كيف تتوقف عن الإفراط في التفكير؟

إن كنتم تفرطون في التفكير، فستعلمون كيف تجري الأمور؛ تطرأ مشكلة على بالكم، على سبيل المثال؛ قلق بشأن الصحة، أو معضلة في العمل، ولا يسعكم التوقف عن التفكير بها؛ إذ تحاولون يائسين لإيجاد حلٍّ أو معنى. تدور الأفكار حولها ولكن عبثاً، ولسوء الحظ، نادراً ما تخطر في بالكم الحلول.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدونة والمعالجة "بيا كاليسين" (Pia Callesen)، وتُحدِّثُنا فيه عن التعامل مع الإفراط في التفكير.

في عملي اليومي بوصفي طبيبة في علم النفس السريري ما وراء المعرفي، واجهت العديد من الأشخاص الذين يحاولون إيجاد معنى أو أجوبة، أو يكونون في خضمِّ محاولة لاتخاذ القرار الصحيح، أو يمضون معظم أوقات يقظتهم وهم يبحثون في عقولهم بدقة عن حلول. ومن سخرية القدر أنَّهم في عملية اكتشاف طريقة التقدُّم بالحياة هذه، يتجهون إلى طريق مسدود.

حينما نقضي كثيراً من الوقت في تحليل مشكلاتنا ومعضلاتنا، فغالباً ما ينتهي بنا الأمر أن نصبح حائرين أكثر ممَّا كنَّا في البداية. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يؤدِّي الإفراط في التفكير بشكل دائم إلى مجموعة كبرى من الأعراض؛ كالأرق، وصعوبة التركيز، وفقدان الطاقة؛ الذي بدوره يؤدي في غالب الأحيان إلى مزيدٍ من المخاوف، بشأن الأعراض التي تظهر على الشخص، ومن ثمَّ خلق حلقة مفرَغة من الإفراط في التفكير. وفي بعض الحالات، يؤدي هذا في النهاية إلى الإصابة بالقلق المزمن، أو الإحباط.

حين يتصاعد الإفراط في التفكير والأعراض المرتبطة به ويصبح غير محتمل، فمن المعتاد بالنسبة إلينا أن نبحث عن طرائق لكي نهدأ. وتبدو العديد من الاستراتيجيات الشائعة منطقية أو مفيدة. ولكنَّ الأبحاث أظهرت أنَّها قد تُسبِّب - بشكل غير مقصود - ضرراً أكثر من المنفعة، وأنَّها تؤدي عادة إلى المزيد من الإفراط في التفكير. وقد تتعرَّفون إلى بعضٍ منها في سلوككم الخاص:

1. الاحتراس الدائم من التهديدات:

لا عيب في استعمال هذه الاستراتيجية، إن كنتم تشعرون أنَّكم متحكِّمون بها، لكنَّها قد تأتي بنتائج عكسية سريعة. خذوا المخاوف الصحية كمثال. فإن كانت هذه طريقة لتخفيف قلقكم، فستبدؤون بفحص أنفسكم، أو الأشخاص الذين تهتمون لأمرهم بإفراط، بحثاً عن إشارات مَرضية، ولن يؤدي رصد هذا التهديد إلَّا إلى زيادة الشعور بالخطر والمزيد من المخاوف المتعلقة بالصحة.

مثالٌ آخر: هو القلق بشأن حب الناس لكم، ومحاولة اكتشاف طريقة تفكيرهم بكم، الذي سيؤدي دون قصد إلى الانعزال، والقلق، وعدم التفاعل، وعدم القدرة على الاستمتاع بصحبتهم.

2. البحث عن أجوبةٍ وتطمينات:

من الطبيعي تماماً السعي إلى الحصول على قبول واستحسان الناس المُقرَّبين منكم، والبحث عن إجاباتٍ عن كيفية التعامل تعاملاً أفضل.

وعلى أي حال، إن وصلتم إلى مرحلة أصبحتم بها تعتمدون على هذه الاستراتيجيات لتهدئة أنفسكم وتخفيف قلقكم، فأنتم على منحدر زلق. فعلى سبيل المثال؛ يقضي بعض من عملائي ساعات عدة في اليوم وهم يبحثون على "غوغل" (Google) على أمل أن يجدوا الطمأنينة، أو على الأقل، تفسيراً بسبب شعورهم بالخيبة. ومع ذلك، فغالباً ما تؤدي هذه الاستراتيجية إلى مزيد من المخاوف؛ إذ إنَّ البحث في "غوغل" عن الأعراض المشترَكة نسبياً، يحمل تشكيلة واسعة من نتائج البحث، بما في ذلك تشخيصاتٍ لم تفكِّروا بها.

