يمكنك اتباع الطريقة الجسدية من خلال ارتياد درس يوجا، أو يمكنك محاولة التأمل لتصبح أكثر وعياً بأفكارك ومشاعرك وأكثر تناغماً معها، ويمكنك أيضاً دمج تمرينات اليقظة الذهنية الممتعة في روتينك اليومي، كحل بعض المشكلات والألغاز أو التظاهر بأنَّك المحقق الذي يجب أن يتحقق من الأشخاص والأماكن بدقة.

مهما كانت الطريقة التي تتبعها للقيام بذلك، يمكن لتمرينات اليقظة الذهنية والتدريب عليها أن يساعدك على أن تصبح أكثر دراية بكيفية عمل دماغك وما تبدو عليها عملية التفكير العادية اليومية؛ وإذا كنَّا نود الوصول إلى أفضل ما لدينا من إبداع، فعلينا أن نصبح خبراء في كيفية عمل وظائف دماغنا الفردية، وتأمل اليقظة الذهنية هو أحد الطرائق التي تجعلك خبيراً بدماغك.

توجد أيضاً فوائد إضافية لممارسة تأمل اليقظة الذهنية، مثل تهدئتنا وإبطاء تنفسنا ومساعدتنا على أن نصبح أدق في ملاحظاتنا، وهذه أيضاً طرائق رائعة لبدء الاستفادة من إمكانياتنا الإبداعية.

إقرأ أيضاً: انفوغرافيك: كيف تتأمل يومياً وتجعل من يقظة عقلك عادة يومية

أفكار أخيرة:

قد لا يكون من الصحيح أن نقول أنَّ دماغنا الأيمن هو دماغنا الإبداعي، لكن لا يزال من الصحيح أن نحاول تحسين مراكز الدماغ الإبداعية لدينا؛ والمفتاح للقيام بهذا هو الاسترخاء والاهتمام وتغيير منظورك وتحريك جسدك وتجربة أشياء جديدة؛ ولكن مهما فعلت، فلا تُرغِم نفسك على القيام بهذا.

يمكن للإبداع أن يكون مراوغاً، فقد يتخلى عنَّا عندما نكون في أمس الحاجة إليه؛ ولكنَّنا نستطيع عن طريق التمهل والنظر إلى الأشياء من منظور جديد أن نقدِّم لأنفسنا فرصة أفضل للاستفادة من إمكاناتنا الإبداعية؛ حتى وإن كان هذا لا يعني "دماغنا الأيمن" على وجه التحديد.

 

المصدر




مقالات مرتبطة