3. الإفراط في التخطيط:

لا توجد مشكلة في المستويات المعتدلة من التخطيط؛ فمن الصحي جداً الاحتفاظ بتقويم، أو تدوين الملاحظات لأنفسكم. ومع ذلك، يخطِّط بعض الناس حياتهم وصولاً إلى أصغر التفاصيل ويمكن أن يصبح هذا إشكالاً.

فبالإضافة إلى كونه مستهلكاً للوقت، فإنَّ زيادة التخطيط له آثار سلبية أخرى؛ كتفاقم المخاوف. فمثلاً، إنَّ القيام بالتخطيط بحذر، هو محاولة لتوقُّع كل الأشياء التي من المحتمل أن تدخل مع خطةٍ ما، وكيف يمكن فعلاً التعامل مع هذه الأحداث في حال حدوثها، ومن ثمَّ بدء عملية القلق. ويخطط الآخرون بدقة شديدة لأنَّهم يعتقدون أنَّهم لن يكونوا قادرين على التعامل مع الأحداث الطارئة، إن لم يفعلوا ذلك؛ وهذا يؤدي إلى المبالغة بالقلق حين لا يكون التخطيط ممكناً، أو عندما تطرأ أحداث غير متوقعة.

وبصرف النظر عن هذه الاستراتيجيات غير المفيدة، فهناك عامل أساسيٌّ آخر يمكن له أن يجعل من الإفراط في التفكير شيئاً دائماً؛ هو معتقداتكم حول التفكير. وإنَّ مصطلح "ما وراء المعرفي" في "العلاج ما وراء المعرفي" - الذي هو النهج السريري الذي أستعمله - يشير في الواقع إلى التفكير في التفكير.

عندما يبدأ عملائي بالعلاج ما وراء المعرفي، فإنَّ العديد منهم مقتنعون أنَّهم لا يملكون سيطرةً على عملية تفكيرهم. ويقتنع الكثير منهم أنَّ أفكارهم تظهر، وتجذب انتباههم أوتوماتيكياً، وأنَّهم لا يستطيعون التحكم فيما إن كانت تلك الأفكار ستتطوَّر إلى اجترار لمدة ساعة عن كم هي سيئة الأمور الآن، أو إلى مخاوف كارثية من الأشياء السيئة التي قد تحصل في المستقبل.

لديَّ بعض الأخبار السارَّة: لستم مضطرِّين للعيش مع زيادة في القلق. وإنَّها لخرافة مستمرة أنَّ الإفراط في التفكير هو سمة فطرية، مثل لون العينين، أو أصابع القدم العوجاء؛ وهذا يعني أنَّه لا يمكن تغييره وأنَّه عليكم بسهولة التعايش معه.

 اكتشف "أدريان ويلس" (Adrian Wells)، عالم النفس السريري في "جامعة مانشستر" (University of Manchester) الذي أسَّس العلاج ما وراء المعرفي، أنَّ الإفراط في التفكير؛ أي القلق والاجترار، هو استراتيجية مكتسَبة نختارها بوعي أو بغير وعي؛ كطريقة لمحاولة التعامل مع مشاعرنا وأفكارنا الصعبة. فهو ليس سمة ثابتة؛ بل عادة نكتسبها، ويمكننا أن نتعلَّم تغييرها إن أردنا ذلك.

خلال السنوات العشر الأولى لممارستي لطب النفس السريري، عملت على العلاج السلوكي المعرفي التقليدي، الذي يعلِّمنا أنَّنا بحاجة إلى قضاء الوقت مع أفكارنا ومعتقداتنا في سبيل تحدِّيها وتحويلها إلى نسخٍ أكثر واقعية. وحينما تعرَّفت إلى العلاج ما وراء المعرفي، الذي يكون به التركيز منصبَّاً على تجاهل أفكاركم بسهولة (والذي يدعوه "ويلس" مازحاً بـ "العلاج الكسول")، فقد غيَّر فهمي للأمراض العقلية تغييراً جذرياً.

 نشرت في عام 2020، إلى جانب "ويلس" وزملاء آخرين، نتائج تجربة عشوائية كبرى تضمَّنت 174 عميلاً يعانون من الاكتئاب. ووجدنا أنَّ أولئك الذين شاركوا في العلاج ما وراء المعرفي استفادوا أكثر من أولئك الذين خُصِّصوا لتلقِّي العلاج السلوكي المعرفي (استوفى 74% المعايير الرسمية للتعافي في مرحلة ما بعد العلاج، مقابل 52% من أولئك الموجودين في مجموعة العلاج السلوكي المعرفي، وقد حُوفِظ على هذا إلى حدٍّ كبير في المتابعة).

وإلى جانب عملي مع العملاء وتجارب المعالجين الآخرين باستعمال العلاج ما وراء المعرفي، فقد أقنعَتني هذه النتيجة أنَّ سبب المرض العقلي ليس أفكارنا السلبية بحدِّ ذاتها، ومن ثمَّ، فإنَّ الحلَّ يكمن بعدم إنفاق المزيد من الوقت عليها؛ بل على العكس، فإنَّ سبب الأمراض العقلية، هو الوقت الكبير الذي نقضيه بالتفكير في أفكارنا السلبية؛ وبذلك فإنَّ الحلَّ يكمن بقضاء وقتٍ أقل بالتفكير فيها.

خلق هذا الإدراك موجةً هائلةً من الأفكار في ذهني. وقد ساعدتُ عملائي لسنوات من خلال العلاج السلوكي المعرفي، في قضاء المزيد من الوقت على أفكارهم السلبية. ولكن ماذا لو كانت هناك طرائق أفضل كان بإمكاني أن أساعدهم من خلالها؟

صحيح أنَّ العديد من عملائي شعروا بأنَّ العلاج السلوكي المعرفي ساعدهم (وهو مفيد للكثيرين بكل تأكيد)، لكنَّني لم أعد أعتقد أنَّه النهج الأمثل. وفي خلال السنوات العشر الماضية، غيَّرتُ أساليبي تماماً، وأصبحت أستعمل العلاج ما وراء المعرفي حصراً لمساعدة الناس على التفكير بشكل أقل، ومن ثمَّ التأقلم بشكل أفضل مع مشكلات صحتهم العقلية.

سواء كنتم قلقين مما تريدون، أم كنتم تعانون من اضطراب القلق أو الاكتئاب، فيمكن للاستراتيجيات ما وراء المعرفية أن تساعدكم على تقليل الإفراط في التفكير الذي يساهم في ظهور أعراضكم؛ إذ يدور العلاج ما وراء المعرفي حول اكتشاف أنَّه يمكنكم اختيار ما إذا كنتم تنشغلون بفكرة أو لا، بغض النظر عن محتواها أو المشاعر التي تثيرها.

في القسم التالي، أُعلمكم بعض الخطوات التي أستعملها في العلاج ما وراء المعرفي لمساعدة عملائي على تقليل وتيرة تفكيرهم، ولأعلمكم أنَّ الإفراط في التفكير ليس شيئاً يحدث لنا عبثاً؛ بل إنَّه تحت سيطرتنا.

شاهد بالفديو: 7 طرق تمنع بها نفسك من الإفراط في التفكير

ما الذي يجب فعله؟

1. التعرف إلى الأفكار المحفِّزة والسماح بها:

تشير التقديرات إلى أنَّ الدماغ البشري ينتج الآلاف من الأفكار المنفصلة، والترابطات والذكريات يومياً. وإنَّ أغلب هذه الأشياء لا معنى لها، تأتي وتذهب دون أن نلاحظها. ومع ذلك، فإنَّ بعض الأفكار تجذب انتباهنا. ويشار إلى هذه الأفكار في العلاج ما وراء المعرفي باسم "الأفكار المحفِّزة" التي إن انتبهتم إليها بما يكفي، فيمكن لها أن تحفز انفجار الأحاسيس الجسدية والمشاعر، وعدداً لا يُحصى من الترابطات.

يمكن لبعض الأفكار المحفِّزة أن تنشِّط الدفء والفرح بشأن مشروعٍ مثيرٍ قادم، أو مقابلة صديقٍ، أو عطلةٍ تتطلَّعون إليها. كما إنَّ هذه الأنواع من الأفكار المحفِّزة ليست مشكلة بكل تأكيد، ولكنَّها مع ذلك، تنشِّط سلسلة طويلة من الأفكار الأخرى التي يمكن أن تتطوَّر إلى مخاوف أو اجترار أفكار.

عادةً ما تتشكَّل المخاوف من السيناريوهات الافتراضية، وتبدأ بعبارات "ماذا لو..." مثل: "ماذا لو اتخذتُ القرار الخاطئ " أو "ماذا لو لم يحبُّوني؟" أو "ماذا لو مرضتُ؟" وهلمَّ جرَّاً. وأما من ناحيةٍ أخرى، فيبدأ الاجترار النموذجي بالأفكار حول ماذا ولماذا وكيف: "ما هو خطبي؟" أو "لماذا أشعر هكذا؟" أو "كيف يمكنني أن أصبح أفضل؟".

يمكنكم تشبيه هذه الأفكار بالقطارات في محطة قطارات مزدحمة. وهناك دائماً مغادرون إلى مجموعةٍ واسعةٍ من الوجهات المختلفة. ويمثِّل كل قطار فكرة أو سلسلة من الأفكار. فعلى سبيل المثال؛ يمكن لفكرة "ماذا لو لم يحبُّوني؟" أن تصل إلى منصة السكة الحديدية العقلية. يمكنكم "اللحاق" بالفكرة وستلاحظون سريعاً انضمام العديد من الأفكار الأخرى: "لن أكون قادراً على التعامل مع الأمر إن لم أعجبهم"، "لربما، إذاً، لا يجب عليَّ الذهاب". أو بإمكانكم رفض الفكرة، والأمر شبيه بترك القطار يفوتكم، والعودة إلى ما كنتم تفعلونه.

فعندما لا تصرفون الطاقة على فكرة، فستجدون أنَّها إما ستبقى على المنصة لوقتٍ لاحقٍ، أو أنَّها ستفوتكم بسهولة؛ لذلك، فإنَّها ليست الفكرة المحفِّزة التي تؤدي إلى إرباككم وتعريضكم لمجموعةٍ متنوعةٍ من الأعراض البغيضة، ولا مقدار الأفكار المحفِّزة التي تملكونها (فكل شخص يملك منها)؛ بل تنشأ المشكلات إن قمتم بالركوب في كل قطار ركوباً مستمراً؛ أي إن بدأتم بتحليل الأفكار وانشغلتم في قلق، أو اجترار مفرط. فحينها يصبح الأمر كما لو أنَّكم تضيفون المزيد والمزيد من العربات إلى القطار، واحدة تلو الأخرى. فيصبح القطار أثقل وأبطأ، ويواجه في النهاية مشكلة في العبور من أدنى تل.

وينطبق الأمر ذاته على أفكاركم المحفِّزة: فكلَّما زاد الوقت الذي تقضونه في هذه الأفكار، شعرتم بالبطء والثقل.

إقرأ أيضاً: ما أهمية ممارسة التعاطف مع الذات للتغلب على اجترار الأفكار؟

2. معرفة ما يمكن وما لا يمكن التحكُّم به:

إن كنتم معتادين على ركوب معظم القطارات بطريقة تفتقر للتمحيص، التي تعني الانغماس المستمر في الأفكار المحفِّزة، والبدء بالقلق والاجترار لفترات طويلة؛ فإذاً أنتم في طريقكم نحو تطوير نمط غير صحي. وإن قمتم بتكرار هذا النمط مراراً وتكراراً، فقد تشعرون كما لو أنَّه يحدث تلقائياً. وتعتقدون - اعتقاداً مفهوماً - أنَّه خارج عن إرادتكم.

صحيح، إنَّ الأفكار المحفِّزة بحد ذاتها تلقائية تماماً، فأنتم ليس لكم أي رأي بشأن القطارات التي سوف تصل إلى محطة قطارات عقلكم. ومع ذلك، لديكم الخيار بشأن القطارات التي تركبونها. فأنتم تستطيعون اختيار ما إن كنتم تريدون الانخراط في فكرة محفزة أو لا. ويمكنكم التحكُّم فيما إن كنتم "تجيبون" على الفكرة أو تتبعونها بمزيد من الأسئلة.

في محاولة لفهم هذا فهماً مختلفاً، وليس من منظور القطارات، يمكن لكم تخيُّل أفكاركم على أنَّها شخص يتصل بكم على الهاتف. وأنتم لا تقرِّرون ما إن كان الهاتف يرنُّ، أو مَن يتصل؟ أو متى يتصل؟ ولسوء الحظ، ففي هذه الحالة، إنَّ الهاتف ليس من النوع الذي يمكنكم إيقاف تشغيله، ولكنَّكم تختارون ما إن كنتم تريدون الرد على الهاتف، أو تركه يرنُّ، وأن تعيدوا انتباهكم إلى ما كنتم تفعلونه.

قد يكون صوت الهاتف مرتفعاً ومزعجاً ويجذب انتباهكم، ولكن ماذا يحدث إن تركتموه؟ سيتوقَّف عن الرنين في النهاية. صحيح، إنَّ الأفكار والهواتف مختلفة، ولكنَّ هذه الاستعارة تحمل رسالة مفتاحية في العلاج ما وراء المعرفي. وصحيح، إنَّ الأفكار المحفِّزة خارجة عن إرادتكم، ولكن يمكنكم التحكُّم في التعامل معها أو لا.

إنَّ الأفكار - من حيث المبدأ - سريعة الزوال، على الرَّغم من أنَّكم قد لا ترونها هكذا. فاسألوا أنفسكم عن كمِّ الأفكار التي راودتكم بالأمس، والتي يمكنكم تذكُّرها اليوم. لأكون صادقاً، من بين آلاف الأفكار التي راوَدتني، لستُ متأكِّداً من مقدرتي على تذكر 10 أفكار.

لماذا هذا؟ لأنَّ معظم الأفكار التي تراودنا، وتذهب على الفور تقريباً، لا نمنحها أي اهتمام خاص؛ بل نتركها ونعود إلى ما كنَّا نقوم به أيَّاً كان هذا الشيء. مع أنَّكم لا تكونون على علم بذلك، فإنَّكم قادرون بالفعل على اختيار عدم الاستغراق في محادثة مع أفكاركم، تماماً مثلما يمكنكم تجاهل الهاتف الذي يستمرُّ بالرنين.

شاهد بالفديو: نصائح للحد من التفكير بسلبية

3. تأجيل المخاوف وعملية اجترار الأفكار إلى وقت لاحق:

يكافح العديد من مفرطي التفكير المزمن، لتغيير اعتقادهم أنَّ أفكارهم قابلة للسيطرة، وربما ما زلتم غير مقتنعين بذلك. تتمثَّل إحدى طرائق تحدي معتقداتكم أكثر في اكتشاف ما إن كان يمكنكم تأجيل الهموم واجترار الأفكار. وأنا أُوصي أن يستعمل العملاء ما يُسمَّى بـ "وقت القلق/ الاجترار". فلا بدَّ أن يكون وقتاً محدداً من اليوم؛ من السابعة والنصف حتى الثامنة مساء على سبيل المثال؛ إذ تسمحون لأنفسكم بالقلق واجترار الأفكار بحرية.

وبهذه الطريقة، عندما تُستثار الأفكار المحفزة أو المشاعر خلال النهار على سبيل المثال، وعندما تشعرون بالحاجة إلى تقييم صحتكم، أو تُفكِّروا فيما يعتقد أصدقاؤكم عنكم، أجِّلوا هذه الأفكار إلى "وقت القلق/ الاجترار" المجدوَل الخاص بكم (بإمكانكم أن تقولوا لأنفسكم: "سأتعامل مع هذا لاحقاً"). وإنَّ هذا الوقت المحدد مفيد أيضاً لأي تخطيط، أو التماس طمأنينة تشعرون بالحاجة إليه، ولكن هناك ملاحظة عليكم الانتباه إليها، وهي: أنَّه من الأفضل لكم تجنُّب جدولة وقت القلق قبل ساعةٍ أو ساعتين من وقت خلودكم للنوم، خاصةً وإن كنتم عرضة للأرق أو غيره من صعوبات النوم.

وإنَّ استعمال وقت محدد للقلق والاجترار يخدم وظائف عدة. أولاً، إنَّه تجربة تتحدى الاعتقاد بأنَّ الهموم واجترار الأفكار لا يمكن السيطرة عليهما؛ إذ وجد معظم عملائي عند تكريس أنفسهم لهذه التجربة، أنَّه من الممكن تأجيل المخاوف أو اجترار الأفكار. ومع أنَّ هذا يبدو هدفاً صعباً، فإنَّه في الواقع شيء تفعلونه يومياً دون أن تدركوا ذلك.

فعلى سبيل المثال، يمكن أن تلاحظوا في أي وقت عنوان جريدة ينذر بالخطر، في طريقكم إلى العمل وتبدؤون بالقلق، ولكن بعدها تذكرون أنَّكم في عجلة من أمركم، فلذلك تعيدون انتباهكم إلى الذهاب للعمل؛ وهذا يعني أنَّكم تتحكمون بأفكاركم. أو ربما تكونون جالسين في مقهى مع صديق وتسمعون محادثة على طاولة أخرى تثير ذكرياتٍ مزعجة، فتقرِّرون إعادة توجيه انتباهكم إلى محادثتكم مع صديقكم. مرَّة أخرى، ها أنتم تتحكَّمون بأفكاركم.

وبالطريقة ذاتها يمكنكم تعلُّم تجاهل أفكاركم الداخلية المحفزة بوعي، ومن ثمَّ تجربة شعور أنَّ لديكم خياراً فيما إن كنتم ستختارون الانخراط فيها أو لا.

إنَّ الوظيفة الثانية لتحديد وقتٍ لـ "القلق/الاجترار" هي طريقة اكتشاف أنَّ الأفكار المحفزة سريعة الزوال ودائمة التغيير. فعلى سبيل المثال؛ إنَّ الأفكار التي بدت ذات صلة وهامة للغاية في الصباح ستبدو أقل أهمية حينما ستصلون إلى وقت "القلق/ الاجترار" في وقت لاحق من اليوم. وقد تكتشفون حتى أنَّه لا يمكنكم تذكُّر بعض الأفكار التي قامت باستثارتكم. وإنَّ جميع المشاعر، سلبية كانت أم إيجابية، عادةً ما تكون سريعة الزوال إن تساهلنا معها وسمحنا بها.

لا تختفي كل الأفكار إلى الأبد حين تقومون بتأجيل معالجتها، وتكون بعض الأفكار حول قضايا هامة تحتاجون إلى معالجتها. بغض النظر، يجد معظم عملائي أنَّه من المفيد أكثر بكثير أن يتم التعامل مع هذه القضايا ضمن وقت محدد من النهار بدلاً من حل المشكلات إلى ما لا نهاية في أثناء محاولتكم التعامل مع مسؤولياتكم اليومية.

في النهاية، وبينما قد يبدو ذلك جلياً، فإنَّ وقت "القلق/ الاجترار" هو وسيلة لتقليل واحتواء مقدار الوقت الذي تقضونه في القلق والاجترار. كما أوضحتُ سابقاً، فإنَّ الأفكار المحفزة بحدِّ ذاتها لا تسبِّب أعراضاً مزعجة، ولا مقدار هذه الأفكار المحفزة؛ بل إنَّ الوقت الذي نقضيه في الانخراط بهذه الأفكار، والاجترار والقلق، هو ما يثقل كاهلنا. ومن خلال تخصيص فترة زمنية محددة للقلق والاجترار، فمن المرجح أن تشعروا بالسيطرة وأن تمنعوا أنفسكم من الوقوع في الارتباك.

إقرأ أيضاً: 5 خطوات لتحدّي الخوف واكتساب الثقة بالنفس

4. تفادي التهرُّب من الأفكار المحفِّزة، والتدرُّب على التركيز:

بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعانون من وطأة الإفراط في التفكير، من السهل جداً شعورهم بالخوف من أفكارهم المحفزة. فبعد كل شيء، إن كنتم تشعرون أنَّكم تحت رحمة هذه الأفكار، فقد تميلون إلى تجنب حدوثها في المقام الأول.

لسوء الحظ، إنَّ هذا ليس عديم الجدوى إلى حدٍّ كبيرٍ؛ بل إنَّه يأتي بنتائج عكسية أيضاً، فإنَّ تجنُّب إثارة المواقف يعوق حياتكم، إعاقةً كبرى، ومع مدى نجاحكم في تجنُّب المواقف التي تحثُّ الأفكار المحفزة، فلن تحصلوا على فرصة للتدرب على التخلِّي عن هذه الخواطر. فبعد كل شيء، لا يمكنكم تعلُّم ركوب الدراجة من دون دراجة.

بناء على ما سبق، وإن كنتم تشعرون بأنَّكم جاهزون، فإنَّني أوصي بأن تُحدِّدوا لأنفسكم تحدياتٍ يومية تنطوي على الأفكار المحفزة، وأن تتدرَّبوا على عدم مواجهتها لحين الوصول إلى وقت القلق المحدَّد. سيساعدكم هذا على أن تصبحوا أكثر مهارة في تجاهل أفكاركم المحفزة وأن تدركوا أنَّكم تتحكَّمون في مخاوفكم واجترار أفكاركم. لن تنجحوا في كلِّ مرة، ولكن - مثل تعلُّم ركوب الدراجة - تحتاجون إلى النهوض مجدَّداً في كلِّ مرةٍ تسقطون فيها، وأن تستمروا في ركوب الدراجة إلى أن تتقنوا ذلك.

يكافح بعض الناس لتطوير هذه المهارة. وفي هذه الحالة، نستعمل في العلاج ما وراء المعرفي (التدريب على الانتباه) لمساعدة العملاء على إدراك قدرتهم على تحويل انتباههم بغض النظر عن المدخلات الداخلية؛ مثل الأفكار المحفزة، والمدخلات الخارجية؛ كالضغوطات الخارجية. وعادةً ما أطلب من عملائي القيام بتمرين الـ 10 دقائق التالي. ولربما ستُلهمكم قراءة هذا على تجريب ذلك بأنفسكم:

  • تشغيل ثلاث أصوات بيئية أو أكثر، مثل: الزحام، صوت العصافير، ثرثرة من راديو أو تلفاز قريب، أطفال يلعبون، أعمال بناء أو غير ذلك. وعليكم أن تجدوا أي مكان تكون هذه الأصوات المحيطية مستمرة. ويساعدكم إن كانت بعض الأصوات التي تختارونها قريبة وأعلى صوتاً، بينما تكون الأصوات الأخرى أبعد وأخفت.
  • من بين الأصوات الثلاثة أو أكثر التي قمتم باختيارها، تدرَّبوا على الانتباه إلى صوتٍ واحدٍ لما يقارب الـ 10 ثوانٍ (يمكنكم استعمال مؤقِّتٍ رقمي لمساعدتكم) واسمحوا للأصوات الأخرى بأن تتلاشى في الخلفية. وبعد مرور 10 ثوان، وجِّهوا تركيزكم إلى صوت آخر من أصواتكم المختارة.
  • تكرار التمرين بعد دقيقتين، ولكن مع تبديل أسرع بين الأصوات، ركِّزوا الآن على كل صوت لمدة ثانيتين إلى أربع ثوانٍ فقط لكل صوت.
  • إنَّ الهدف من هذا التمرين هو أن تصبحوا معتادين على تحويل انتباهكم وأن تبرعوا في ذلك. وحينما تشعرون بثقة أكبر يمكنكم استعمال تسجيل لفكرة محفزة في التمرين، وأن تتدرَّبوا على تحويل انتباهكم بعيداً عن صوت تلك الفكرة.

هناك تمرين آخر يمكنكم تجربته وأنا أستعمله في عيادتي؛ الذي هو تمرين زجاج النافذة، الذي يوضِّح توضيحاً كبيراً أنَّ انتباهكم تحت سيطرتكم، بغض النظر عن وجود الأفكار المحفزة في رؤوسكم.

أنا أكتب فكرة أو اثنتين من الأفكار المحفزة بحبرٍ قابلٍ للإزالة على النافذة؛ مثل: "ماذا لو فشلتُ في اختباري للقيادة؟" أو "ماذا لو وجدتُ بأنَّني مملٌّ؟" ومن ثمَّ أطلب من موكِّلي أن يتدرَّب على النظر من خلال الكلمات لملاحظة المشهد الذي ورائها؛ الأشجار، والسماء، والأبنية، وغير ذلك من المناظر وراء النافذة، ثمَّ أطلب منهم إعادة انتباههم إلى الكلمات مرة أخرى، ومرة أخرى لتفاصيل المنظر؛ الغرض هنا هو جعل الإحساس بأنَّنا نستطيع التحكُّم بانتباهنا مألوفاً لدى العملاء.

وإن جربتم ذلك، فستجدون أنَّه بينما تظلُّ الأفكار المكتوبة ظاهرة في المنظر، يمكنكم التحكُّم فيما إن كنتم تركِّزون عليها أو تتركونها تتلاشى وتستمتعون بالعالم في الخارج بدلاً عن ذلك.

المصدر




مقالات مرتبطة